إشكالية تعترضني يوميا كأستاذ
في القسم: ما هي أسباب عدم قدرة التلميذ التونسي على توظيف معلوماته؟
المكان : الجمهورية التونسية.
الزمان: الثلاثية الأولى من العام الدراسي 2010/2011.
المستوى التعليمي: السنة أولى ثانوي (ما يقابل أربع سنوات قبل الباكلوريا).
المادة: علوم الحياة و الأرض باللغة الفرنسية.
اللغة: رسميا الفرنسية، وشبه رسميا العربية: كل جملة أكتبُها
أو أقولُها، أترجمها بالعربية نظرا لمستوى التلاميذ المتدني في اللغة الفرنسية. بعض
زملائي في العلوم (علوم الحياة والأرض والرياضيات والفيزياء والتقنية) - وأنا أومن
أن لكلٌّ أستاذ طريقته الخاصة في إبلاغ المعلومة ولا تعلو طريقة على أخرى في
البيداغوجيا - زملائي ذهبوا إلى الحل
الأسهل والأجدى ظاهريا وآنيا، الحل المتمثل في تدريس العلوم باللهجة التونسية الدارجة المهذبة في القسم وفي
الدروس الخصوصية تفاديا لعائق اللغة الفرنسية غير المفهومة من قِبل جل التلاميذ
التونسيين خريجي التعليم الأساسي المعرّب. قد يفهم التلاميذ أحسن بهذه الطريقة وقد
يفرح الأستاذ بمشاركة تلاميذه وتجاوبهم لكن ينسى الاثنان أو يتناسيا أن الامتحان الرسمي،
في فروض المراقبة والفروض التأليفية، يُقرأ ويُكتب بالفرنسية فقط وأن كل الشُّعَبِ
العلمية في الجامعة تُدرّس بالفرنسية فقط. بكل لطف وكل الصدق ودون مزايدة أو مجاملة
أو أبوّة أو تعالٍ فكلنا في "عدم الكفاءة" تونسيون حسب نتائج تلامذتنا، الأوائل في عيوننا والأواخر في تقييمات
منظمات عالمية، مثل تقييم منظمة "تيمس"(الاتّجاهات في الدراسة العالمية للرّياضيات والعلوم) ومنظمة "بيزا" (برنامج التقييم الدولي للطلبة) وهذا الأخير هو عبارة عن مجموعة من
الدراسات التي تشرف عليها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية كل ثلاثة أعوام بهدف
قياس أداء الأنظمة التربوية في البلدان الأعضاء وفي بلدان شريكة (انظر
مقال حمدي بشير حمدي في الفايسبوك بعنوان "فشل السياسة التعليمية"). تتناقض
هذه الشهادة العلمية العالمية والموضوعية، التي تُقِرّ بِـ"عدم كفاءتنا"
في تكوين تلامذتنا، مع شهادة الامتياز الصادرة عن وزارتنا الموقّرة وهي شهادة غير علمية وغير
موضوعية، شهادة مزوّرة تتجسم في نتائج الباكلوريا التونسية المضخَّمَة بالإسعاف.
بعد هذا التمهيد غير المريح
لي ولزملائي، ألفتُ نظر زملائي المحترمين وتلامذتنا الأعزاء إلى أهمية اللغة
العلمية السليمة في إنتاج العلم. يبدو لي أن العلم لا يقتصر على طرح الإشكاليات
العلمية وفهم وحل المشاكل فقط بل يتجاوز هذه المرحلة المهمة إلى التعبير الكتابي
والشفوي الضروري لنشر هذه المعرفة بلغة علمية سليمة. نلاحظ أن جل العلماء ومنتجي
المعرفة يشتغلون أساتذة في الجامعات وفي نفس الوقت كتّابا في المجلات العلمية
المختصة لذلك وجب عليهم إتقان لغة حية ومن الملائم أن تكون الأنڤليزية عوض
الفرنسية وللأسف الشديد لا يمكن أن تكون العربية في عصرنا هذا لتخلف العرب في كل
المجالات العلمية الحديثة. على حد علمِي، لا توجد مجلة علمية واحدة مختصة ذات قيمة
علمية عالية مكتوبة بالعربية وحتى العلماء الفرنسيون أنفسهم أصبحوا مجبورين على
النشر باللغة الأنڤليزية، اللغة العلمية العالمية المتواجدة في الساحة دون منافس. الأستاذ
والتلميذ التونسي هم ضحايا ومسؤولين في الوقت نفسه. مسؤولين لأنهم لم يبذلوا
مجهودا إضافيا لسد الثغرات في التكوين العمومي الرسمي. ضحايا سياسة تربوية تونسية
تسمح بتدريس العلوم بالعربية من السنة الأولى إلى السنة التاسعة أساسي وفجأة وفي
السنة الموالية أي الأولى ثانوي (ما يقابل أربع سنوات قبل الباكلوريا)، يجد
التلميذ نفسه غير مؤهلٍ لمتابعة دروس العلوم بالفرنسية فيتقوقع حول نفسه وينغلق
ويبتعد شيئا فشيئا عن التعلّم لعدم تسلّحه بأدواته الضرورية وخاصة الأداة الأساسية
المتمثلة في اللغة الفرنسية في تونس، دولة لغتها الرسمية في الدستور هي اللغة
العربية. أذكّر دائما تلامذتي بالحقيقة المرة وهي أن اللغة الفعلية الأولى في
التعليم التونسي هي الفرنسية وليست العربية. الانتقال من تدريس العلوم بالعربية
إلى تدريسها بالفرنسية في تعليمنا التونسي، هو تحوّل سهل في أذهان مصممي البرامج، يقع
بجرّة قلم على قرار فوقي وهو في الوقت نفسه يمثل عائقا تعلّميا (يعني ناتج عن
الطرق البيداغوجية العقيمة المستعملة من قِبل الأساتذة والمعلمين) يصعب تجاوزه من
قِبل تلاميذ أبرياء لكن كسلاء وأساتذة صادقين لكن غير مجتهدين. التلميذ ضحية سياسة
تربوية خاطئة والأستاذ لم يشارك في تخطيط هذه السياسة لكنه مجبر على مواجهة
تداعياتها الكارثية على حساب صحته ونجاعة أدائه البيداغوجي. حسب وجهة نظري
البسيطة: ما دامت الوزارة عاجزة عن تعريب العلوم في الثانوي بعد عشرين عاما من تعريبها
في الإعدادي فلماذا لا تتراجع في قرارها وتُفرنس العلوم في الإعدادي مؤقتا حتى
تستعد جديا لتعريب العلوم في التعليم التونسي بجميع مراحله مثلما فعلت بعض البلدان
العربية حتى لا يضيع جيل من التلاميذ بكامله بسبب التردد السياسي لوزارة التربية
التونسية في تعميم التعريب على جميع مراحل التعليم.
الدرس الرابع في برنامج السنة
أولى ثانوي في مادة علوم الحياة و الأرض: تحسين الإنتاج النباتي.
إشكالية الدرس: ما هي الوسائل التقليدية والعصرية لتحسين الإنتاج
النباتي؟
سير الدرس: في أول الحصة، طلبتُ من تلامذتي أخذ ورقة بيضاء وكتابة
أسماء هذه الوسائل بالفرنسية أو بالعربية دون شرح أو تفصيل وقلتُ لهم: إن لم تجدوا
الكلمات باللغة الفرنسية فعليكم الاستعانة بالمعجم "الفرنسي - عربي"
الملحق بكتابكم المدرسي. انتظرتُ عشر دقائق ومررتُ بين الصفوف أقرأ ما كتبوا. وجدوا
وسيلتين فقط، "الماء والأملاح المعدنية" والمفهومَين يمثلان عنوانَي
الدرسَين السابقَين. حاولتُ إثارتهم وتحفيزهم ذهنيا بقولي: أنا متأكد مائة بالمائة
أنكم كلكم ودون استثناء تعرفون الجواب كاملا. طريقتي لم تُجدِ نفعًا إلا عند بعض
المتفوقين وعددهم لا يتجاوز الاثنين في كل قسم. وبعد انتظارٍ دام خمس دقائق
إضافية، تدخلتُ معاتبا وفي نفس الوقت مشجّعا: سأبيّن لكم بالدليل القاطع أنكم
تعرفون الجواب وتحملون معلومات لكن لم تستطيعوا توظيفها في المكان المناسب والوقت
المناسب. مَن منكم لا يعرف أن حرث الأرض يحسّن الإنتاج النباتي؟ وكانت إجابتهم
الجماعية بنعم. توالت أسئلتي: من منكم لا
يعرف أن اختيار البذور واستعمال البيوت المكيفة وتخصيب التربة بالأسمدة العضوية
والري قطرة قطرة والقضاء على الأعشاب الطفيلية والحشرات الضارة يحسّن الإنتاج
النباتي أيضًا؟ توالت إجابتهم الجماعية بنعم. استنتجتُ من أجوبتهم أنهم يحملون
معارف كافية حول إشكالية الدرس لكن يُعيقهم توظيفها بلغة علمية فرنسية سليمة. قلت
لهم أن هذه المعلومات تُعتبر ثقافة علمية عامة (Sens commun)
يمتلكها حتى رجل الشارع الأمي لكن لا يستطيع أن يعبر عنها كتابة ولا مشافهة بلغة
علمية فرنسية سليمة وهنا يكمن الفرق بينه وبينكم، أنتم علماء المستقبل وبُناة
نهضتنا إن كُتِبَ لنا يوما أن نستفيق من سباتنا الموروث والمكتسب وننهض من تخلفنا
الذاتي والمدبّر من عدوّنا الخارجي الغربي والإسرائيلي وعملائهم الوطنيين في
الداخل. أرجع وأقول أن التلميذ ضحية ومسؤول في كل حالات فشله التعليمي. التلميذ هو
ضحية مدرسة سلوكية لـ"واتسون" و"سكينر"، مطبقة في تونس، تعتمد
على الإثارة والجواب مثل ما يفعل عالِم النفس السلوكي مع فأر التجارب. طريقة
بيداغوجية تلقينية تعتمد الحفظ واستحضار المعلومات يوم الامتحان دون تفكير، عبّر
عنها التلاميذ في مظاهراتهم برفعهم شعار "بضاعتكم رُدّت إليكم". صدق
التلاميذ، نعم بضاعتنا نحن الأساتذة، لأن التلاميذ لم يشاركوا في صنعها أثناء عملية
التعلم وبقوا في أحسن الحالات يتفرّجون على أستاذ يعمل بمفرده في القسم، يسأل
ويجيب، يكتب بالطباشير ويفسّخ في سبورة تقليدية عمرها مائة سنة، يحضّر المجهر
ويدعو التلاميذ للمشاهدة فقط، يجرّب ويعرض النتائج على تلاميذ مبهورين باستعراض
عضلات أستاذهم "القدير والكفء". كيف تطلب من تلميذ ترعرع في مدرسة تقتل
المواهب بهذه الطريقة أن يوظف معلوماته لحل مشكل علمي يعترضه لأول مرة مهما كان هذا
المشكل بسيطا. التلميذ مسؤول عن فشله الدراسي أيضا لأنه لم يبذل مجهودا إضافيا وقد
تفطن جل الأولياء القادرين ماديا إلى نقطة الضعف هذه في المدرسة العمومية فضحّوا
من أجل تكوين أبنائهم في الدروس الخصوصية وأصبح الولي يصرف ما يقارب المائتي دينار
شهريا (ما يساوي نصف المرتب الشهري الأدنى للعامل في تونس) بين دروس الرياضيات
والفيزياء وعلوم الحياة والأرض والأنڤليزية والفرنسية وغيرها. ماذا يفعل الفقراء
في هذه الحالة - ونحن معشر الأساتذة من الفقراء باستثناء شبه زملائنا الأساتذة،
مقاولِي الدروس الخصوصية مع العلم أنني لا أدينهم لو طبقوا القانون المنظم للدروس
الخصوصية، 12 تلميذ من تلاميذ أقسام لا يدرسونها، موزعين على 3 مجموعات منفصلة في
قاعة تدريس محترمة وليس 20 في "ڤاراج"- ماذا يفعل هؤلاء الفقراء المسحوقين
طبقيا والعاجزين ماديا وهم يرون أبناءهم يضيعون أمام أعينهم ولا يقدرون ماديا على
إنقاذهم من براثن مدرسة عمومية لا تقوم بواجبها في تأهيل النشء على بناء معرفته
بنفسه حسب المدرسة البنائية لـ"بياجي" و"فيڤوتسكي"، مدرسة غير
مطبقة في تونس حتى الآن رغم أنها تُعتمد كشعارٍ سياسيٍّ برّاقٍ من قِبل وزارة
التربية التونسية، شعار تجني سياسيًّا من ورائه الكثير ولا تخسر مليما واحدا. حِفْظُ المعلومات مهم، لكن القدرة على توظيفها أهم
وليس من قَبِيلِ الصدفة أننا وبعد نصف قرن من الاستقلال المنقوص لم نصنع علماء ولم ننتج علما تجريبيا
أو رياضيا أو إنسانيا ما عدى الأدمغة الوطنية المهاجرة التي بنت علمها في بيئة
مغايرة حيث تتوفر الحرية والكرامة وظروف العمل المُثلى لإنتاج المعرفة مثل ما فعل أحمد
زويل وفاروق الباز ومحمد الأوسط العياري وغيرهم كثيرون.
إمضائي
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
تاريخ أول
نشر على النت: حمام الشط في 12
ديسمبر 2010.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire