بعد المساندة والفرحة وإشعال
الشموع لزملائي الأساتذة المضرِبين، حان وقتُ العتاب والتحليل والحساب. بعد
العاطفة يأتي العقل. بعد نقد الغير وجبَ نقد الذات. بعد تحميل المسؤولية للوزارة والإعلام
والأولياء، علينا نحن الأساتذة مراجعة أخطائنا وتحمل مسؤولياتنا والمبادرة في
إصلاحها.
لماذا
بالَغ أولياء التلامذة في شيطنة الأساتذة؟
لأن الأساتذة
المقاولين، أساتذة الدروس الخاصة خارج المؤسسات التربوية، وما أكثرهم، جعلوا
الأولياء ينزفون من جيوبهم، غنيّهم ومتوسّطهم وفقيرهم، وقايضوهم على مستقبل
أولادهم بالغالي والنفيس. وهل في استطاعة أي ولي أن يبخل على مستقبل ابنه مهما كان
دخله المادي، يقتطعُ من قُوتِه إن لزم الأمر، يدفع وهو فرحانٌ بابنه وفي نفس الوقت
كاظمٌ غيظه وحانقٌ أشدّ الحنقِ على الأستاذ المقاول الأناني الجشع الطمّاع. وهل يوجد وليٌّ واحدٌ لم يمرّ تحت
مقصلة هؤلاء الروباسبياريون؟
جل مواد
التدريس دخلت في مجال السلعنة والبيع والشراء والعرض والطلب، سوق الدروس الخاصة، سوق
الربح السهل الحرام والمشط، سوق على شكل مدارس خاصة في الشقق والڤاراجات، مدارس
تُدرِّس دون وسائل إيضاح ومدرّسون يدوسون على البيداغوجيا دوسًا ويحشون الأدمغة
حشوًا، حشوٌ لا طائل معرفي من ورائه، مدارس دون ترخيص، سوق موازية معفية من الضرائب.
سوقٌ
تضم الأستاذ العادي واليساري والقومي والإسلامي، وحدة وطنية في الانتهازية. والمفارقة الكبرى أن هؤلاء الأساتذة المقاولون
أنفسهم هم مَن يدّعون الدفاع عن التعليم العمومي وهم أولُ مَعاوِلِ هَدْمِه.
هل يستقيم أن
يكون حاميها حراميها؟
جل المواد
سُلعِنت ما عدى التربية المدنية والإسلامية والتصوير الفني والموسيقى، أي ما عدى القانون
والقِيم والأخلاق والفنون. وهل نحتاجُ لفنونٍ أو قانونٍ أو قِيمٍ أو أخلاقٍ في
عالَمٍ يُخرَقُ فيه القانون وتَنعدمُ داخله القِيم وتنتفي فيه الأخلاق؟ عالَمٌ
خالٍ من الجمالِ. عالمٌ قبيحٌ على قدر قُبحِ المتورّطينَ فيه.
هؤلاء
الأساتذة المقاولون، وما أكثرهم، لا يستحون، لا يشبعون، وإلى ربهم أو ماركِسِهم لا
يرجعون. أفقرُ مقاولِ فيهم في أفقرِ حيٍّ يكسب ألف دينار في الشهر فوق مرتبه، أما الثعابين
الكبار منهم فهم متمترسون في الأحياء المتوسطة والراقية حيث يتراوح
"المصوارُ" الشهري للواحدِ فيهم
-خارج مرتبه- بين أربعة آلاف وثمانية آلاف دينار على أقل تقدير. لنفرض جدلاً أن متوسط مرتب الأستاذ
يساوي ألف دينار، فهم يطالبون بالشهرية رقم 13، وهم في الواقع يحصلون- على حساب أبنائنا الأبرياء- على
الشهرية رقم 24 للأستاذ برتبة سرجان "أوتِيدْ"
(12من الدولة + 12 من الأولياء)،
والشهرية رقم 60 للأستاذ برتبة كولونال "أوتِيدْ"
(12+48) والشهرية رقم 108 (12+96) للأستاذ برتبة جنرال "أوتِيدْ"،
رُتَبٌ عسكرية للأساتذة المرتزقة الذين يشنون حربًا ضروسًا ضد نشر المعرفة وتكافئ
الفرص بالنسبة لكل التلامذة دون تمييز طبقي. أخص باللعنة منهم أباطرة الرياضيات
والفيزياء، والله لا يستحقون صفة مربّي، فمربّي خيول أشرف منهم وأكثر رحمة بخيوله
من رحمتهم هُمْ بتلامذتهم.
شططٌ، سرقةٌ،
جشعٌ، نهبٌ، عبثٌ، كُفرٌ اجتماعي ما بعده كُفرُ!
خاتمة: أصبح المعلم اليومَ تاجراً جشعًا ولم يعد
رسولا... فكيف تطلبُ إذن من الولي أن يقومَ له ويوفّه التبجيلا؟
ملاحظة:
أستثني طبعًا من هذا الغضبِ الكشكاري، الأساتذة الرسُلُ وهم كثرُ، الأساتذة الصامدون
ضد الإغراءات المادية وأساتذة "أوتِيدْ" المكتفين بـ"المصوار" القليل (12
تلميذ مقسّمين على ثلاث مجموعة، على شرط أن يكونوا من غير تلامذتهم المباشرين
وبترخيصِ من المندوبية الجهوية للتعليم).
أكون لئيمًا
لو لم أستثن أيضًا أساتذة "أوتِيدْ" الذين في قلوبهم شيءُ من الرحمة،
أعني بهم الأساتذة الذين لا يأخذون مقابل على أولاد الفقراء وأولاد الزملاء وأنا
واحد من هؤلاء الأخيرين.
وليس صدفةً
أن من بين عديد الزملاء الأصدقاء والأحباب، لم أجد إلا أستاذًا
واحدًا أحدًا، أستاذًا متعفّفًا، مدرّسُ فيزياء كفءٌ بمعهد المنزه وقاطن بحمام
الشط، اسمه لطفي الجلاصي، لا يعطي دروسًا خاصة خارج معهده، يستحق منّا جميعًا تحية
إكبارٍ وتقديرٍ على صموده الأسطوري ضد الإغراءات المادية رغم أنه العائل الوحيد
لعائلته.
إمضائي
"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ"
جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الجمعة 27 أفريل
2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire