الله يسامح الدولة التونسية التي حولتني من باحث عِلم إلى "حكواتي
حواديث". أغدقتْ عليّ الدولة مشكورة من أموال الشعب 12 عاما تعليم عالٍ: 5
للإجازة و2 للماجستير و5 للدكتورا أما العام الثالث عشر فقد صرفتُ فيه على نفسي
لدراسة عام فلسفة بالمراسلة في جامعة رينس بفرنسا. جلبتْ لي الأساتذة المشهورين من
فرنسا ومكّنتني من السفر إلى ليون تقريبا عشر مرات بغرض التكوين العلمي في أحسن
الجامعات الفرنسية, جامعة كلود برنار ليون 1 بفرنسا (UCBL1). مع العلم أنه يكفي ثلث
هذه المدة لتأدية وظيفتي الحالية كأستاذ تعليم ثانوي. لم ينتدبوني في الجامعة
لتدريس اختصاصي في تعلمية البيولوجيا أو فلسفة تعليم البيولوجيا
(La didactique de la biologie)
الذي
أضعتُ من أجله 7 سنوات بحث وتمحيص. الأغرب أنني أرى متفقدي الثانوي يدرّسون
التعلمية في المعاهد العليا دون أن يقضوا ولو شهرا واحدا في التكوين الأكاديمي في
هذا الاختصاص والأدهى و الأمرّ أنه يوجد
بالجامعة التونسية قرابة عشرة آلاف من الأساتذة الجامعيين لا يحملون شهادة
الدكتورا التي أفنيتُ للتحصل عليها 7 سنوات من عمري. سأحاول القيام بدوري الجديد
على قدر المستطاع وسأروي لكم حكايتي مع وزير التربية التونسي السابق.
عام 1998 وفي بداية المرحلة الثالثة من التعليم العالي درستُ نظرية ما بعد
أو ما فوق الوراثي
المخي (Épigenèse
cérébrale)
هذه النظرية التي تقول بتفاعل الموروث والمكتسب
داخل خلايا المخ البشري. ينبثق من هذا التفاعل المستمر الذكاء, فالذكاء إذن هو 100 % موروث بيولوجي و100 %
مكتسب حضاري. لا نستطيع الفصل ولا القسمة بينهما لشدة تشابك عديد المتغيرات. لا
يولد الإنسان ذكيا أو غبيا (إلا في بعض الحالات المرضية) لكن قد يصبح الإنسان ذكيا
إن توفر له المحيط المناسب وإن كد واجتهد و قد يبقى عاديا إذا لم يتوفر له المحيط
المناسب. تعلّقتُ
بهذه النظرية التي تعارض تأليه الجينات أو المورّثات وتنسب لهم عن خطأ متعمد كل
القدرات الذهنية البشرية من ذكاء وموهبة وفن وتفوّق وغيرها. هذه النظرية لا تُدرّس
في تونس في الثانوي ولا في الجامعة وقد بدأ تعليمها في فرنسا سنة 2001 في السنة
ثالثة ثانوي علمي, أي عام قبل الباكلوريا.
ذهبتُ مرّةً إلى مقر وزارة التربية التونسية واتصلتُ بمكتب الضبط وطلبتُ
مقابلة الوزير. طلب منّي الكاتب تعمير استمارة فيها الاسم واللقب ورقم بطاقة
التعريف وسبب المقابلة. كتبتُ في خانة السبب ما يلي: سيدي الوزير أطلبُ مقابلتك
شخصيا حتى أحاول إقناعك بإدراج نظرية "ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي" في
برنامج علوم الحياة والأرض سنة ثالثة ثانوي, أي عام قبل الباكلوريا.
بقيتُ أنتظر ما يقارب شهرين حتى رنّ يومٌ جرسُ هاتفي القارّ بمنزلي بحمام
الشط على الساعة الثانية عشرة, رفعتُ السماعة فقالت لي كاتبة الوزير: "أنت
محمد كشكار", قلت: "نعم", قالت: "السيد الوزير ينتظرك في
مكتبه حتى الساعة الثانية بعد الزوال". ركبتُ سيارتي الكورسا فورا وبعد نصف
ساعة كنت عند باب الوزير فوجدتُه مفتوحا على مصراعيه. طرقتُ الباب ودخلتُ وقبل أن
أسلّم عليه قلت له: "قال فيك صديقيَّ، طلبتُك سابقا, أستاذ التربية المدنية
وأستاذ العربية (رئيس فرع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بالزهراء ورادس وحمام
الأنف), قالا أنك يساري ومثقف جدا وقد كانت قاعة محاضراتك في الجامعة تغصّ بطلبتك
وغير طلبتك. أما أنا فعلميُّ التكوين, مسلم النشأة، يساري الأهداف, ديمقراطي
الوسيلة, علماني الهوى ونقابي قاعدي، أختلفُ عن كل المحترفين والمحترفات في
النقابة والدين والسياسة والرياضة والغناء وحتى في حقوق الإنسان وخاصة الخبراء
المقاولين والمحللين السياسيين نجوم الفضائيات العربية. لكنني أحترمُ ابنتي
المحجبة [ أتمنى فقط أن لا تتنقّب] وأحترمُ أيضًا أخوتي وأخواتي وأبناء أخواتي
وبنات أخواتي وأصحابي وأقاربي وقريباتي المتدينين والمتدينات، المحجبات منهن و غير
المحجبات، حتى لو اختلفتُ معهم أو معهن
حول موقف العلمانية [بفتح العين] من التديّن عموما". قال لي الوزير:
"ظننتك كندي" (Canadien).
لا أعرفُ لماذا حشرني في زمرة الكنديين, المتعلمين المدنيين المتحضرين اللطفاء
الكرماء الطيبين و أنا البربري-الكنعاني الأصل، لا أحملُ أي صفة من صفاتهم ولا
أشبهم إلا في عدد الكروموزومات الـ46 وحتى هذه الحقيقة العلمية كان في نفسي منها بعض الشك حتى درستُ اكتشاف
طبيعتهم وعددهم من العالم الألماني الذي أعجز عن كتابة اسمه بالعربية
(Wilhelm von Waldeyer-Hartz, 1891).
دخلتُ، جلستُ قبالته وهو يدخّن "المارس ليجير" وبدأتُ في
الحديث: "سيدي الوزير هل تعرفُ نظرية "ما بعد أو ما فوق
الوراثي المخي"؟ قال
بكل تواضع العالِم وصراحته: "لا". قلت: "سأشرحُها لك" ثم توسّعتُ
في الشرح وقدّمتُ له نسخة من البرنامج الرسمي الفرنسي الذي يَنُصُّ على تدريس هذه
النظرية في الثانوي وطلبتُ منه ما جئتُ من أجله، ألا وهو إدراج هذه النظرية في
برنامج العلوم. أخذَ مني الوثائق بكل لطفٍ وانبهارٍ وقال لي: "أول مرّة
يأتيني نقابيٌّ بمثل هذا الطلب العلمي المجرّد من كل أغراضٍ ماديةٍ في الزيادة في
الشهرية". حين لمستُ تجاوبَه وإعجابَه بطرحي وفكري تماديتُ وأطلقتُ العنان
لجنوني وهمومي البيداغوجية والتعلّمية وبدأتُ أحدّثه في مواضيع لا علاقة لها بغرض
الزيارة، لا من بعيد و لا من قريب. حكيتُ له عن آخر تكوينٍ في الإعلامية وعلوم الحاسوب
تلقيتُه في مدينة نانسي بفرنسا ووصفتُ له قاعات الدرس الفرنسية المجهّزة بالحواسيب
لتدريس العلوم. نقلتُ له تطبيق "بيداغوجيا المشروع" في فرنسا على تلامذة
الثالثة ثانوي وكيف رأيتُهم بأم عيني يعرضون مشروعهم المتمثل في "دراسة تأثير
الأمطار الحامضة على النباتات" ويدافعون عنه حتى خلتهم طلبة المرحلة الثالثة
عندنا يعرضون أطروحتهم أمام لجنة الامتحان. عرضتُ عليه أيضا ودون مقدمات وجهة نظري
في عملية الغش في الامتحانات وقلت له أن للغش حلول علمية ونحن نطبق الحلول
التأديبية فقط وأضفتُ: "سأتجرأ سيدي الوزير وأقول رأيي في الموضوع
بصراحة". أجابني باحترام وفضول: "قل". قلت له: "سيدي الوزير,
لو ضبطنا تلميذا يغش في الامتحان فأنت أوّل من يَمثُل أمام مجلس التربية في المعهد
لأنك أنت المسئول الأول عن الأسباب التي دفعت التلميذ إلى الغش ومن بينها اكتظاظ
الأقسام وكثافة البرنامج وطوله وعدم تسليح المدرس
بالعلوم الضرورية لأداء مهمته مثل إدراك عملية الإدراك والابستومولوجيا
وعلم التقييم وعلم نفس الطفل وتاريخ العلوم والبيداغوجيا والتعلمية". ابتسم
وقال لي: "هذا رأيي, أردّده دائما". بقيتُ ساعتين تقريبا وأنا أهذي بكل
ما يخطرُ على بالي من نظريات تعلّمية تعلمتُها حديثا. أنصتَ إلي بكل احترامٍ وتعاطُفٍ
ولم يقاطعني حتى هدأتْ عاصفتي وخَفّتْ حماستي فودّعني توديع الأصدقاء بعد ما وعدني
بالنظر في طلبي. خرجتُ من عنده وأنا مزهوٌّ بنفسي ومعتدٌّ بقدرتي على الإقناع, ألم
أقنعْ وزيرًا؟
رجعتُ إلى حمام الشط وانتظرتُ على الجمر موعد جلسة المقهى حتى أروي لأصدقائي
ما دار بيني وبين الوزير وأنفشُ ريشي طربا كالطاووس وأتباهى عليهم وأقول كما قال
عبد المنعم مدبولي في مسرحية "ريّة وسكينة": "ناسبنا الحكومة".
بعد شهر تقريبا من المقابلة وأنا داخلٌ صباحا إلى معهد برج السدرية
بالضاحية الجنوبية لتونس العاصمة حيث أدرّس علوم الحياة والأرض, اعترضني المدير
مبتسما وقال لي: "تعالَى وشاهد ما أرسلَ لك الوزير". دخلتُ مكتب المدير
فوجدتُ عشرة حواسيب. لم أصدّق في الوهلة الأولى حتى أكّد لي المدير أن الهدية
تخصني شخصيا. كتبتُ رسالة شكر بسيطة باسمي الشخصي وبعثتُها إلى الوزير عن طريق
التسلسل الإداري. استدعاني المدير الجهوي السابق ببنعروس وطلب مني إعادة كتابة
رسالة الشكر وقال لي : "تُكتَبُ الرسائل إلى الوزراء بالقلم الأخضر".
أملَى عليّ نصّا فيه تنويهٌ كبيرٌ بالتسهيلات الكبيرة التي قدمتها لي الإدارة
الجهوية لتأسيس أول مخبر تدريس علوم الحياة والأرض بالحاسوب في الجمهورية
التونسية. امتثلتٌ لطلبه مجاملة وإنصافا له لأن هذا المدير الجهوي رحّب بي ترحابا
مبالغا فيه بعد ما عَلِمَ بعلاقتي مع الوزير وسأحكي لكم ما حدث بيني وبين هذا
المدير من وقائع: قبل أن أطلبَ مقابلة الوزير أردتُ أن أتّبع التسلسل الإداري
وطلبتُ كتابيا مقابلة المدير الجهوي فتجاهلني تماما. استدعاني بعد ما أصبحتُ حسب
تقديره من حاشية الوزير وكنتُ مُدرِكًا لهذا الضعف الذي انتابه فجأةً فدخلت عليه
مكتبه وتصرفتُ وكأنني رئيسُه في العمل، عاتبتُه بشدة على رفضه السابق مقابلتي فقام
من كرسيه واستقبلني بالأحضان واستدعى كل رؤساء الأقسام السابقين في الإدارة
الجهوية وأوصاهم باستشارتي في كل ما يخص
الإعلامية وعلوم الحاسوب وكأنني خبيرٌ في الميدان وأنا في الواقع لا أعرف إلا
استعمال الحاسوب للكتابة والإبحار مثل أي مبتدئ.
وبسرعة غريبة وغير معهودة في وزارتنا, تجنّد كل أعوان الإدارة الجهوية وكل
فنّيي المعهد الوطني للمكتبية والإعلامية وجهّزوا لي قاعة وركّبوا الحواسيب العشرة
و"أصبح للعُرْبِ قَمَرْ" وكان أول مخبر حواسيب لتدريس علوم الحياة
والأرض في إفريقيا والشرق الأوسط وممكن قبل الباكستان وبنغلاديش أيضا. أثناء أشغال
تجهيز المخبر الوحيد من نوعه كان الوزير يتصل بي شخصيا في المعهد للاطمئنان بنفسه
على سير الأشغال وكان يرفض التحدث إلى المدير ويسمع مني مباشرة دون وساطات.
علا شأني وصعد طالعي وسطع نجمي عند موظفي وزارة التربية وكانت مديرة
التعليم الثانوي تتصل بي هاتفيا في منزلي لتطلب مني مدها بقائمة متفقدي علوم
الحياة والأرض الذين سيتم استدعاؤهم في الندوة التي ستُقام حول هذا الموضوع في
مركز التكوين المستمر بريانة وطلبتْ منّي
إعداد محاضرة ألقيها في الندوة حول تجربتي الجديدة. كنت مغتاظا من متفقد العلوم
بقفصه لأنه أسقطني في امتحان ترقية عام 86 لخطأ علمي تافه فطلبت استدعاءه ليحضر
تدخلي ويعرف أن الخطأ ليس عائقا في سبيل التعلم وقد أخطأ كبار العلماء ومن أخطائهم
استفادت البشرية وتَقدّم العلم.
أعددتُ نفسي جيدا كعادتي وقلتُ في نفسي: "اليومُ يومُك يا كشكار مع
بعض المتفقدين الذين أهانوك واستنقصوا من قيمتك العلمية". كان جمهور
المتفقدين صامتا وأنا أكِيلُ لهم النقد والوصف الدقيق وقلت فيهم أكثر مما قاله
مالك في الخمر, لا أخشى في الحق لومة لائم ومن كان الوزيرُ سندَه فمن سيتجرأ
ويعاندُه، قلتُ في المتفقدين: "جلهم لا يحمل أي شهادة في الاختصاص أعلى من
شهادة الأستاذ وأغلبيتهم لم يحصلوا على تكوين أكاديمي في البيداغوجيا ولا في
التعلمية ولا في الابستومولوجيا ولا في علم نفس الطفل ولا في علم التقييم, فكيف
سيدي الوزير سيستفيد الأستاذ من حلقات التكوين التي يشرفون عليها؟ كان أجدر بهم
استدعاء أهل الاختصاص وليس انتحال صفتهم"، وانتحال الصفة كما تعلمون جريمة
يعاقب عليها القانون. كنتُ أسترسلُ في الحديث وعينَا الوزير المليئتان بالإعجاب
تقولان لي زِدهم الله يرحم والديك وسمّعهم ما لم يسمعوه طوال حياتهم المهنية واثأر
لمئات الزملاء من بعض المتفقدين الذين أذلّوهم وأحبطوهم ولخبطوهم بوصفاتهم
البيداغوجية الجاهزة وأرهبوهم بتفقدهم اللاعلمي وزياراتهم الفجائية المخابراتية
الانتقامية.
بعد المحاضرة, صافحني الوزير وشكرني. لامني متفقدي المباشر
الحاضر في الاجتماع على
ما قلتُه في حق زملائه فأجبته: "هل تستطيع وتتجرأ أنت أو أحد زملائك وتقول
للوزير ما قلته أنا: "إذا غشّ تلميذ في الامتحان, نحيلك أنت على مجلس التربية
قبل التلميذ" قال: "لا". قلت: "احترم نفسك إذن ولا
تناقشني". مع العلم أن متفقدي هذا لا يشمله نقدي بل على العكس تتوفر فيه الشروط
التي أطالب بها لأنه، في عام 2001، الوحيد "حسب علمي" من بين متفقدي
علوم الحياة والأرض في الجمهورية التونسية الحائز على شهادة الدراسات المعمقة في
علم الوراثة وعلى ديبلوم الدراسات المعمقة في التعلّميّة. صدقوني هذه ليست مجاملة
لمتفقدي الذي سبق وإن اختلفت معه كثيرا وتصالحت معه أكثر وعملت معه مكونا وسوف
يأتي وقت أحكي فيه حكايتي معه ولست في حاجة لمجاملته أو مجاملة غيره وأنا في أعلى
درجة وظيفية وعلى قاب قوسين من التقاعد ولا أجامل في نسبة الشهائد العلمية إلى
أصحابها.
رجعتُ إلى مدينتي حمام الشط وإلى أصحاب المقهى وأنا مزهو بانتصاري الأدبي
على بعض المتفقدين المتنفذين والمسيطرين على التدرج المهني للأساتذة. احتفاء بي,
نظّم أصدقائي على شرفي جلسة أنس وضحك وفرح ومرح وأثناء السهرة كان صديقي, الناشط
الحقوقي المعروف على المستوى الوطني, مثقف المجموعة وقد كان أثقف من الوزير نفسه,
كان يتحرك كثيرا فنهرته ساخرا منتحلا صفة الوزير شخصيا: "إلزم مكانك وإلا
نقلتك نقلة عقاب إلى معهد بنڤردان".
كنتُ ضيف شرف في كل الاجتماعات الهامة حول مشروع "مدرسة الغد"، المشروع
الرائع في نصه والواعد في شعاراته مثل تطبيق المدرسة البنائية لبياجي وفيڤوتسكي
حيث يبنِي التلميذ معرفته بنفسه وبمساعدة المدرس والأقران. لكن شتّان ما بين
النظري والتطبيقي, رفعتْ الدولة شعارات تقدّمية ولم توفّر لها البُنَي التحتية
اللازمة لتنفيذها في المدارس والمعاهد والجامعات فبقي القرار حبرا على ورق وبقيت دار
لقمان على حالها لا بل زادت سوءًا.
حضرتُ اجتماعا هاما حول التنشيط الثقافي في المعاهد, تدخل أحد المسؤولين
الكبار في وزارة التربية وبالغ في تثمين مجهودات الوزارة في هذا الميدان وبدأ يعطي
الإحصاءات المضخّمة ويعدّ النوادي بالآلاف في كل نواحي الجمهورية التونسية. أخذتُ
الكلمة وقلتُ: "سيدي المسئول, كل ما ذكرتموه صحيح, لكن مع الأسف على الورق
فقط, كل النوادي تقريبا موجودة افتراضيا في تقارير المديرين لكي يوهمونكم بكثرة
نشاطهم وينالون رضاكم بالتزييف والتملق أما أنا فرجل ميدان وأمارس هذا النشاط
فعليا في معهدي فلا تركنوا سيدي إلى تقارير بيروقراطيتكم ولا تصدّقوا الأوراق
وانزلوا إلى الميدان حتى تراقبوا بأنفسكم أو عبر من يمثلكم ما يجري في مؤسساتنا
التربوية". التفت كاتب الدولة، الحاضر في الاجتماع، يمينا وشمالا سائلا
مساعديه: "مع من أتى هذا المتحدث بلسان غير خشبي ومَن يتبع ومَن استدعاه أصلا
إلى الاجتماع؟" تَنصّل كل الحاضرين من تبعيتي لهم حتى دخل في هذه الآونة
بالضبط صديقي ومشجعي على التنطّع والنقد والهجوم على الرداءة، أعني به السيد
الوزير، حيّاني من بعيد فبُهِتَ كاتب الدولة. عندما يدخل الوزير المنتدى تنشرح
الأسارير لا لطلعته البهية وهي بهية بالفعل لكن لسبب آخر. كان الوزير لا يصبر على
التدخين حتى أثناء الاجتماع وعندما يأخذ
سيجارة يقلده كل المدمنين فتمتلئ القاعة دخانا من كثرة التدخين.
دُعيتُ مرّةً إلى اجتماع في الحمامات حول تدريس الإعلامية في الإعدادي
والثانوي. أجلسونا كل أستاذ على حاسوب لاستقبال الوزير. جاء الوزير وبدأ يتجول
بيننا متحدثا لكل واحد منّا على حِده حتى وصل إليّ وكنت عابسا مكفهرًّا فقال لي:
"ما بك يا كشكار دائم التجهّم؟" أجبته: "أنا مستاء جدا من تصرف بعض
مديري المدارس الإعدادية الذين يخبِّئون الحواسيب ويغلقون عليها القاعات ولا
يتركون التلاميذ يستعملونها خوفا عليها من الإتلاف, فكيف سيتعلم هؤلاء التلاميذ
الإعلامية إن لم نتركهم يستعملون الحاسوب". تعجّب من كلامي لكن صدّقه وأمر
على الفور مساعديه بأن يطلبوا من جميع
المديرين فتح قاعات الإعلامية للتلاميذ فتحرّرتْ منذ تلك اللحظة آلاف الحواسيب من
الإقامة الجبرية بقرار وزاري طُبِّقَ بحذافيره بعد أسبوع.
دعاني الوزير مرة إلى العشاء معه في نزل النهضة (La Renaissance) بضواحي
تونس العاصمة ولأول مرة وآخر مرة في حياتي أكلتُ ملعقة قهوة من "الكافيار"
(سرء السمك المحضّر أو بيضه). كان العشاء مُقاما على شرف رجل أعمال ومثقف كويتي
وتجاذبنا أطرافَ الحديث, نحن العشرون مدعوٍّ, اقترحتُ على الوزير أثناء النقاش
تدريس اختصاصه الذي كان يدرسه بالجامعة, أي تدريس المنهجية في الثانوي وقد كنتُ
صادقا وجادّا في طلبي.
اشتهر مشروعي ومخبري وبلغ صيته الاتحاد الأوروبي وزارني في قسمي نائب من
البرلمان الأوروبي فقدمت له نبذة عن نشاطي التربوي. استضافتني قناة 7 للتلفزة
التونسية في حصة "نسمة الصباح" أنا وزميل في الرياضيات له نفس المشروع.
قبل الدخول إلى مبنى التلفزة وجدنا باكرا المدير العام للمعهد الوطني للمكتبية
والإعلامية في انتظارنا ليحذّرنا من مغبة الخروج على النص وأوصانا بالتقيّد بموضوع
الحصة وهو تدريس الرياضيات وعلوم الحياة والأرض بالحاسوب. تمت الحصة الوحيدة بخير فأصبحتُ
بعدها أعَدُّ من نجوم التلفزة أو هكذا تراءى لي.
قدمتُ مطلبا للإدارة الجهوية للتعليم طالبًا تعييني مديرا في معهد أو
مدرسة إعدادية وكتبتُ التماسا للوزير
طالبا مساندته الشخصية. أجابوني بالموافقة وعيّنوني مديرا بالمدرسة الإعدادية
بحمام الشط. كنتُ حينئذ أمرّ بأزمة نفسية حادة نتيجة تَردّدِي في مواصلة دراسة
دكتورا التعلمية. تتالتْ عليّ التعاليق, نصحني أصحابي النقابيون مثل الكاتب العام
السابق للاتحاد المحلي بحمام الأنف وعضو النقابة الجهوية للتعليم الثانوي السابق
ببنعروس, نصحني بترك المسؤولية وتقديم استقالتي لما تحمله الإدارة من تخلٍّ عن
المبادئ النقابية، وفي المقابل شجعني بعض الأصدقاء الحميمين على التشبث بالإدارة لما تحويه من منافع مادية مثل السكن
المجاني والهاتف المجاني. قدمتّ استقالتي إلى رئيس مصلحة التعليم السابق في
الإدارة الجهوية للتعليم ببنعروس فقال لي معاتبا حتى يثنيني عن قراري:
"الوزير بنفسه وبقلمه الأخضر أشّر على اسمك". شكرتُه ورجوتُه تبليغ شكري
للوزير وكتبتُ استقالتي ورجعتُ إلى منزلي خفيفا مرتاحا بعد ما أزحتُ عن كتفيَّ هذا
الحمل الثقيل. اتصل بي في الدار صديقان وطلبا مني بكل لطف ومحبة أن أسحبَ
استقالتي. سحبتُها. جاءني شقيقي الكاتب العام السابق للاتحاد المحلي للشغل بطبرقة
ونصحني بالتمسك بالاستقالة للتعارض الواضح بين العمل الإداري والنشاط النقابي. قلتُ
في نفسي "سأعقِلها وأتوكلُ" كما فعل المجاهدون في فيلم عمر المختار
للمخرج الأمريكي السوري العقاد: كل مجاهدٍ عقل ركبته بحبل متين وهو يواجه العدو
حتى يستحيل عليه الفرار من ساحة المعركة. اتصلتُ بالأخ الكاتب العام السابق
للاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس وطلبتُ منه أن يتصل بالمدير الجهوي السابق للتعليم
ببنعروس حتى يعفيني من هذا التعيين الثقيل على قلبي وضميري وفي الغد ذهبتُ إلى
الإدارة الجهوية للتعليم ببنعروس وقدمتُ استقالتي الثانية والنهائية، رجعتُ إلى
حمام الشط فرحا مسرورا وذهبتُ مباشرة إلى شط الجهمي بولاية نابل صحبة صديقي
وزميلي الكاتب العام الحالي للنقابة
الأساسية المحلية المتنطعة بحمام الشط حتى أغسلَ هواجس الخوف من المسؤولية التي
يتسابق على نيلها الآلاف وتُقدّمُ من أجلها القرابينُ. قال لي مرافقي في الشط,
المشهور بإخلاصه وصدقه ونضاليته النقابية الشفافة: "لَعِبَ بك الوزير"
فأجبته: "غَنِمَ أولاد الشعب بمعهد برج السدرية بالجمهورية التونسية عشرة
حواسيبَ، حواسيبٌ ستساهم في محو الأميّة في علوم الحاسوب" وهذا ما تم فعلا
و"سَرْدَكْتُ" (فعل سردك مشتق من كلمة سردوك أي الديك بالعربية الفصحى)
عاما كاملا على بعض المتفقدين وبعض المسئولين وقلتُ صراحة وعلنا ما أفكر فيه وذلك بمباركةٍ
و تشجيعٍ من قِبل أثقفِ وزيرٍ عرفته في الجمهورية التونسية.
بكتْ ابنتي البالغة من العمر ثمانية عشر سنة وحزنتْ عائلتي لفقدان المنصب
المرموق في نظرهم. أحسستُ بقليلٍ من عقدةِ الذنبِ حيالهم وقلتُ في نفسي, ما ذنبهم
حتى أحمّلهم اعوجاج تفكيري وأفرض عليهم مثاليتي المبالغ فيها في هذا الزمن الرديء.
في آخر السنة الدراسية منحني الوزير "وسام الاستحقاق التربوي"
جزاءً على تنفيذ المشروع العلمي المتمثل في تدريس علوم الحياة والأرض بالحاسوب لكن
المشروعَ نفسَه بقي وحيدا يتيما إلى يومنا هذا
2010، أما أنا فرجعتُ أستاذا نكرة في معهد برج السدرية ومنذ ذلك اليوم لم
أدْعَ يومًا لأي اجتماع هامّ أو غير هامّ ولم أرَ الوزير مباشرة ولا في التلفزة
لأنه أعفِيَ من مهامه الوزارية وعُيّن سفيرا بباريس.
ملاحظة 1: صدفة منعشة, بعد
مدة من نقدي اللاذع لتكوين المتفقدين تأسس معهد المتفقدين بقرطاج الذي استجاب
للتكوين البيداغوجي والتعلمي وبقي التكوين العلمي في الاختصاص ناقصا. أقترح أن لا
يُقبل في هذا المعهد إلا "الأساتذة المبرَّزون" في اختصاصهم.
ملاحظة 2: أمضي مقالاتي
بصفة مواطن العالم لأنني بالفعل أحمل بطاقة تعريف مواطن العالم رقم 185608 الصادرة
في 30/11/2007 وانتمائي العالمي يكمّل ويجمّل تونسيتي ولا يتعارض تماما مع انتمائي
للهوية البربرية-العربية-الإسلامية.
إمضائي
"لا أحدَ مُجبرٌ على
التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم
بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه" عبد الله العروي
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرّائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما
أنا - واقتداءً بالمنهج العلمي - أرجو من قرّائي الشك في كل ما أطرحُ من إشكاليات
وأنتظرُ منهم النقدَ المفيدَ.
لا أقصدُ فرضَ رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى
تجريبِ وجهةِ نظرٍ أخرى، وعلى
كل مقالٍ سيّءٍ نَرُدُّ بمقالٍ جيّدٍ، لا بالعنف اللفظي.
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 5 ماي 2010.