lundi 24 septembre 2018

بطاقة تعريف عِلم "التعلّميّة". مواطن العالَم محمد كشكار، دكتور في تعلّميّة البيولوجيا، دراسة مشتركة وإشراف مشترك بين جامعة تونس وجامعة كلود برنار، ليون 1، فرنسا، 2007





برز هذا العِلم  في فرنسا في السبعينات من القرن الماضي كردّة فعل على فشل التلاميذ في تعلّم الرياضياّت الحديثة وتأسّس أوّل اختصاص وهو "تعلّميّة الرياضيّات". دخلت تعلّميّة المواد إلى تونس في التسعينات من القرن الماضي على يد بعض الروّاد, أذكر من بينهم على سبيل الذكر لا الحصر الأستاذ أحمد شبشوب رئيس الجمعية التونسية لـ"التعلّميّة " منذ    1995 والأستاذة عطف عزّونة المشرفة على قسم تعلّميّة البيولوجيا بجامعة تونس والأستاذ سالم عبّاس (المشرف التونسي على أطروحتي) والأستاذ منذر عبروڤي، أوّل دكتور تونسي في تعلّميّة البيولوجيا. احتضن المعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر بباردو [يُسمى اليوم الجامعة الافتراضية] هذا الاختصاص الجديد في علوم التربية ووفّر له الأرضيّة اللوجستيّة وأفضل الأساتذة من تونس أمثال نور الدّين ساسي ومحمد بن فاطمة ومهدي عبد الجوّاد ومن فرنسا أمثال  بيار كليمان وكوكيدي وأستولفي وأورانج وغيرهم ونواصل نحن, الجيل المخضرم من كهول وشباب مع الآنسة فاتن مدّاح رّئيسة الجمعيّة التونسيّة لتعلّميّة علوم الحياة والأرض, نواصل نشر تعلّميّة البيولوجيا في تونس.

سأحاول تقريبَ الصورة من أذهان القرّاء بعرض جدول مقارنة بين هذا العلم الجديد وعلم سبقه وما زال ينافسه وهو علم البيداغوجيا:
1.     البيداغوجيا (la pédagogie):
-         اختصاص جامعي يدخله حاملو الباكلوريا.
-         المختصّ في البيداغوجيا يخوض في تمشّيات "تعليم" كل المواد فهو بمثابة الطبيب العام.
-         المختصّ في البيداغوجيا يسلّط الضوء في المثلّث البيداغوجي (مدرّس – متلقّ – معرفة) خاصّة على طرق التدريس وأداء المدرّس مع عدم إهمال الركنين الآخرين.

2.     التعلّميّة (la Didactique) :
-         اختصاص مرحلة ثالثة لا يدخله إلاّ المجازون.
-         المختصّ في التعلّميّة يهتم بتمشّيات "تعلّم" مادّة معيّنة فقط كاللغة أو التاريخ أو البيولوجيا فهو بمثابة الطبيب المختصّ.
-         المختصّ في التعلّميّة يسلّط الضوء في المثلّث التعلّمي (مدرّس – متلقّ – معرفة) خاصّة على طرق التعلّم وأداء المتلقّي (تلميذ أو طالب أو متكوّن) وعلى نقد المعرفة في علاقتها بتعلّم المتلقّي وأداء المدرّس.

3.     البيداغوجيا والتعلّميّة:
-         يشتركان في الجمهور المستهدف من رجال التعليم ونسائه والتكوين والتلاميذ والطلبة وواضعي البرامج وغيرهم.
-         يشتركان في جلّ المفاهيم المستعملة من "تصوّرات المدرّسين" و"تصوّرات التلاميذ والأساتذة" و"العوائق الإبستومولوجيّة والنفسيّة و"الصراع الإجتماعي-المعرفي"
 (le conflit socio-cognitif)
 و"الوضعية-المشكل"
 (la situation-problème)
 وغيره.
-         يشتركان في العلوم المرجعيّة مثل علم النفس وعلم الإجتماع وعلم الإحصاء والإبستومولوجيا وعلم التقييم وتاريخ العلوم وغيرها.
-         يتصارعان على النفوذ في الجامعة وفي وزارة التربية.
-         يتنافسان ويتكاملان في رفع مستوى التعلّم والتعليم.
-         في بعض الأحيان يلتقي الإختصاصان في شخص واحد مثل العالِمين الفرنسيّين جيوردان وأستولفي (pédagogue et didacticien).   


حتّى أعرّف أكثر بـ" تعلّميّة المواد  
 (la Didactique des disciplines)
 سوف أعطي نبذة حول بعض المفاهيم التي يشتغل عليها هذا العلم الجديد:
-         تصوّرات المتلقّي 
(les conceptions de l’apprenant):
 يأتي التلميذ أو الطالب إلى القسم وهو يحمل تصوّرات غير علميّة في أكثر الأحيان حول موضوع الدرس: مثلا يعتقد أنّ النبتة الخضراء تتنفّس عكس الإنسان والعلم يقول أن النبتة تتنفس مثل الإنسان, تأخذ الأكسجين وتطرح ثاني أكسيد الكربون نهارا وليلا لكنها تقوم بوظيفة أخرى تسمى  التركيب الضوئي (Photosynthèse)  حيث تأخذ ثاني أكسيد الكربون وتطرح الأكسجين بحضور الضوء. تنبثق هذه التصوّرات من التّفاعل الذي يقع بين ما يحمله المتلقّي من معرفة وقيم وسلوكيات وبين ما يدرسه في المعهد.
-         العوائق (obstacles): ومنها التصوّرات غير العلميّة أو المعرفة العامّة البسيطة المكتسبة لدى المتلقّي والتي قد تعوق اكتسابه لمعرفة جديدة. يبدو أنّ للعوائق  ثلاثة مصادر: العوائق الإبستومولوجيّة, مثلا العائق المتمثّل في الإعتقاد غير العلمي القائل بتوريث الذكاء أو العائق غير العلمي القائل بثنائيّة البيولوجي والنفسي في جسم الإنسان. العوائق التعلّميّة الناتجة عن المدرّس نفسه, مثلا عندما يغرس في التلميذ معرفة غير علميّة كأن يقول له أن المخّ يسيّر أعضاء الجسم كما يسيّر قائد فرقة موسيقيّة أفراد الفرقة. العوائق المتعلّقة بنمو الفرد منذ ولادته و منها الإعاقات النفسيّة – العضويّة.
-         تغيير التصورات من تصور غير علمي إلى تصور علمي:  وهو التحوّل المرجوّ بعد التعلّم (le changement conceptuel).  
-         الصراع "الاجتماعي-المعرفي" 
(le conflit socio-cognitif):
 وهو الصراع الذي يقع في مخ المتلقّي عندما يجد نفسه في وضعيّة تعلّميّة أمام معرفة جديدة وبحضور الأقران والمدرّس.
-         "الوضعية-المشكل"  
(la situation-problème):
 هي وضعيّة تعلّميّة يتوفّر فيها كل مايحتاجه التلميذ. تُبنَى فيها إشكاليّة وعلى المتلقّي فكّ رموزها بمساعدة مدرّسه و/أو أقرانه وهذه الطريقة تعتبر ثورة على الطريقة التلقينيّة التقليديّة.
-         تحليل ونقد الكتب المدرسيّة  
(l'analyse de manuels):
 يحلّل المختص في التعلّميّة كل محتويات الكتاب من نصوص وصور وبيانات ويهدف من بحثه الدقيق والمفصّل رصد كل ما قد يجرّ المتلقّي إلى الخطأ أو يعيق عمليّة التعلّم لديه.
-         "إدراك عملية الإدراك" (Métacognition): تتمثل هذه العملية في "في التفكير في آليات التفكير وفي معرفة أننا نعرف وفي اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل" وكما قال بيار ڤريكو: "لو أن الإنسان الذي يقول "لا أعرف", عرف لماذا يقول لا, لكان قادرا على تحديد نَعَمْ المستقبلية" أو كما يقول المثل الصيني المشهور "لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد"  والسمكة في التعليم هي المعلومة وتعلّم الصيد هو "إدراك عملية الإدراك". أثناء "إدراك عملية الإدراك" ينشط التلميذ ذهنيا وليس تطبيقيا وقد ثبت أن هذا النوع من النشاط الذهني البحت يسمح بالوعي والشعور بالإجراءات والطرق والسيرورات الذهنية الموظفة لحل المشاكل ويرسِّخ اكتسابها.

عندما تهتم التعلّميّة بنقد الأركان الثلاثة للمثلّث التعلّمي (مدرّس ومتلقّ ومعرفة) فهي قد تستعدي بعض الأطراف (تلامذة ومدرّسين وأولياء ومؤلّفي كتب مدرسيّة وواضعي برامج ومتفقّدين وسياسيين) دون قصد منها ممّا قد يجلب لها عداوة شرسة غير شرعية وغير علمية.

يبدو للمختصين في التعلمية أنّ الدراسة الأكاديميّة لـ"التعلّميّة" ضروريّة لممارسة مهنة المدرّس في التعليم الإبتدائي والثانوي والجامعي, كلّ في اختصاصه. يتفرّع علم "التعلّميّة " لعدّة اختصاصات مرتبطبة بالموادّ المدرجة في برنامج التعليم أو التكوين مثل  تعلّميّة البيولوجيا,  تعلّميّة الفرنسيّة, تعلّميّة الرياضيّات, تعلّميّة العربيّة, تعلّميّة الفيزياء والتكنولوجيا، تعلّميّة التربية البدنيّة, تعلّميّة التاريخ, تعلّميّة الجغرافيا، تعلّميّة التفكير الإسلامي.

في النهاية, أستسمج أصحاب التفكير الديكارتي الصارم في التعبير عن شعوري الذّاتي نحو علم  "التعلّميّة": أنا عشقت هذا العلم الذي أمضيت في دراسته  تسع سنوات من عمري بين جامعة تونس وجامعة كلود برنار بفرنسا صحبة زملاء وزميلات من أروع ما يكون. فتح لي هذا العلم أبواب المعرفة على مصراعيها وحرّرني من سجن العلوم التجريبيّة فاندفعت أسبح في العوالم الرحبة للعلوم الإنسانيّة الراقية مثل  تاريخ العلوم والابستومولوجيا وعلم النفس وعلم الإحصاء وعلم التقييم وعلم المنهجية وعلوم التربية. عشت فيها جلسات صوفيّة من اللذّة الذهنيّة في حضرة علماء ماتوا بعد ما احتلوا مني الشرايين والخلايا. ماتوا ولم تندثر أعمالهم أمثال العالم "بياجي" مؤسّس "علم النفس المعرفي" 
(La psychologie cognitive)
  و"علم إبستيمولوجيا النمو عند الطفل" 
(de l’enfant  l'épistémologie génétique)
 ومخترع "مفهوم البناء التدريجي والمعقّد للمعرفة لدى الطفل" (constructivisme)   والعالم "فيڤوتسكي" [عالم النفس والبيداغوجيا وصاحب  نظريّة "المنطقة الأقرب للنمو" 
(La zone proximale de développement) 
والعالم "باشلار" مكتشف  مفهوم "القطيعة الإبستومولوجيّة" في تطوّر العلوم 
(La rupture épistémologique).     

أتمتّع الآن بصداقة علماء أحياء أمثال "بيار كليمان" (المشرف الفرنسي السابق على أطروحتي)  من جامعة كلود برنار و"أندري جيوردان" مؤلّف ثلاثين كتابا والحامل للشهائد من كل زوجين اثنين (2 اجازة و2 دراسات معمّقة و2 دكتورا) وهو الآن يدير مخبر ابستومولوجيا وتعلميّة العلوم بجامعة جنيف في سويسرا.  أسفي الوحيد أنّني  تحصّلت على الدكتورا في الخامسة والخمسين من عمري لأسباب يطول شرحها والباحثون في العلم يعرفون أنّ هذه الشهادة العليا في التعليم ليست إلاّ جواز سفر أو بطاقة دخول إلى مجال البحث العلمى.

إمضائي
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 7 ماي 2009.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire