يُعتبر هذا
المقال ترجمة مختصرة مع إضافة متواضعة لمحاضرة ألقاها صديقي في المنتديات
التعلمية، العالم الفرنسي في علوم التربية "أندري جيوردان" خلال مؤتمر الأيام
الوطنية الثالثة للجمعية التونسية لتعلّمية علوم الحياة و الأرض [ فلسفة تعليم
العلوم La Didactique des Sciences] المنعقد بسوسة من 22 إلى 23 نوفمبر سنة 2007.
نبدأ بطرح الأوهام
الثلاثة المقترحة لحل إشكاليات التعليم:
يتمثل الوهم الأول في الاعتقاد أن الحل يكمن في الرجوع
إلى الماضي ويتوهم الدعاة إلى هذا الحل، وهم عادة من المتقدمين أو المتوسطين في
السن، أن تعليمهم القديم أفضل وأجدى من التعليم الحالي وأن جيلهم أذكى من هذا
الجيل. يعتقد أصحاب الوهم الثاني أن وسائل التكنولوجيا الحديثة ستجيب على كل
الإشكاليات المطروحة وأن الحاسوب سيأخذ مكان المدرس. أما دعاة الوهم الثالث
فيقولون أنه يكفي أن تقوم بالدرس حتى يتعلّم التلاميذ ولا فائدة من التفلسف في
الموضوع.
لنعرض بعجالة إشكاليات التعليم:
لماذا نقصت الرغبة في التعلم عند تلامذتنا؟ لماذا لا
نأخذ في الاعتبار بما فيه الكفاية أسئلة التلاميذ وتصوراتهم العلمية وغير العلمية؟
لماذا يتعرّض بعض صغارنا إلى صعوبات في التعلم؟ ما هي الطرق البيداغوجية المُجدية؟
كيف نعلّم؟ أين؟ متى؟ مع مَن؟ بأي تَواتُرٍ؟ مِن خلال أي استراتيجيات؟ (...) لكن
ما معنى "تعلّم"؟ يبدو بسيطا.. يكفي أن نستمع ونحفظ ونعيد. لا، قد يكون
معقدا. لا، بسيطا، يكفي أن تكون مغرما وتباشر وتعمل داخل فريق. لا، قد يكون معقدا.
أ.
نذكّر ببعض النماذج التعلّمية المستعملة:
1.
التعلّم التقليدي عن طريق النقل والتلقين (La scolastique): يتمثل هذا النموذج في نقل خطّي ومباشر للمعلومات من باثّ إلى متلقٍّ.
يتصرف المتعلم كآلة يقبل ويسجل في مخه. مخ دائم الاستعداد مثل الصفحة البيضاء أو
الإناء الفارغ والمعلم يخطّ في الصفحة ما
يشاء و يملأ الإناء بما يريد.
2.
التعلّم عن طريق العقوبة و الجزاء
(Le béhaviorisme):
برز هذا النموذج في الستينات في أمريكا على أيدي العالِمين، مؤسسي
المدرسة السلوكية، واتسون وسكينر. يتعامل المدرس مع التلميذ بأسلوب الإثارة ورد
الفعل مثل ما يدرّب "بافلوف" كلبه، يجازيه عند الإجابة الصحيحة ويعاقبه
إذا أخطأ.
3.
التعلّم عن طريق البناء المعرفي الذاتي (Le constructivisme): أسس هذه المدرسة البنائية العالِم السويسري بياجي. يبني المتعلّم
معرفته بالتفاعل مع محيطه وبالتعبير عنه. يصوغ المدرس درسه انطلاقا من حاجيات التلميذ
واهتماماته. نترك التلميذ يكتشف وحده معرفته بعد بحث متردد وتعبير حر وإبداع. عندما
ينضج مخ المتلقي، نضعه في "وضعية-مشكل" حتى نثير داخله صراعا معرفيا. لا
يحتفظ المتعلم إلا بالمعلومات التي ينتظرها والتي تنضوي تحت قناعاته الشخصية والتي
تجلب له اللذة المعرفية (لذة فيها مجهود مناقض للذة الغريزية) وتمسه وتستدرجه
وتريحه في موقفه. يرفض المتعلم
المعلومات الأخرى أو لا يهتم بها حتى ولو كانت عملية وتملك احتمالا
هائلا من اليقين. لا يرى التلميذ إلا ما يريد مخه أن يرى فهو إذن لا
يرى الحقيقة مباشرة بل يراها من خلال مِصفاة مركبة في مخه. لا يتم اكتساب المعرفة
إلا في ظروف معينة، ففي أكثر الأوقات يرفض التلميذ المعلومات الملقنة أو التي يُعادُ
اكتشافها أمامه بطريقة غبية. يتعلم التلميذ بإفراغ المعلومات غير الملائمة بمثل ما
يتملّك الملائمة. ينتج التعلّم عن سياق من التغييرات المتعددة، تغييرات في الأسئلة
وفي الفكرة الأولية وفي طريقة التفكير الاعتيادية، ألخ.
4.
التعلّم عن طريق البناء المعرفي الاجتماعي (Le socio-constructivisme): أسس هذه المدرسة
البنائية الاجتماعية العالِم السوفياتي فيڤوتسكي. في الثلاثينات من القرن العشرين،
اكتشف هذا العالم منطقة في النموّ الذهني فسمّاها "المنطقة الأقرب للنمو
الذهني" (ZPD: Zone
proximale de Développement)، وعرّفها في النقاط التالية:
-
ما
يقدر الطفل على إنجازه، بالتفاعل مع محيطه وبمساعدة المدرسين وبحضور أقرانه، وهو الذي
يحدّد مستوى "منطقته الأقرب لنموه".
-
ما
يقدر الطفل على إنجازه اليوم بمساعدة المدرّسين وبحضور أقرانه، قد يستطيع تحقيقه
بمفرده غدا.
-
يختلف
مستوى حل المشاكل الذهنيّة الذي يصل اليه الطفل بمفرده عن مستوى حل المشاكل الذي
يصل إليه مع أقرانه وتحت إشراف مدرّسيه ومساعدتهم.
5.
التعلّم
عن طريق التفكيك والبناء في آن
(Le modèle allostérique):
أضاف
هذا النموذج أخيرا العالِم الفرنسي المذكور في المقدمة والمدعو جيوردان. تعتمد هذه
المقاربة الحديثة على تغيير نمط التفكير بالتأثير في محيط المتعلّم الذي يتفاعل مع
تصوراته. ينتج التعلّم عن سيرورة من الصراع المعرفي لدى المتعلم حيث يفكك تصوراته غير العلمية القديمة
ويبني مكانها تصورات علمية جديدة. يتعلم المتلقي وحده لكن ليس وحده تماما، يتعلّم
مع وضد تصوراته غير العلمية، يتعلّم بالتفاعل مع محيط وثيق الصلة بتصوراته، يتعلّم
عندما يكون التعليم المطروح عليه يعني شيئا بالنسبة له ويرى فيه قيمة، يتعلّم
عندما تستوقفه المعطيات وتربكه وتعينه على الإبداع. ينطلق المدرس من التصورات غير
العلمية للتلميذ ليبدلها بمعية التلميذ نفسه إلى تصورات علمية. تحتاج العملية
التربوية إلى محيط معقد ومفارق (Paradoxal) وظاهري التناقض. يحاول المعلّم نقل شغفه بالعلم للتلميذ حتى يفوز
وعن جدارة بحب هذا الأخير وتقديره.
6.
التعلّم
عن طريق نقل مهمة التعليم من المدرس إلى التلميذ
(La dévolution):
يستقيل
المدرس مجازيا من مهمة التدريس ويسلّم إلى التلميذ مهمة التعلّم. المفروض أن يجلس
مدرب فريق كرة على خط التماس ولا يلعب مكان لاعبيه. يحضّر المدرس جيدا الوضعية التعلّمية في المنزل
ثم يعرضها عل تلامذته مع توفير المحيط الملائم ويتركهم أحرارا يبحثون عن الحل دون
شرح أو توجيه هُمُ في غنى عنه.
7.
التعلّم عن طريق التقليد (L`imitation): يتعلّم الولد من أمه أشياء كثيرة دون برنامج
مسبق، يتعلم اللغة والأخلاق والسلوكيات. يتعلّم صبي النجار أو الحداد أو
الميكانيكي المهنة من صاحبها دون تنظير أو منهجية محددة. يتعلّم الابن من والده
الفلاحة أو صيد السمك بالتقليد المباشر والممارسة اليومية دون كتابة ولا قراءة.
ب.
نمر إلى وسائل التعلّم:
1.
معرفة تصورات التلميذ: سبق
أن كتبت ونشرت مقالَين على النت في هذا
الموضوع: "التصوّرات غير العلمية لا تزول بسهولة" و"هل
يستطيع التلميذ بناء معرفة علميّة جديدة فوق
معرفته غير العلميّة القديمة".
2.
بعض صفات التلميذ: يقول
التلميذ: أنا معنِيٌّ بعملية
التعلّم, إذن أنا مسؤولٌ عنها. أجد فيها متعة من نوعٍ مجرّدٍ وفائدة ومعنى. أثق في
نفسي وفي أقراني وفي معلّمي، أكوّن علاقات معهم. أرسّخ معطيات وأبحث عن وسائل
تساعدني على التفكير مثل الرموز والرسوم البيانية والاستعارات والمجازات والنماذج.
أعطي قيمة للمعرفة وفائدتها. أوظف معارفي في المكان المناسب والتوقيت المناسب.
أواجه نفسي بمعلومات مغايرة ومختلفة. أتراجع ثم أتكئ وقتيا على تصوراتي القديمة.
أنهض وأستوعب ثم أكتسب التصورات العلمية الجديدة وأنطلق.
3.
بعض صفات المدرس: على
المدرس أن يكون ناقلا للمعلومات وفي الوقت نفسه مُخرِجًا للوضعيات التعلّمية ومُرافِقًا وسَنَدًا
للتلميذ. عليه خلق رغبة التعلّم عند التلميذ وتوفير المحيط المناسب لها. عليه
تمرير دوافعه ومحفّزاته ورغباته المعرفية للتلميذ. عليه إضفاء معنى لمحتوى درسه.
4.
بعض استراتيجيات المدرس: يخلق المدرس الاحتياج للمعرفة عند التلميذ. يشجع التلميذ بتشريكه في
مشروع يحتوي على ألعاب ومواجهات فكرية وأعمال مجموعات وتحدّيات وأشياء جديدة فيها
بعض المجازفة وفيها أيضًا هامشٌ من الاستقلالية والمبادرة الحرّة. يوفّر المدرس
للتلميذ نشاطا يشدّه ويرغب فيه. يحتوي هذا النشاط على مشروع للوجود والفعل لدى
التلميذ.
خلاصة
القول: التعلّم هو
سيرورة معقدة لا تَمَرَّرُ بوصفات جاهزة. قد يكون التلقين صالحا في وضعية تعلّمية
لا يقدّم فيها الحوار ولا يؤخر. إذا أردنا التغلب على العقبات بسهولة فعلينا تداول
استعمال النماذج التعلّمية بِيُسرٍ حسب الجمهور المستهدف والوضعية التعلّمية
الملائمة.
ملاحظة: أندري جيوردان خَلَفَ العالم السويسري المشهور بياجي. أسس مخبر
تعلّمية وابستومولوجيا العلوم بجنيف منذ وفاة بياجي في 1980 ( Laboratoire de didactique et épistémologie des sciences - LDES ).
إمضائي
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ"
جبران
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 16 ماي 2010.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire