1.
المبادرة الأولى في جينيف
كان أستاذنا الكبير
"أندري جيوردان" يدرّس أطباء
المستشفى مادة تعلّمية البيولوجيا (La
didactique de la biologie) وعند أول درس و في آخر النهار،
يسحب أستاذنا طلبته الأطباء إلى حاويات مهملات المستشفى الذي يشتغلون فيه،
يفتشونها بأيديهم بكل اهتمام وجدية، يرتّبون الأدوية غير المستعملة الملقاة فيها
ويقارنوها بالأدوية التي وصفوها لمرضاهم في نفس اليوم. و يا لخيبة الأمل، يكتشف
الأطباء المجتهدون أن المرضى لم يقتنعوا بعلاجاتهم ورموا جل الأدوية الموصوفة أو
كلها في سلة المهملات حتى يتخلصوا منها ومن هنا تُطرح إشكالية الدرس: لماذا لا
يستعمل المريض دواءه الذي وصفه له الطبيب؟ هل لعدم نجاعته؟ هل لتعقيد في استعماله؟
هل خوفًا من الأعراض الجانبية؟ هل لعدم ثقة في طبيبه؟
عند الدرس الثاني، يواجه
الأستاذ طلبته بما أنتجه مرضى السرطان من تصورات علمية وغير علمية تصف مرضهم لحظة
بلحظة، يتصفح الطلبة ما أنتجه هذا النوع من الأساتذة الجدد الذين لم يروا مثلهم في
الجامعة فيندهشون لغزارة المعارف ودقة الوصف الذي لا يقدر عليه غير المرضى مهما
علت شهائد الطبيب الأكاديمية. هل يمثل المريض وعاءً فارغًا يملؤه الطبيب بما يشاء؟
هل يمثل المريض صفحةً بيضاءَ يخط عليها الطبيب وصفته؟ هل المريض يَعْلَمُ حول مرضه
الشخصي أشياءً لا يعلمها طبيبه المباشر؟ هل الطبيب المختص في عضو فقط قادر على
علاج هذا العضو في المريض دون الاهتمام بالأعضاء الأخرى؟ هل يحق للطبيب فرض علاجه
على المريض؟ هل يحق للمريض رفض علاج طبيبه؟ هل يحق للمريض التدخل في كيفية علاجه
وتوقيته؟
أستغل هذه الفرصة و ألفت نظر
القارئ إلى اهتمام العالم المتقدم بهذا العلم الجديد - تعلّمية البيولوجيا أو
فلسفة تعليم البيولوجيا- و تعميم تدريسه في كل الاختصاصات وليس في التعليم الجامعي فقط وانظر كيف نهمله نحن في تونس ولا
نوليه أية أهمية ولا ندرّسه حتى لأساتذة المستقبل، لا بل نهمله ونتركه لغير أهل الاختصاص يشوهونه
عن جهلٍ.
2.
المبادرة الثانية أيضا في جينيف
حدثت مع نفس الأستاذ المبدع
"أندري جيوردان" الذي ورث مهمة ومنصب العالم المشهور "جان
بياجي" في مخبر الإبستومولوجيا بجينيف. بينما كان الأستاذ يقوم بدرس علمي
داخل مخبر العلوم، إذ بمهرج "كلون" يقتحم القسم ويقوم بحركات بهلوانية
فيضحك التلامذة ويمرحون مع الممثل لمدة ربع ساعة. يغادر المتطفل خفيف الظل -
المبرمَج من قبل الأستاذ- القاعة ويرجع التلامذة إلى الجد والعمل بروح يقظة وتركيز
أكبر.
3.
المبادرة الثالثة في تونس
حدثت بمعهد نموذجي تونسي.
زارت بعثة تعليمية بريطانية المعهد وفي نطاق تنشيط التلامذة أثناء الراحة، طرحت
عليهم هذه البعثة "وضعبة تعلمية" في صيغة مشكل ينتظر حلا: طلبت البعثة
من تلاميذ المعهد قيس طول العمود الخشبي أو المطاطي الرافع للعلم الوطني. حاول
التلامذة حل المشكل بشتى الطرق المعقدة كما تعودوا في تعليمهم النظري، استعملوا
قواعد رياضية وقاسوا ظل العمود وتسلّقوا العمود ليقيسوه بمتر قماشي طويل ولكن لم
يصلوا إلى الحل رغم أن الحل بسيط جدا وهو قيس طول الحبل الذي ينزل عندما يصعد
العلم. في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا التونسية، نملأ عقول تلامذة الثانوي
بمعلومات كثيفة ومعقدة لحل مسائل نظرية لا وجود لها في واقعنا المتخلف ونتجاهل
تعليم أولادنا توظيف معلومات بسيطة لحل مسائل بسيطة كمشاكلنا اليومية مثل تغيير
فانوس محروق أو إبدال مربع زجاجي مهشم أو إصلاح عطل كهربائي أو تحضير وجبة غذائية
متوازنة في المنزل أو في المعهد.
4.
المبادرة الرابعة في فرنسا
أستاذ تاريخ وجغرافيا يرى أن
الأعداد المسندة في الامتحانات إلى التلامذة قد تحبطهم وتحط من عزائمهم لذلك ارتأى
هذا الأستاذ القدير إسناد 20 على 20 لكل تلامذته وفي كل الامتحانات. أستاذ مبدع في
عمله: كان عندما يدرّس المقاومة الفرنسية للألمان، يكلف تلامذته بإجراء بحوث
ميدانية ومكتَبية والاتصال بالمقاومين الأحياء وتسجيل بحوثهم في أقراص ليزَرِيّة
مضغوطة بالصوت والصورة ثم ينشر بحوث تلامذته بأسمائهم في مجلات علمية مختصة فيجعل
منهم كتّاب المستقبل. أثناء تدريس محور المقاومة، يستدعي مقاوم حي أو كاتب متخصص
في المقاومة إلى القسم ويدير حوارا بينه وبين التلامذة. تخيل أيها القارئ ما يحدثه
هذا النوع من التدريس في عقول التلامذة على صغر سنهم وما سيتركه من آثار نفسية
إيجابية في تكوين شخصيتهم وتدريبهم على روح المبادرة والثقة بالنفس والمغامرة
والإنتاج الكتابي والمصوّر. سعت وزارة التربية الفرنسية بكل جهدها إلى إقالة هذا
الأستاذ العبقري المناضل التعلّمي والبيداغوجي أو على الأقل إحالته على عمل إداري.
لم تجد الوزارة مبررا قانونيا واحدا يمنع الأستاذ من إسناد العدد الذي يراه هو
مناسبا لعمل التلميذ. هزت قضيته الرأي العام الفرنسي وأُنشِئت جبهة مساندة لهذا
الأستاذ متكونة من تلاميذ وأولياء وزملاء. لم توفّق الوزارة منذ عام ونيف في سعيها
وإن شاء الله لن توفّق، لكنها وللأسف في الأخير وُفقت.
5.
المبادرة الخامسة في غار الدماء
سنة 1980، كنت أدرس محور
"التناسل عند الإنسان" لتلامذة الثالثة ثانوي (التاسعة أساسي الآن) بإعدادية
غار الدماء. تغيبت على عملي أسبوعا في الكاف وذلك للمشاركة في تربص تكويني في
الميكروبيولوجيا. فوجئتُ بوصول رسالة باسمي إلى الكاف واكتشفت أن الباعث تلميذٌ من
تلامذتي النجباء بغار الدماء. يقول في رسالته هذه أن أستاذ الرسم الفني - المتعصب لرأيه
- استغل غيابي عن الإعدادية وشن حملة مضادة لشخصي منتقدا طريقة تدريسي للتكاثر الجنسي
لدى الإنسان مكذبا المعلومات البيولوجية التي سجلها التلامذة في القسم. قال هذا
الزميل غير المختص في البيولوجيا أن الحيوانات المنوية للرجل تأتي من الصلب كما
يقول القرآن الكريم وليس من الخصيتين كما يقول أستاذكم في العلوم. عدت من الكاف،
اتصلت مباشرة بمدير المعهد وأبلغته ما
سمعته عن التدخل السافر في اختصاصي من قِبل زميل غير مختص، لم أطلب من
المدير التدخل بيني وبين زميلي الفاضل بل اكتفيت بإعلام المدير أنني أسير وفق
البرنامج الرسمي وأستقي معلوماتي من مصادر علمية موثوق بها. أما ردي فهو الآتي:
حملت مجهري، جلبت أرنبًا ذكرَ، نصبت طاولة
وسط الساحة أثناء راحة العاشرة صباحا، التف حولي تلاميذ المعهد وكلهم تلامذتي، خدّرت
الأرنب الضحية وبالمبضع المخبري اقتطعت عينة مجهرية من خصيته، وضعت مسحة منها بين صفيحة وصفيحة ثم طلبت من
تلامذتي مشاهدة الحيوانات المنوية الأرنبية وهي تتحرك برشاقة وترقص بذيلها الطويل
كأنها تساندني الرأي ضد هذا التمسك الحرفي بالنص الديني. قلت لهم: منذ الآن، لا
تقولوا، قال أستاذ العلوم بل قولوا شاهدنا بأم أعيننا الحيوانات المنوية في
الخصية. من سوء حظ زميلي المتعصب (هذا وصفٌ
لزميلي وليس ثلبًا أو سبًا أو شتمًا فيه والعياذ بالله) أن القرآن والعلم الحديث وفي
هذا الموضوع بالذات لا يختلفان بل يتكاملان في عقول أولي الألباب وأهل الذكر من
علماء الأجنة الماديين التجريبيّين. يبدو لي أن الخلايا الجذعية الجنينية جميعها تنشأ
في منطقة تشبه صلب الجنين ثم تهاجر شيئا فشيئا ويختص بعضها في التناسل ثم تستقر في
الخصيتين وقد يكون لعلم الأجنة 2020 رأي أحدث من هذا. أود أن يتصل بي كل من يختلف
معي في هذه المعلومة حتى أستفيد من علمه.
6.
المبادرة السادسة والأخيرة في حمّام الشط
في أوائل التسعينات، كنت
أنشّط نادي البيئة في إعدادية حمّام الشط. اقترحتُ على تلامذتي النشاط التالي:
تجولوا في حيّكم وصوروا بالكاميرا كل ما يظهر لكم مخالفا لسلامة البيئة وابعثوا
الصور إلى رئيس بلدية حمّام الشط وادعوه في نفس الوقت لحضور الحصة القادمة. فعل
التلامذة ما كلفتهم به على أحسن وجه وحضر رئيس البلدية ومساعده وأدرتُ بينه وبين
التلامذة المحتجين حوارًا شيقًا وديمقراطيًّا
إمضائي
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
تاريخ أول
نشر على النت : حمام الشط في
16 ديسمبر 2010
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire