يبدو أنّ الأستاذ المباشر
(الأستاذ الذي يحضر في القسم ويباشر التدريس لتلاميذ حاضرين معه) ينفّذ سياسة
تربويّة لم يشارك في إعدادها ويبدو أيضا أنّه يتعرّض يوميّا لمشاكل عديدة منها على
سبيل الذكر لا الحصر: طول البرنامج وضيق الوقت المخصّص لإنجازه واكتظاظ القسم بالتلاميذ
وعدم انضباطهم ونقص وسائل الإيضاح التعلمية. لذلك ما زال هذا الأستاذ يستعمل السبّورة
العاديّة ويكتب بالطباشير ومازال يمتثل لتوجيهات متفقّد مجاز مثله ولا يتميّز بأيّ
شهادة جامعيّة في المجالات الأخرى مثل علوم التربية والإبستمولوجيا وعلم نفس الطفل
وعلم التقييم وآليات التواصل ( أستثني المتفقدين المتخرّجين
الجدد). لذلك آليت على نفسي أن ألفت نظر زملائي وأنا أستاذ مباشر مثلهم منذ 37 سنة
إلى بروز منافس خطير على السّاحة التربويّة يُدعَى الأستاذ غير
المباشر (الأستاذ الذي
يمارس التدريس عن بعد عن طريق الأنترنات أو عن طريق الرسائل الرقميّة). يمتاز هذا الأخير عن الأوّل بأشياء أساسيّة في
الحياة ما فتئ الأستاذ المباشر يناضل من أجل تحقيقهما: التكوين الأكاديمي في
المجالات المشار إليها أعلاه والحرّية في اتخاذ القرار والأجر المشجّع على الخلق والدعم
المادّي وتوفير التجهيزات لتأدية رسالته وفق الطرق التربويّة العصريّة.
بعد هذا التمهيد
القصير, سأحاول تقديم مقارنة بين الأستاذ المباشر والأستاذ غير المباشر:
الأستاذ المباشر:
-
يحبّ، يكره، يكلّ، يملّ، يغضب، وفي بعض الأحيان
يخرج عن موضوع الدرس حتّى يروّح عن نفسه وعن تلامذته.
-
يختصّ في مادّة معيّنة فقط ولا يلمّ في جل
الأحيان بكل معارفها.
-
يقدّم للتلميذ بعض وسائل الإيضاح التعلمية القديمة.
-
يقوم بالتجارب عوضا عن التلميذ لنقص في التجهيزات.
-
ينفّذ سياسة تربويّة واحدة ويرتبط ببرنامج سنوي
موحّد.
-
لم يدرس أكاديميّا علوم التربية ولا علم نفس
الطفل ولا الابستومولوجيا ولا علم التقييم.
-
يعتمد في القسم على نفسه فقط.
-
لا يجد عادة الوقت لإنجاز التمارين التطبيقيّة.
-
يوفّر للتلميذ وضعيّة تعلّميّة مباشرة فيها
تفاعل مع أقران قارّين ومفروضين على التلميذ نفسه.
-
يدرّس في القسم بمرتّب زهيد.
-
لا يختار التلميذ أستاذه المباشر بل يُفرض عليه.
الأستاذ غير
المباشر أو الأستاذ الافتراضي في الأنترنات أو الجاهز في الأقراص:
-
يقدر على إعادة الدرس ألف مرّة إن شاء
المتلقّي. يحترم، يشجّع، لا يكره، لا يغضب، ولا يُقصي من القسم.
-
يُتقن كلّ الاختصاصات لأنه يوفر عدة أساتذة
مختلفين في اختصاصاتهم يقومون بإعداد الدرس المعروض في الأنترنات.
-
يعرض صورا رائعة ومتحرّكة ذات ثلاثة أبعاد.
-
يقوم التلميذ بنفسه بالتجارب الافتراضية.
-
يختار التلميذ برنامجا يتناغم مع قدراته
ومستواه الذهني ونسقه الشخصي في الفهم.
-
يعدّ الأسئلة عن دراية وبدقّة مختص في التقييم.
-
يستطيع التلميذ أن يستشير عدّة أساتذة افتراضيين.
-
ينجز التلميذ كما يشاء ومتى يشاء تمارين فرديّة
وتفاعليّة.
-
يوفّر للتلميذ تفاعلا افتراضيّا مع أقران من
اختيار هذا الأخير الذي يستطيع تغييرهم حسب تغيّر الوضعيّة التعلمية.
-
جاهز تحت الطلب في كل زمان ومكان دون مقابل.
-
يختار التلميذ أستاذه الإفتراضي حسب حاجته وذوقه
أيضا.
بعد هذا العرض
السريع وغير الشامل لمزايا التعليم غير المباشر في الفقرة
السابقة, أسوق لكم على سبيل الذكر لا الحصر أمثلة منه في تونس:
-
أوجدت وزارة التربية والتكوين مدرسة افتراضيّة
في موقع على الأنترنات. تقدّم جامعة تونس الافتراضية - التي كانت تسمى سابقا المعهد
الأعلى للتربية والتكوين المستمر بباردو - "تعليما عن بعد" لكن بالتسجيل
الرسمي. تعليمٌ يفوق بكثير جودة "التعليم المباشر" في الجامعات الأخرى.
يمتاز هذا المعهد بانضباط طلبته من أساتذة ثانوي ومعلّمين وينفرد بقلّة عدد
الحاضرين في الحصّة المباشرة مع الأستاذ المحاضر ممّا يزيد التعلّم نجاعة وفائدة (في
مدرّجات الجامعات الأخرى، يحضر الحصة الواحدة المئات من الطلبة). يختار المعهد
أفضل الأساتذة من الجامعات التونسيّة والفرنسيّة. يختار الطالب نسق تعلّمه بنفسه
حسب قدراته وتفرّغه، مثلا ثلاث وحدات تعليمية كل ستة أشهر عوض خمسة. من شروط
النجاح في هذا المعهد، التحصّل على معدّل عشرة في كل وحدة تعليمية (Unité de
valeur) يدرسها الطالب
وليس على المعدّل العام ممّا يجبر المتلقّي على عدم إهمال أيّ مادة فيتخرّج ملمّا
بجميع فروع اختصاصه. ينظّم المعهد إقامات مغلقة (séjours bloqués) للقيام
بالأشغال التطبيقيّة لصالح طلبة العلوم التجريبيّة. من سوء التخطيط الحكومي، لا
يتمتّع هذا المعهد بميزانيّة محترمة ولا بدعاية كافية رغم الخدمات الجليلة التي
يقدّمها للتعليم بجميع مراحله في تونس من بنڤردان إلى بنزرت. ساعد هذا المعهد "الأساتذة-الطلبة"
المنتسبين إليه على الإرتقاء المهني عن طريق التحصيل العلمي وليس عن طريق
الأقدميّة في الرتبة. قبل سنة 2000، كان أستاذ التعليم الثانوي أو التقني يرتقي
مباشرة إلى رتبة أستاذ أوّل فور حصوله على ديبلوم الدّراسات المعمّقة (DEA) وهذا
الإجراء ساهم في تشجيع المدرّسين على اكتساب العلم والمعرفة. حوالي سنة 2000, نقابتنا
العامة الموقّرة فرّطت في هذا المكسب واتّفقت مع وزارة التربية على شرط قضاء سبع سنوات كاملة في الرتبة
الواحدة قبل الإرتقاء إلى ما هو أعلى منها حتّى لو تحصّل الأستاذ القديم على شهادة
الدكتورا. في الاتفاق الجديد, تمسّكت الوزارة، بموافقة النقابة، بالارتقاء المهني
على أساس الأقدميّة في الرتبة مع تنفيل الشهادة العلميّةُ (DEA) بثلاث
نقاط فقط والدكتورا بخمسة عشر نقطة. نظام "التعليم عن بعد" بدأ قبل
اكتشاف الحاسوب وتطوّر بعد عصر الأنترنات فأصبح يضاهي تقريبا نظام التعليم
المباشر. و أنا من خرّيجي النظامين, 15 عام تعليم مباشر و11 عام تعليم مختلط مباشر
وعن بعد. يتابع مئات الملايين من طلبة المرحلة الثالثة, في كل الاختصاصات وفي كل البلدان من العالم المتطوّر
إلى العالم الثالث, تكوينهم عن طريق
الأنترنات ولا يقابلون مؤطّريهم مباشرة إلاُ في مواعيد قليلة ورغم ذلك يبدعون كلّ
في مجاله.
-
"التعليم
الافتراضي" الحر دون تسجيل رسمي جاء بعد انتشار الأنترنات. يستفيد منه كل
راغب في المعرفة دون أي شرط ودون مقابل.
في نهاية المقال،
أتساءل: "هل اطمأنّ زملائي إلى
أن وظيفتهم التربوية لن تنقرض أبدا؟" لا بل على العكس, سيُخَلَّدون كمبرمجي الذكاء
الصناعي للحاسوب وكَرُكْنٍ أساسي من أركان
المعرفة مع الرُّكنَين المكمّلين وهما التلميذ والمعرفة وسوف تتحسّن صورتهم عند التلميذ ويزيد عطاؤهم ويتخلّصون
من مضارّ الطباشير وعبء الاكتظاظ والتنقّل وملاحظات المدير وتوجيهات المتفقّد
واحتجاجات الأولياء.
خلاصة القول: "التعليم الافتراضي"
الحر دون تسجيل رسمي و"التعليم عن بعد" بالتسجيل الرسمي، نوعان من
التعليم غير المباشر يتمتّعان بخاصّيات متعدّدة منها الحضور السّريع في كل مكان وزمان والتأقلم مع التقنيات الرقمية الجديدة ومع القدرات
الذهنيّة المختلفة لدى المتعلّمين، لذلك انتشرا بسرعة في كل أنحاء العالم.
إمضائي
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
تاريخ أول
نشر على النت: حمام الشط في 5 ماي 2009.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire