dimanche 26 janvier 2020

التلميذُ أمْ مدرّسُه، مَن مِنهما الفاشلُ الكسولُ؟ (دون تعميمٍ طبعًا). مواطن العالَم



بطاقة تعريف ضرورية: محمد كشكار، 66 سنة، أستاذ علوم سابق، متقاعد من التعليم الثانوي، دكتور في ديداكتيك البيولوجيا، متخرج سنة 2007 تحت إشراف مشترَك، جامعة تونس وجامعة كلود برنار، ليون 1، مرحلة ثالثة بين فرنسا وتونس دامت تسع سنوات (1998-2007).

ملاحظة منهجية: سأتحدّث عن النظام التربوي الحالي في تونس، وسأركّز جلَّ نقدي على المدرّس، وأهملُ ظرفيًّا ومنهجيًّا الأطراف الأخرى (التلميذ، الوزارة، الإدارة، الأولياء، المتفقدون، إلخ.). هذا لا يعني البتة أن المدرّسَ هو المسئول الأكبر أو الأساسي، والمسئولية الأخلاقية عندي لا تُجزَّأ فكل طرفٍ في المنظومة التعليمية هو مسئول أخلاقيًّا 100% ولا أحد يحق له التنصُّلَ من مسئوليتِه.

تعالوا نقارنُ بين التلميذِ ومدرّسِهِ، واصبروا عليّ حتى نهاية المقال أسفله!
1.     فلنتوكّلُ على الله ونبدأ بِصِفَة "الكسلِ":
لتبليغ المعرفة للتلميذ (L`apprenant)، يحتاجُ المدرّسُ (L`enseignant في الابتدائي والإعدادي والثانوي والعالي) إلى وسائل التبليغ 
(Les théories et les moyens d`apprentissage).
ما هي وسائل التبليغ؟
هي صِنفانِ: صِنف تكنولوجي وصنف معرفي:
-         يتمثل الصنفُ الأولُ في وسائل الإيضاح (ما أعرفه منذ سنوات: سبّورة تفاعلية، فيديو بروجكتور، خرائط، إلخ.) وآلات قياس وتجريب (ما أعرفه منذ سنوات: فولتماتر، أنبيرماتر، أوسيلّوسكوب، مِجهر، حاسوب للمحاكاة ومتابعة التجارب، إلخ.). هل هي متوفّرةٌ وبصفة كافيةٍ في جميع مؤسساتنا التربوية من بنزرت إلى بنڤردان (مؤسسات الابتدائي والإعدادي والثانوي والعالي)؟ الجواب بالنفي طبعًا! في هذه الحالة فقط، المدرّس ليس مسئولاً، لكن في المقابل لقد عاينتُ بِنفسي مرة في مدرسة ابتدائية تَوفُّر وسائل إيضاح بسيطة لكنها كانت مركونة في مكتب المدير ولم يستعملْها المعلّمون، يصح ذلك على بعض الأساتذة في بعض الإعداديات والمعاهد والكليات، ربما يفعلون ذلك عن كسلٍ.

-         الصنف الثاني يتمثل في المعارف الضرورية لتبليغ المعرفة، لا أقصد معرفة الاختصاص المدرَّس كالرياضيات أو الفيزياء أو غيرها، بل أقصد إبستمولوجيا الاختصاص وعلوم التقييم (La docimologie) والمنهجية (La méthodologie) والديداكتيك وعلوم التربية (البيداغوجيا، علم النفس التربوي، علوم التواصل، علوم الحاسوب ووسائطه - Les interfaces informatiques). هل تلقّى المدرسُ التونسي تكوينًا في هذه المعارف؟ (أنا بدأتُ دراستها في عمر 46 بعدما درّستُ دونها 24 عامًا). هل بَذَلَ المدرسُ التونسي مجهودًا ذاتيًّا لتفادي هذا النقص الفادح، خاصة والعلمُ اليومَ منشورٌ على قارعة الطريق، أعني في المكتبات العمومية والافتراضية، وعلى قنوات اليوتوب؟ وهل مدرّسُ اليوم يُطالعُ أكثر من تلميذ اليوم؟ وحتى إذا طالع المدرّسُ في اختصاصه، فهل يطالع في غير اختصاصه أو في علوم التربية وبلغة أجنبية؟ الجواب وفي كل الحالات بالنفي طبعًا! مَن الكسول إذن، التلميذ أم المدرّس، أم الاثنان في الهواء سواء، "كِي سِيدِي كِي جْوادُو"؟

2.     نمرّ الآن إلى صفة "الفشل" التي نُلصِقُها عادةً بالتلميذ:
حسب التقارير الرسمية لوزارة التربية التونسية، 100 ألف تلميذ تونسي ينقطعون عادة عن الدراسة مبكّرًا (عمر 15 أي في نهاية المرحلة الإعدادية أو قبلها قليلاً)، جلهم يعود للأمية المركّبة.
مَن يتحمّل مسئولية هذا النزيف في الشريان الأبهر (Aorte) للنظام التربوي التونسي، التلميذ أم المدرّس؟ المسئولية الأكبر تقع على عاتق المدرّس والوزارة، أما التلميذ والولي فيتحملان قسطًا مهمًّا منها، مع الإشارة الهامة إلى أنني لا أميل إلى مبدأ تجزئة المسئولية الأخلاقيّة فكلهم مسئول 100% وكلهم مشارك 100% في تردّي الوضع التربوي الذي وصلنا إليه اليوم.

خلاصة القول: لِنفرضْ جدلاً أن التلميذَ هو الفاشلُ الكسولُ، فحتى في هذه الحالة فالمسئولية الأكبر يتحمّلها المدرّس لأنه لم يعرف كيف يتعامل مع هذا التلميذِ الفاشلِ الكسولِ، ولم ينجح في زرعِ الأملِ ورغبةِ التعلّمِ في نفسِ الفاشلِ، وحبِّ العملِ في دماغِ الكسولِ وعِشقِ العلمِ في قلبِهِ.
Le grand épistémologue français Gaston Bachelard a dit: « Les professeurs ne comprennent pas que leurs élèves ne comprennent pas ». C`est le titre de l`un de mes trois ouvrages sur le système éducatif tunisien

3.     فقرةٌ خاصةٌ بأولاد الفقراء وهم الأغلبية الساحقة في التعليم العمومي شبه المجاني:
ما حظ أولاد الفقراء اليوم من التعليم العمومي في شكله الحالي؟ يبدو لي أن حظَّهم كحظِّ الكرامِ في مأدبةِ اللئامِ!
أ‌.        كيف كانت المدرسة العمومية في العشريات الثلاث الأولى بعد الاستقلال (60-90):
-         كانت مجانية 100%: أنا درستُ في التعليم العمومي المجاني من 1958 إلى 1972، أي لم أشترِ كرّاسًا ولا كتابًا ولا قلمًا واحدًا من مالي الخاص وهل كان لي مالٌ أصلاً، ولم أدفع يومًا معاليم الترسيم. كنا في الابتدائي نتناول وجبتين صحيتَين ساخنتَين،  واحدة صباحًا والأخرى في منتصف النهار. في الثانوي 
(Logé nourri blanchi).
 في الجامعة منحة بـ35د، كانت أقوى من شهرية موظف في البنك وأقل قليلاً من شهرية معلّم.
-         كانت مدرستُنا مدرسةً جمهوريةً 
(École républicaine):
كل تلميذ يحصدُ ما زرعَ (La méritocratie) دون تمييز بين ابن غني وابن فقير، ودون دروس خصوصية خارج أسوار المدرسة (كان معلمو السيزيام وأساتذة الباكلوريا يتطوّعون لتدريسنا ساعات زائدة داخل المؤسسة). كنا نتقن الفرنسية والعربية قبل التعريب المشوّه الذي بدأ من سنة 1975 ابتداءً بتعريب تدريس مادة الفلسفة في عهد وزير التربية  إدريس ڤيڤة قبل مجيء محمد مزالي. لكننا كنا ونحن أساتذة (1974) ننتقد سياسة الانتقاء التي انتهجتها الدولة (يُحكَى أن من بين 100 يدخلون المدرسة الابتدائية، 14 منهم فقط كانوا يصلون إلى الجامعة).
-         كانت المدرسة توفّر لأولاد الفقراء القاربَ الوحيدَ للنجاة من الفقر، وتفتح لهم باب المِصعد الاجتماعي ليرتقوا من طبقةٍ إلى طبقةٍ أفضلَ، اجتماعيًّا ومادّيًّا.
-         كان الانضباطُ سائدًا (La discipline absolue) في كل المؤسسات التربوية وفي مراحل التعليم الثلاث، ابتدائي (6 سنوات) وثانوي (6 ثم 7 سنوات) وعالٍ (2 أو أربع سنوات).
Perrenoud, un grand pédagogue a dit : L`absence d`autorité chez les enfants est une forme de maltraitance
-         كان الدافع (La motivation) لدى التلميذ والمدرس دافعًا قويًّا ذاتيًّا داخليًّا (Un moteur interne).
-         كان المدرسُ مؤمنًا برسالته التربوية، وإيمانه القوي هذا هو الذي غطّى على عيوبه الأخرى، كالنقص في الكفاءة العلمية والنقص في التكوين البيداغوجي. كان إخلاصُه في العملِ يجعله يُعطي بسخاءِ، كان يُحضّر درسَه بِجِدٍّ ويُلقيه بحماسٍ وجِدٍّ أكبرَ.

ب‌.   كيف أصبحتْ المدرسة العمومية اليوم في العشريات الثلاث الأخيرة (90-2019):
-         غابت أو قلّت فيها المبيتات المجانية في الثانوي.
-         لم تعد مجانية التعليم مطلقة: التلميذ الفقير اليوم مجبرٌ على دفع رسوم رمزية ومجبرٌ أيضًا على شراء كتبه وكراريسه وأقلامه.
-         ذهب الانضباط وحل محله التسيب لدى التلامذة والأساتذة والقيمين وضاع الاحترام الهرمي الضروري لسير الدروس في هدوءٍ وتركيزٍ.
-         الناجحون كثروا و"البركة ربي إجيبها".
-         فقدتْ المدرسة العمومية نقاوتَها وتراتُبيتَها (hiérarchie positive) وانضباطَها وعدالتَها وحسنَها وجمالَها وجاذبيتَها وحِنيّتَها وجمهوريتَها وإشعاعَها.. فقدتْ تقريبًا كل شيء إلا مَن رحمَ ربي.. وربي يستر العاقبة!
-         انتشرتْ الدروس الخصوصية باهظة الثمن، فانتفى تكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد وقلّ الخيرُ في بلادي وعمّت الأنانية والله يقدّر الخير!
-         ابن الفقير هو المتضرر الأكبر من هذا التغيير إلى الأسوأ: بيئتُه المتواضعةُ ماديًّا وثقافيًّا لا تؤهّله لمنافسة ابن الغني المسنود بالدروس الخصوصية، فعادةً ما يكون التلميذ الفقير ككيس تدريب على الملاكمة يُفرغ فيه المدرّس شحنةَ غضبِه، فينفر، يفشل وينقطع.  وإذا لم نرغِّبْه في التعلم ونُبجله في القسم 
(Pédagogie différenciée
 فالعدالة هنا تكمن في قلة العدل بين الفقراء والأغنياء، نميّزُ ابن الفقير حتى يصل إلى مستوى ابن الغني في نفس القسم، خاصة إذا كان هذا الأخيرُ متفوقًا عليه بفضل الدروس الخصوصية. ابن الغني له سندٌ وهو المدرس المقاول، يأتيه إلى داره طامعًا صاغرًا ذليلا، أما ابن الفقير فلا سندَ لَهْ إلا الله والمدرسة العمومية.
Rousseau a dit: Donnez à l`enfant le désir d`apprendre et toute méthode sera bonne


خاتمة: تونس اليوم ليست أفقر ماديًّا من تونس الأمس، حتى توفر لتلاميذها ما كانت توفرته لتلاميذ الأمس. حقًّا إن إرادةَ تونس اليومَ أقلُّ ألف مرة من إرادة تونس الأمس.

إمضاء مواطن العالَم
"أنا عند الإسلاميين شيوعي وعند الشيوعيين إسلامي! لأن المفكر الحر يستحيل تصنيفه.." المفكر الإيراني الإسلامي الحر علي شريعتي، صديق الفيلسوف الفرنسي اليساري الملحد جان بول سارتر
أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ، لا أراهُ في الأنظمةِ القوميةِ ولا اليساريةِ ولا الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ على المستوى الفردِيِّ وكُنْ سياسيًّا كما شِئتَ (La spiritualité à l`échelle individuelle).
"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو
 و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
لا أقصدُ فرضَ رأيِي عليكم بالأمثلةِ والبراهينَ بل أدعوكم بكل تواضعٍ إلى مقاربةٍ أخرى، وعلى كل مقالٍ سيءٍ نردُّ بِمقالٍ جيّدٍ، لا بالعنفِ اللفظيِّ.

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الجمعة 22 مارس 2019.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire