dimanche 14 décembre 2014

مفهوم الجودة حسب "المواصفات العالمية"، هل هو وهم كبير أو كلمة حق أُريدَ بها باطل أو استعمار غربي ناعم لدول العالم الثالث؟ مواطن العالَم د. محمد كشكار

مفهوم الجودة حسب "المواصفات العالمية"، هل هو وهم كبير أو كلمة حق أُريدَ بها باطل أو استعمار غربي ناعم لدول العالم الثالث؟ مواطن العالَم د. محمد كشكار

سأضرب لكم عدة أمثلة مما عشت و قرأت و علمت و أترك لكم - رغم إرادتي - القراءة و التأويل:
1.     كان لي في القديم صديق دراسة متفوق، تخرّج دكتور في الكيمياء الحيوية ( la biochimie)، حاول هذا الباحث الشاب تأسيس فرع بحث جديد في تونس. من مشاريعه: إنتاج كاشف كيميائي (un réactif chimique) تونسي مائة في المائة عوض استيراده جاهزا بالعملة الصعبة، يُستعمل هذا الكاشف في التحاليل الطبية التونسية فقط (تحليل الدم و البول و اللعاب و غيره من السوائل الجسمية عند المريض المحتمل للكشف عن بعض الأمراض كالسكري و الدهنيات في الدم و غيره). لماذا يصرّ هذا الباحث على صنعه في تونس؟ لأن الكاشف الكيميائي المستورد "حسب المواصفات العالمية" قد لا يكشف بدقة على أمراض التونسي. لماذا؟ لأنه، أولا مُعَدٌّ للأوروبيين، و ثانيا لأن النظام الغذائي التونسي و التقاليد الغذائية التونسية تختلف كثيرا عن التقاليد الغذائية الأوروبية و بيئتنا الصحية تختلف عن بيئتهم. دُفِن المشروع في المهد لأسباب امبريالية (تنافس غير متوازن على السوق التونسية) و لم ير هذا المشروع النورَ حتى الآن!

2.     في مسقط رأسي، قرية جمنة بالجنوب الغربي التونسي، "قرية- مدينة" تقع بين مدينتي قبلي و دوز و تتميز حسب رأيي بنمط عيش فيه الكثير من الرقة و الجمال و التحضر و الثقافة و السياسة و التعايش السلمي بين القبائل و العروش المختلفة. كان الجمنيون في الخمسينات يبنون بيوتهم بـ"الطوب" (حجر رملي متماسك قليلا و سهل الانكسار و سهل الاستخراج من المقاطع الأرضية الحجرية القشرية السطحية) و كان عرض الجدار عندنا يبلغ تقريبا 50 صم. كانت بيوتنا مكيّفة طبيعيا، باردة في الصيف و دافئة في الشتاء لأن سُمك الجدار يمنع دخول حرارة الشمس في الصيف و يمنع دخول الهواء البارد في الشتاء. كان البيت التقليدي يعيش أكثر من قرن و لا يكلف صاحبه إلا القليل من المال مقارنة بالبيوت الأسمنتية الجديدة. تطورنا في هذا الحقل و ليتنا ما تطورنا، أصبحنا نبني منازل بالحديد و الأسمنت مثلنا مثل سكان تونس و صفاقس و بنزرت، فأصبح البيت لا يُطاق في الصيف إلا باستعمال المكيف و لا يُتحمل في الشتاء إلا باستعمال السخّان الغازي أو الكهربائي. انظر و تمعن و احسب ماذا ربحنا و كم خسرنا مالا و راحة و طاقة! و الأخطر من هذا هو أن السقف المسلح "الدالّة" لا يصمد طويلا لضربات الشمس الجنوبية الحارة فتتشقق الدالّة و يصبح السكان في خطر و يصبح البيت المكلف الغالي الجديد آيلا للسقوط بعد بضع سنوات من تشييده. هذا ما جناه علينا البِناء "حسب المواصفات العالمية" و لم نجن على أحد. ما بال المواصفات العالمية و ما بالنا، فلترحل كما رحل بن علي و تتركنا في حالنا متعايشين فرحانين آمنين مع "مواصفاتنا الجمنية" في البناء و التشييد!
معلومة: إسرائيل تعيد الآن إحياء و استعمال البناء السكني التقليدي بـ"الطوب" لتعمير صحراء النقب المحتلة حسب "مواصفات إسرائيلية" و ليست عالمية.

3.     في مسقط رأسي أيضا، و خلافا للمواثيق الدولية و "مواصفات حقوق الإنسان العالمية" التي تحرّم تشغيل الأطفال حتى من قبل أوليائهم، يشغّل الوالدان الجمنيان أبناءهما جنبهما في الواحة بكل عطف و حب و حنان: واحد يجمع التمور بيسر من تحت جذع النخلة و واحد يقطع الحشائش الخضراء علفا للماعز و الحمار و واحد يوزع كؤوس الشاي على العملة، يشتغل الأطفال و هم يضحكون و يلعبون دون قهر أو عناء كبير، يشتغلون "حسب المواصفات الجمنية" التي لا تتنافى في روحها مع "المواصفات العالمية" و تحترم حقوق الطفل في الصحة و التعليم و الترفيه.

4.     في مسقط رأسي ثالثا، و في الخمسينات من القرن 20، أيام انعدام وجود الروضات أو "سجون الأطفال الحديثة الناعمة"، كنا نلعب و نلهو وحدنا دون كهل رقيب، نصنع لعبنا بأيدينا و نطبق من حيث لا ندري نظرية العالِمين بياجي و فيڤوتسكي في المدرسة البنائية: نبني معرفتنا بأنفسنا بالتفاعل مع محيطنا و أقراننا دون الحاجة لشراء لعبِ باهظة الثمن و دون التقوقع داخل روضة محكمة التسييج الأسمنتي المسلح تحت إشراف منشط غير مختص في تنشيط الأطفال، منشط لم يتخرج من أي كلية تنشيط. يا ليتنا لم نتطور هذا التطور السلبي و يا ليتنا لم نضع أولادنا في "جنات أطفال" أشبه بسجون و أبعد ما يكون على تربية الأطفال و يا ليتنا حافظنا و طبقنا "مواصفاتنا الجمنية" في التربية، مواصفات أيّدتها النظريات التربوية الحديثة و خاصة نظرية بياجي و فيڤوتسكي التي تقول أن الطفل قادر على بناء معرفته بنفسه لو هيئنا له الظروف المناسبة و من حسن حظنا في جمنة أن ظروفنا الطبيعية مهيأة دون تهيئة لكثرة الفضاءات الفارغة و الآمنة قرب المنازل، امتياز ريفي تفتقده المدن.

5.     في مسقط رأسي رابعا، و في الخمسينات أيام انعدام وجود الروضات، كنا ندخل الكتّاب في سن الثالثة و الرابعة لحفظ القرآن و كنا نحفظ منه جزء "عمة" دون فهم المعاني و الصور و نتخرج من هذه الجامعة الصغيرة بزاد لغوي و حسن نطق، زاد استوعبناه في الصغر و سوف نستعمله و نوظفه أحسن توظيف عند مرحلة الفهم. و هذا آخر ما توصلت إليه النظريات العلمية الحديثة و سموه "الحمام اللغوي" و سميناه نحن "حسب المواصفات الجمنية" "تلقين القرآن الكريم منذ الصغر".

6.     في مسقط رأسي خامسا، و في الخمسينات أيام انعدام وجود الفضائيات العربية الوهابية الرجعية المتخلفة، كانت حقوق المرأة الجمنية مضمونة "حسب مواصفات جمنية محلية" و ليس "حسب مواصفات عالمية مستوردة". كانت المرأة تعمل في الحقل جنبا إلى جنب مع الرجل، تحيّي الجيران نساء و رجالا و ترد التحية بأحسن منها على جيران الحقل من الرجال. تخرج يوميا إلى العمل باكرا بعلم زوجها أو دون إذنه إن كان غائبا عاملا مهاجرا في فرنسا. تستقبل الضيوف من أقاربها و جيرانها و معارفها، نساءً و رجالاً، في حضور زوجها أو في غيابه، تقوم بأصول الضيافة التونسية الريفية على أكمل وجه و تقدم لهم الشاي و الطعام و تتحدث معهم في شؤون الحياة و تعقد - إن لزم الأمر - معهم الصفقات في المشاريع الفلاحية و البنائية. يستشيرها زوجها في الصغيرة و الكبيرة، في خطبة البنت و الولد و في دراستهم الجامعية. لنا نساء معروفات بالحكمة و أخريات بالشدة و الصرامة و أخريات بالطب التقليدي العربي و أخريات بالتجارة و إدارة الأعمال الصغرى. لنا طبيبات و محاميات و مهندسات و أستاذات و معلمات و ممرضات و زوجات محصنات و بنات عازبات يعملن جنبا إلى جنب مع الرجال و يتنقلن في وسائل النقل المختلط إلى فرنسا و ألمانيا و إيطاليا و تونس و دوز و ڤبلي و في سيارات الأجرة و حافلات النقل العمومي و شاحنات النقل الريفي المزدوج. يصافحن الرجال الأقارب و الجيران و المعارف باليد أما صاحبات و جارات و قريبات  أمي و أندادها، فكنّ يحضنّني و يحضن أولاد الجيران الشباب العائدين من غربة الدراسة أو غربة فرنسا. نساؤنا يتجولن سافرات بين المنازل في حينا الصغير المغلق (زنڤة حادة). يجلسن على حدَه في الأعراس غير بعيد عن جمع الرجال في نفس ساحة المنزل و يزغردن بالصوت العالي. في عيد الأضحى و العيد الصغير، كنا أطفالا و شبابا، نطوف نصف البلاد نعيّد بالمصافحة من اليد و الخد على قريباتنا و جاراتنا و معارفنا من أقران أمهاتنا. تنوب الأم زوجها الغائب في فرنسا في كل ما يخص أولادها و لا تحجب نفسها و لا تهمل تربية أولادها، و للضرورة تخرج إلى الشارع غاضبة صائحة لنجدة صغارها و حمايتهم من الاعتداءات الجسدية ممن يكبرهم سنا. مات أبي و أنا في سن الخامسة عشرة و كان لي في المنزل أخوين و أخت ضريرة، ربتْنا أمي يامنة أحسن تربية و تعبت في خدمة شؤوننا أكثر مما يبذله  ألف رجل و قد كانت عادة عندنا في جمنة و تضحية كبيرة أن أراملنا الجمنيات من النساء - تضحية لا يقدر عليها أعتى الرجال - لا يتزوجن ثانية خوفا على أبنائهن من زوج الأم، يحرمن أنفسهن من ملذات الحياة الحلال حفاظا على شعور أولادهن.

7.     يشترط الأغنياء الخليجيون على صناع السيارات اليابانيين صنع سيارة حسب "مواصفات خليجية" حتى تصمد أكثر ضد المناخ الخليجي الخاص و المتميز بالحرارة الشديدة و الرياح الترابية.


8.     فرضَ علينا الغرب الامبريالي شراء بذوره النباتية و أبقاره الهولندية المعالجة أو المعدلة جينيا "حسب المواصفات العالمية". بذور و أبقار باهظة الثمن و غير ملائمة و غير متكيفة مع مناخنا المتوسطي الحار و الجاف. أصبحنا دون أن نشعر تابعين غذائيا لمزروعاته و حيواناته المستوردة و أتلفنا بأيدينا بذورنا المحلية عوض أن نطورها "حسب مواصفات تونسية" و نحقق الاكتفاء و الاستقلال الغذائي.

9.     في أواخر القرن 19 و أوائل القرن 20، كان طه حسين يدرس في جامع الأزهر. كان يتابع درس النحو على شيخ النحو، بعد ساعة، يملّ أديبنا الأعمى الرقيق سماع القواعد النحوية، يحزم كتبه بخفة وستر و يغادر الحلقة دون استشارة شيخها و يلتحق بحلقة الشعر حتى يشنف آذانه بجمال الشعر العربي و يتعلم بلاغته. كان يتمتع بحرية تنقل من شيخ إلى شيخ دون إغراء أو إكراه و دون دفتر مناداة. كان يختار ما يريد أن يسمع لذلك كان يستفيد أفضل مما يسمع دون أن يحرج أحدا. و هذا ما توصلت له أحدث النظريات التربوية في الغرب و سموه "المعهد حسب الطلب" أو (lycée à la carte) حيث للتلميذ الحرية في الدخول إلى الحصة متى يشاء و مغادرتها متى يشاء كما كان يفعل طه حسين حسب "مواصفات محلية تربوية مصرية أزهرية" و ليس تطبيقا لـ"مواصفات تربوية عالمية مستوردة".


إمضاء د. م. ك
على كل مقال سيء، نرد بمقال جيد لا بالعنف اللفظي.


تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 26 جويلية 2012.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire