jeudi 20 septembre 2018

أيها الزملاء الأعزاء، انتبهوا جيدًا فالتلميذُ قادرٌ على بناءِ معرفةٍ علميّةٍ جديدةٍ فوق معرفتِه غير العلميّةِ القديمةِ! مواطن العالَم محمد كشكار، دكتور في تعلّميّة البيولوجيا، دراسة مشتركة وإشراف مشترك بين جامعة تونس وجامعة كلود برنار، ليون 1، فرنسا (2007)




استوحيتُ هذا المقال من محاضرة حضرتها في سوسة بمناسبة الأيام الوطنيّة الثالثة لتعلّميّة علوم الحياة والأرض في 22 و23 نوفمبر 2008 بسوسة.  قدّم هذه المحاضرة الأستاذ  (André Giordan مدير مخبر الفلسفة وتعلميّة العلوم بجامعة جنيف في سويسرا، محاضرة حول تصوّرات التلميذ أو المكتسبات التي يأتي بها للقسم (Les conceptions de l’apprenant) وبدأ بطرح النماذج المختلفة التي يجب استعمالها لمعالجة هذه التصورات غير العلمية:

.- النموذج الأول: نتجاهل هذه التصورات غير العلمية لدى التلميذ ونعتبر  هذا الأخير  وعاءً فارغًا، وعلى المدرس أن يملأه بالمعرفة، أو نعتبره صفحة بيضاء يكتب فيها المعلّم ما يشاء.  سادت هذه المقاربة في التعليم آلاف السنين حيث يعرف المعلم كل شيء ولا يعرف التلميذ أي شيء.
-. النموذج الثاني: نتجنّب هذه التصورات غير العلمية حتى لا ترسخ في ذهن التلميذ أو تعيق اكتسابه للمعرفة العلميّة الجديدة. هذه مقاربة "المدرسة السلوكيّة" (واتسون و سكينر) التي تسود الآن في التعليم التونسي وتعتبر التلميذ علبة سوداء لا يعنينا ما بداخلها ولا نحاول فهم آلية تشغيلها. نلقّن التلميذ معارف متفرقة وفق مواد منفصلة عن بعضها البعض ونطلب منه حفظها واسترجاعها يوم الامتحان كما تلقاها دون اجتهاد ذاتي. لا يتساءل أصحاب هذه المقاربة عن "ميكانيزم" أو كيفية فهم التلميذ للدرس أو آلية اكتسابه للمعرفة. لقد توصل التلامذة بذكائهم الجمعي إلى كشف وفضح الخلل الأساسي في هذه المقاربة وعبّروا عنه بشعارهم الواقعي والساخر مخاطبين مدرّسيهم أثناء الامتحان "بضاعتكم ردّت إليكم!" وهي في الحقيقة بضاعة المدرس وليست بضاعة التلميذ لأن هذا الأخير لم يشارك في صنعها وفي اكتسابها بل فُرِضت عليه غصبًا فحفظها وكرّرها كالببغاء وحَمَلَها دون فهمٍ أو تملّكٍ.
-. النموذج الثالث: نتعرّف علي هذه التصورات غير العلمية حتّى نحدّد الرسالة المعرفية التي نريد تمريرَها في البرامج. هذه مقاربة "المدرسة البنائيّة" (بياجي) التي حرّرت التلميذَ من التبعية للأستاذ ومنحته الثقة في قدراته الذهنية وأكدت أن المتلقي قادرٌ عل بناء معرفته بنفسه لو وفرنا له الوسط المناسب والمدرس الكفء.
-. النموذج الرابع: نعالج هذه التصورات غير العلمية وهذه مقاربة "المدرسة الاجتماعيّة-البنائيّة" (فيڤوتسكي ودواز و مونيي). ينقسم هذا النموذج إلى قسمين:
- القسم الأول من النموذج الرابع: نعالج تصورات التلميذ غير العلمية بالإفصاح عنها داخل القسم  حتّى تصبح مصدر تحفيزٍ له.
- القسم الثاني  من النموذج الرابع: نعالج التصورات غير العلمية للتلميذ بتوظيفها في عمليّة التعلّم. يتفرّع هذا القسم الأخير إلى ثلاثة فروع:
- الفرع الأول من القسم الثاني للنموذج الرابع:  نستفيد من التصورات غير العلمية للتلميذ ولا ننفيها ونحاول إبرازها ومكافحتها بالمعرفة العلميّة الجديدة.
- الفرع الثاني من القسم الثاني للنموذج الرابع: نحاول تفنيدَ التصورات غير العلمية للتلميذ وتفكيكها وهذه "مقاربة القطيعة الإبستمولوجيّة" لباشلار. في هذه الحالة قد تعترضنا الصعوبة التالية: إذا جابهنا التلميذ بأخطائه فقد نصل إلى نتيجة معاكسة تتمثل في تعطّل تفكيره وفقدان توازنه الذهني أو إصابته غير المقصودة بالإحباط النفسي. مثلا: يتصور التلميذ أنّ القلبَ هو مصدر الحب. نفنّد هذا التصور غير العلمي لديه بالتذكير بعمليّات زرع القلب فإذا زرعنا قلب أحدٍ ميتٍ للتوِّ  في جسمٍ آخرَ حيٍّ، فهل ينتقل للحيِّ الشعورُ السابقُ للميّتِ؟ قد يجد التلميذ نفسَه مجبرًا على القطيعة التامة مع معارفه السابقة مما قد يسبب له حرجًا وفشلاً وعائقًا في مستقبله الدراسي.
- الفرع الثالث من القسم الثاني للنموذج الرابع: يجمع الفرع الثالث بين الفرعين الاثنين السابقين ويتمثّل في الاستفادة من التصورات غير العلمية للتلميذ ونفيها في نفس الوقت. مثلا: يتصور التلميذ أنّ النبتة الخضراء تتغذّى من التربة فقط. نفنّد تصوّره هذا الذي يتأرجح بين العلمي وغير العلمي بالتذكير بالنباتات التي تعيش خارج التربة تماما،  في الماء أو في الهواء، مجهريّةً كانت أو مرئيّةً، ونذكّره بالنباتات الطفيليّة التي تعيش على كاهل نباتات أخرى دون تربة. نتساءل ونقول: لماذا ننفي دائما تصوّر التلميذ ؟ فتصوّره قد يحتوي على جزءٍ من الجواب الصحيح، فالنبتة تأخذ بعضَ غذائها المتمثّل في الأملاح المعدنيّة والماء من التربة، وتأخذ أيضًا أكثر غذائها من ثاني أكسيد الكربون المتوفّر في الهواء المحيط بها عن طريق وظيفة التركيب الضوئي (La photosynthèse). يتعلّم التلميذ في هذه الحالة بالاعتماد على تصوّراته القديمة (تتغذّى النبتة من التربة) وفي نفس الوقت ضدّ هذه التصورات (تتغذّى النبتة أيضًا من الهواء). يتكوّن هذا النموذج الثنائي المتضاد من العمل "مع/ضد" التصورات غير العلمية للتلميذ ويتضمّن عدة متناقضات يجب المحافظة عليها وإذكائها عند اختفائها وهي التالية:
Ø     يتطلب التعلم مجهودا يتناقض مع اللذة, لكن قد يحتوي هذا المجهود على لذة من نوعٍ جديدٍ، لذّة تسمى لذة بناء المعرفة وهي محرك مهم للبحث عن الجديد.
Ø     يعارض المدرس التلميذ ويكشف له عدم علمية تصوراته لكن في نفس الوقت يساعده على تجاوزها وعلى بناء تصورات علمية بديلة، مَثَلُه كمَثَلِ مَن يهدي عكازين طِبيّين لمعوق عضوي قبل أن ينتزع منه عكازيه التقليديّين.
Ø     يفقد المتعلم توازنه الذهني عندما يتلقى معارف تنفي معارفه الراسخة والمريحة لكن وفي نفس الوقت يستطيع هضم هذه المعارف الجديدة بمساعدة المدرس والأقران فيستعيد توازنه الذهني ويبقى في حالة "توازن\لا توازن دائم"، وضعية غير مريحة لكنها محفِّزة ومفِيدة.

نحن المدرسون، نعلّم التلميذ كيف يجيب ولا نعلمه كيف يسأل! فهل طلبنا مرة من التلميذ أن يعدّ فرضًا تأليفيًّا على شكل تمرين في القسم قبل أن يجتاز الفرض التأليفي الرسمي؟ لقد حاولتُ في قسمي القيام بهذه التجربة الطريفة والمفيدة وتعلّمتُ من تلامذتي وأخذتُ منهم أنماطًا جديدةً من الأسئلة، أنماطًا لم تكن تخطر على بالي قبل هذا التمرين واستفاد التلاميذ من المراجعة والاستعداد للامتحان والعمل الجماعي.

 قديمًا كان المتعلم يكتسب زادًا معرفيًّا صالحًا مدى الحياة مثلا: أستاذ علوم الحياة والأرض يتخرّج مجازًا ويبقى كامل حياته المهنية يجترّ هذا الزاد ولا يجدّده لأنه لم يتعلم كيف يتعلم بنفسه وقِسْ على هذا المثال: الطبيب الذي يعالج حالات مرضية جديدة بعقلية طبية قديمة والمسؤول المتخرّج في الستينات من القرن العشرين والذي ما يزال يتعامل مع مرؤوسيه بعقلية البايات والمعلم القديم الذي ما يزال يربّي الأجيالَ الجديدةَ بعصا مؤدّب الكتّاب التقليدي.

أما اليوم فالعلوم البيولوجية تتجدّد كليًّا  تقريبًا كل سبع سنوات وعلوم الإعلامية كل أربع سنوات. انتهت مدة صلوحيته زاد الأمس ولو أصرَرْنا على مواصلة استعمال هذا المخزون البائد، لأصِيب تلامذتنا بالتخلف الذهني. لذلك نرى أنه من واجبنا تعليم التلميذ طريقة "التعلم الذاتي" حتى يكون قادرًا على تجديد زاده العلمي بنفسه كل ما جدّ في العِلمِ جديدٌ. لذلك قد ينطبق المثل الصيني الشهير اليوم تماما على طريقة "التعلم الذاتي": "لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد".

كل النماذج البيداغوجية و التعلمية  التي تَعرّضنا إليها في هذا المقال تبقى صالحةً على شرط استعمال كل واحد منها في موضعه المناسب ووقته الملائم. مثلا: في مؤتمر علمي حيث يتقارب المستوى العلمي للمشاركين والمحاضرين، يذهب المشاركون مباشرة لنموذج المواجهة ( Discours frontal) ويدخلون في نقد وتفنيد المعارف المقدمة من قِبل المحاضر دون مقدمات ومجاملات فارغة.
  
خلاصة القول:
 بعد نيل شهادة الدكتورا في تعلميّة البيولوجيا, أشعر وكأنني لست واثقًا من معارفي تمام الوثوق وأشعر في نفس الوقت أنني متأكدٌ من كل شيء وبما أنني في حالة تعلّم متواصل أشعر دائما بالتوازن وفقدان التوازن المعرفي والقيمي وهذا قدَر الباحث.

إمضائي
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 14 ماي 2009.




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire