مقاربتان تتجاذبان
التفكير العلمي المعاصر: المقاربة التحليلية (Approche analytique) والمقاربة
الشاملة (Approche systémique ).
في كتابه "الرؤيا
الشاملة" (Macroscope, p. 19)، يقارن
جُويل دي روسناي المقاربتين:
1.
المقاربة التحليلية:
-
تعزل العناصر وتركز عليها.
-
تعتمد على الدقة في
التفاصيل.
-
تبدّل متغير واحد في
الوقت نفسه.
-
مقاربة ناجعة عندما تكون
التفاعلات خطية وضعيفة.
-
تؤدي إلى التعليم
التقليدي، يعني كل مادة تعليمية على حِده.
2.
المقاربة الشاملة:
-
تربط العناصر وتركّز على
التفاعلات بينها.
-
تعتمد على الإدراك الشامل
للمسألة والرؤية من كل الجوانب، ولا تهمل أي زاوية من الزوايا مهما كانت ضعيفة.
-
تبدّل مجموعات من
المتغيرات في نفس الوقت.
-
مقاربة ناجعة عندما تكون
التفاعلات غير خطية وقوية.
-
تؤدي إلى التعليم الحديث
عبر تعّلمات المواد المشتركة مثلا الربط والجمع في قسم واحد وفصل واحد بين تدريس الفيزياء
وتدريس علوم الحياة والأرض.
تكمن
نجاعة المقاربة التحليلية السببية الخطّية في بساطتها وسهولة استعمالها،
فهي مريحة ومطمْئِنة للإنسان لأنها ترسم علاقة خطّية مباشرة بين السبب والنتيجة,
مثلا: المرض نتيجة الجراثيم (قد يكون نتيجة دواء
مثل مضادات
الالتهاب) والسمنة نتيجة كثرة الأكل (قد تكون نتيجة قلة الحركة) والسلوكيات نتيجة
الجينات (قد تكون نتيجة التفاعل بين الجينات والمحيط).
رغم
بساطتها أسهمت المقاربة التحليلية في تطوّر العلوم التجريبية كعلم الجراثيم وعلم
الوراثة، لكنها أصبحت الآن عاجزة بمفردها عن تفسير بعض الظواهر المعقدة، بل أصبحت
عائقا في وجه التعلم لأنها تختزل العلاقة في سبب ونتيجة وتنسى أو تتناسى العلاقة
الجدلية بينهما: مثلا: المخ يؤثّر في
السّلوك، والسلوك يؤثّر في المخ, المعلم يعلّم التلميذ ويتعلّم منه، الإنسان يلوّث
المحيط والمحيط الملوَّث يضرّ بصحة الإنسان، الخ.
يعتمد
بعض مدرّسِي البيولوجيا في تدريسهم لعلم الوراثة على المقاربة التحليلية السببية
الخطّية فقط. وفي هذه الحالة تؤدي المقاربة الخطية إلى القبول بنظرية الحتمية
الوراثية التي تؤكد أن كل جينة تحدِّد مسبقًا صفة ما. ونحن نعرف أن الكائنات الحية
معقدة بطبيعتها وكل عناصرها البيولوجية الداخلية متفاعلة فيما بينها ومتفاعلة في
الوقت نفسه مع المحيط الخارجي. إذا كانت الحياة معقدة بطبيعتها، فهل يمكن أن يكون
تدريسُها بسيطًا؟ اذا كان هذا التبسيط من أجل الضرورة البيداغوجية فالنتيجة عكسية
لأن المعلومة غير العلمية ترسخ في ذهن التلميذ مثل المعلومة العلمية ويصعب تصحيحها
في ما بعد كما ذكرت في مقالي السابق "التصورات الخاطئة لا تزول بسهولة".
عندما
يعتمد المدرّس المقاربة التحليلية الخطية يجد نفسه مجبرا على تبسيط الشبكات
المعقدة:
نأخذ مثلا علاقة الجينات بالصفات, صحيح أن لون العينين وفصيلة الدم صفتان
محددتان مسبقا تماما بالوراثة وصحيح أيضا أن كثيرا من صفاتنا الشكلية كلون البشرة
والسمنة وغيرها مكتوبة بصفة رمزية في الجينات لكن يجب علينا أن لا ننسى دور المحيط
في تشكيل هذه الصفات فالأسمر تزيد سمرته أو تنقص حسب بيئتة، والسمنة مرتبطة بالحمية
والحركة. لا يكمن الرهان على التحديد المسبق للصفات الجسمية الدنيا مثل لون البشرة
بل يتمثل الرهان في تعميم هذه الحتمية الجينية على القدرات الذهنية فتصبح أفعال
المرء وسلوكياته الاجتماعية نتيجة عوامل وراثية لا سلطة للمرء عليها مثلما يحاول
بعض العلماء إيهامنا بأنهم اكتشفوا جينة إدمان الكحول وجينة الشذوذ الجنسي وجينة
العنف وجينة الذكاء وحتى جينة الأيمان بالله (مجلة الحياة والعلم Science &
Vie عدد
1055 أوت 2005)، وقد أنتجت هذه المقاربة الخطّية في علم الوراثة إطارا للتفكير
(براديقم paradigme) يُسَمَّى "الكل
الوراثي" (paradigme du tout génétique) الذي هيمن على التفكير عشرات السنين لكن هنري اتلان، المنظِّر في
البيولوجيا، تنبأ بانهياره في كتابه "نهاية
الكل الوراثي؟ نحو براديقمات جديدة في البيولوجيا"، الصادر في باريس سنة 1998.
تكمن غيرُ عِلمية
هذا الإطار للتفكير المسمى "الكل وراثي" في تأليه الجينات والتسليم
بنتائجها, فالذكاء والصحة هبة منها والمرض والعنف قدر مسلط منها. قد ينتج عن هذا
النسق عديد المواقف غير العلمية, فيصبح
العنف والمرض والذكاء وراثيا وليس وراثيًّا-مكتسبا من التفاعل بين الجينات والمحيط
المادي والاجتماعي. يبدو أن هذا البراديقم
المتسربل بالعلم ليس حياديا لأنه يُغلّب،
في تفسيره للصفات الإنسانية، الجانب الو راثي على الجانب المكتسب. قد يؤدي الاعتماد
على هذا البراديقم لتفسير أسباب المشاكل الاجتماعية كالعنف والفشل الدراسي وتعاطي
المخدرات إلى الاقتصار على العوامل الوراثية فقط وإهمال العوامل الاجتماعية
المكتسبة.
خلاصة
القول:
يتمثل تدريس
البيولوجيا في تفسير الظواهر الطبيعية المعقدة والتركيز على التفاعلات التي تقع
بين عناصرها المتعددة لذلك يحتاج المدرّس إلى الاستعانة بالمقاربتين, التحليلية والشاملة,
لأن كل واحدة منها تكمّل الأخرى.
يُعتبر مفهوما
التفاعل والتعقيد (l’interaction et la complexité) مفهومان مهمان في العلم، مفهومان يكملان مفهومَي الخطّية
والتبسيط (la linéarité et la simplification) ويؤسسان لِـبراديقم علمي
جديد. هذان المفهومان الجديدان قد لا يُسهّلان فك رموز مسألة علمية ما، بل على العكس
قد يعقِّدانها، لكن في نفس الوقت قد يضعانها على الطريق السليم للوصول للحل
العلمي. خذ مثلا الذكاء, فهو "وراثي %
100 ومكتسب% 100" حسب المقولة الشهيرة لعالم الوراثة المشهور
بنضاله الاجتماعي ومساندته العلنية لفاقدي السكن القار، العالم الجيني، "ألبير
جاكار". نرث عن والدينا مُخًّا بشريا يتكون تقريبا من 100 مليار خلية عصبية. تقع
داخل كل خلية مليارات من التفاعلات الكيميائية. الخلية ليست بمعزل عن محيطها فهي
تتبادل معه مليارات من العناصر الكيميائية المتغيرة باستمرار. كل خلية قادرة على
ربط 10 آلاف وصلة عصبية مع مثيلاتها. نكتسب من خلال تفاعلنا مع المحيط وحسب
تجربتنا الشخصية مليون مليار وصلة عصبية. تبنيها أو تعيد بناءها خلايانا المخية بعد الولادة. لنعلم أن عدد الجينات
عند الإنسان حسب آخر إحصاء سنة 2001 لا يفوق 30 ألف جينة. نسبة % 98,9 منها مكررة أو صامتة أي لا دور معروف لها الآن و
نسبة 1,1 % فقط صالحة لصنع
البروتينات. نصل إلى الاستنتاج التالي: النموذج التحليلي السائد "جينة واحدة تبرمج
لصنع بروتينة واحدة" لم يعد قادرا
وحده على تفسير وجود عشرات الآلاف من البروتينات ومليارات الوصلات العصبية ومليارات
الأجسام المضادة المكونة لمناعة الجسم المتطورة والمتجددة حسب تعرض الجسم لمضار
الأجسام الدخيلة من جراثيم وبروتينات دخيلة وجزيئات معدنية ملوثة.
أختم هدا
المقال بطرح الإشكالية التالية: كيف نُدْرِجُ المقاربة الشاملة في كل مستويات
التعليم التونسي حتي لا تطغى المقاربة التحليلية وحدها على التفكير العلمي؟
إمضائي
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
تاريخ أول نشر على النات: حمام الشط في 29 نوفمبر 2008.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire