رفعا لكل التباس: العَلمانية
لا تحارب الدين و إنما تحارب الرجعية و العنصرية و اللاتاريخية و الخرافات و
التعصّب الديني. مواطن العالم د. محمد كشكار
تاريخ أول نشر على النات: حمام
الشط في 11 مارس 2012.
لا ينبغي أن نخلط بين العَلمانية و
الإلحاد أو بين العَلمانية و الكفر كما يزعم بعض الإسلاميين المتزمتين اليوم. فالعَلمانية
لا تعني الكفر، و لا تعني التديّن على الطريقة التقليدية السلفية. العَلمانية تعني
توليد تديّن جديد ينهض على أنقاض التديّن السلفي القديم. هنا تكمن روح العَلمانية
أو جوهرها.
العَلمانية لا تحارب الدين و إنما تحارب الخرافات و التعصّب الديني،
و لا تحارب التديّن و إنما تحارب علماء و دعاة دين السلطة القمعية. المشكلة
هي أن هؤلاء العلماء و الدعاة المأجورين لم يعودوا يعبؤون بهذه التمييزات الدقيقة.
فراحوا يخلطون عن قصد و سوء نية بين الأمرين. لم يعودوا يميّزون بين الدين
الإسلامي في سموّه و تنزيهه و تجريده و تعاليه، و بين التجسيدات المادية له، أو
الاستخدامات الانتهازية و التوظيفات السياسية له. و هنا يكمن وجه الخطورة في تجربة
الإسلام السياسي الرجعي (ضد الإسلام السياسي). ف الإسلام السياسي يحمل في طياته
الإيجابي و السلبي في آن. فالعلّة ليست في الدين الإسلامي ككل، و ليست في الدين
الإسلامي في تجريده للخالق المنزه الأكبر الذي يتعالى على صغائر الحياة الأرضية (قال
البوصيري في قصيدة البردة: "يا
نفس لا تقنطي من زلةٍ عَظُمَـــــتْ إن الكبائر في الغفران كاللّمَـــــم"، اللّمم
هي الصغيرُ
من الذنوب، مثل القُبلة والنظرة وما شابهها)، و ينفتح على المطلق، مطلق الله.
العلّة ليست في الدين الإسلامي كحاجة داخلية للإنسان يتحصّن بها أمام الموت و ما
بعد الموت، و إنما هي في الفهم الضيّق المتعصب و المشوَّه لمبادئ الدين الإسلامي
السمحة. و بالتالي كان ينبغي الخروج من فهم سلفي رجعي للدين الإسلامي من أجل
التوصل إلى فهم حديث، واسع، حر باستعمال و توظيف العلوم الحديثة كالأنتروبولوجيا و
الأركيولوجيا و الألسنية و علم النفس و الفلسفة و تحقيق النصوص المقدسة و العلوم
التجريبية و تاريخ الأديان المقارن.
و لكن عملية الخروج هذه
لن تكون سهلة على الإطلاق. فليس من السهل أن ننفصل و بإرادتنا عن تراث 15 قرنا،
تراث شكّلنا و صاغنا عندما كنا أغصانا غضة طرية. ليس من السهل أن ننفصل عن العقائد
و الأفكار التي رضعناها مع حليب الطفولة. كان ينبغي أن يحصل صراع داخلي و قطيعة
إبستومولوجية مع الماضي السحيق. و هذا ما بدأ يحصل بالفعل في العالم العربي
الإسلامي و يسيل الحبر لكنه للأسف الشديد حِبرٌ أسال معه الدماء. و إلى لآن لم تُحسم
المواجهة و لن تُحسم عن قريب بين الأصوليين و العَلمانيين إلا بعد معارك طويلة
شرسة - أتمنى أن تكون فكرية سلمية - كالتي سجلها التاريخ بين التنويريين النهضويين
الأوروبيين و الأصوليين المسيحيين الأوروبيين في أواخر القرون الوسطى على أيدي رُوّاد
النهضة العِظام أمثال بيترارك، المتمزق
بين الإيمان المسيحي و الفلسفة اليونانية (1304م - 1374م)، و
لورنز قالا، أحد النهضويين و
الإنسيين (Humaniste 1407م - 1457م)، و
إيراسموس، زعيم النهضة
الأوروبية (1469 م - 1532 م)، و
جيوردانو برونو، شهيد
الأصولية المسيحية (1548 م - 1600 م) الذي أحرقته محاكم التفتيش المسيحية
الإيطالية حيا. على هذا المستوى من العمق ينبغي أن نموضع الصراع بين العَلمانية و
الأصولية الإسلامية الرجعية المتزمتة و المتعصبة، و إلا فلن نفهم شيئا من شيء، و
لن نتوصل إلى أي شيء يُذكَر.
كانت الكتابات التي ألّفها
المجدّدون المسلمون المعاصرون، أمثال جمال الدين الأفغاني و محمد عبدَه و الطاهر
بن عاشور و الطاهر الحداد و محمد أركون و هشام جعيط و عبد المجيد الشرفي و هاشم
صالح و آمال قرامي و محمد الطالبي و أبو يعرب المرزوقي و محمد حداد و محمد الشريف
الفرجاني و ألفة يوسف و غيرهم، قد انخرطت في معركة واسعة ضد التزمت الديني الإسلامي.
و قال رُوّادُها بأن هذا التزمت هو الذي كبح جماح التقدم الفكري في عصور الانحطاط
منذ القرن الثاني عشر ميلادي إلى اليوم، أي منذ موت ابن رشد و حرق كتبه و التنكر
لفلسفته التي مثلت عاملا مهما من عوامل النهضة الأوروبية في القرون الوسطى و هذا هو
نفس التزمت الذي حال دون تأسيس أخلاق عملية مقننة غير ميتافيزيقية و نظام سياسي و
اجتماعي عادل و كتابة دستور وضعي يضمن الديمقراطية و حقوق الإنسان و حرية التعبير المطلقة
الخالية من كل قيد أو شرط إلا من أخلاقيات المهنة و ضمير المبدع و المساواة التامة
و الكاملة في الحقوق بين المرأة و الرجل. لكن للأسف راح الجناح الملحد في
العَلمانية يهاجم العقيدة الإسلامية التقليدية هجوما مجانيا شديدا. ينبغي أن نميّز
هنا بين عَلمانية القرن 18 و 19 و 20 الملحدة (ديدرو، هولباخ، لامتري، باسكال،
كانط، سبينوزا، سارتر، ماركس، فوكو و غيرهم) و عَلمانية اليوم المؤمنة التي أنتهج
نهجها و أسير على خطوات كتّابها و مفكريها و فلاسفتها العرب المسلمون، رُوّاد
التنوير المعاصرون في العالم العربي المذكورين أعلاه.
لأول مرة أصبح التراث الإسلامي
عُرضة للدراسة العقلانية النقدية، و لذلك فإن المثقفين العرب الذين يتحاشون هذه
النقطة و يعتقدون بإمكانية تواجد العَلمانية في العالم العربي دون وضع التراث على
محك النقد التاريخي الصارم، هم واهمون.
إذن فهناك تديّن تقليدي، و
تديّن عَلماني. هناك تديّن رجعي، لاتاريخي، قسري، قمعي، خارجي، شكلاني، خالِ من
الإيمان المجرّد الخالص لله سبحانه و تعالى، و تديّن داخلي، حميم، صادق، شخصي، حر.
لم تستطع أوروبا أن تنهض إلا بعد أن تخلّت عن التديّن التقليدي الرجعي اللاتاريخي
و اعتنقت محله تديّنا عَلمانيا جديدا متصالحا مع البيان العالمي لحقوق الإنسان الضامن
أخلاقيا و مبدئيا للحق في المعرفة و الصحة و التعبير و الاعتقاد و حقوق المرأة في
المساواة الكاملة و التامة مع الرجل رغم اختلافهما البيولوجي و حقوق الطفل في
الرعاية و التعليم و التكوين و مساند مشجع متحمس للاكتشافات العلمية و الفلسفية
الحديثة.
لم
و لن يستسلم العَلمانيون العرب للمقادير، و لم و لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ما
يجري في العالم العربي الإسلامي. و لم و لن يبرّروا استسلامهم بحجة الالتصاق
بالشعب كما فعل أشباه المثقفين من العرب الذين أرادوا ركوب الموجة الأصولية و
التماهي معها دون نقدها... فالارتباط بقضية الشعب أو الالتصاق بها لا يعني النزول
إلى مستوى الدهماء و الغوغاء و دغدغة العصبيات الدينية البغيضة، بل على العكس فهو يعني
بالضرورة الارتفاع بالشعب عن طريق التثقيف و التوعية و نشر التعليم! نعم لقد
أعطانا فلاسفة التنوير الأوروبي درسا بليغا في كيفية مواجهة التعصب الديني و
الأصولية النصوصية الرجعية اللاتاريخية السلفية و السنّية و الشيعية و الوهابية و
الإباضية. و نحن بأمس الحاجة إلى استلهام هذا الدرس ضمن الظروف العصيبة التي
نشهدها اليوم في عالمنا العربي و الإسلامي.
ملاحظة هامة
كَتبَ
النص الأصلي هاشم صالح في كتابه "مدخل إلى التنوير الأوروبي"، صفحة 147،
تأليف: هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة و النشر و رابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى
2005، الطبعة الثانية 2007، بيروت - لبنان، 264 صفحة.
شرح
فيه أسباب النهضة الأوروبية في أواخر العصور الوسطى. يتحدث هذا الكتاب عن روّاد
النهضة الأوروبية، و تناقضهم الفكري مع الرهبان و مع العقيدة المسيحية نفسها، في
أواخر القرون الوسطى، بداية من القرن الرابع عشر ميلادي حتى القرن الثامن عشر، عصر
العقل و عصر التنوير أو عصر فلسفة الأنوار أو قرن الأنوار كما يحلو للفرنسيين
تسميته و الافتخار عن جدارة بمنجزاته أو عصر التحرّر العقلي و الفكري، صاحب
المشروع النضالي الضمني غير العلني بسبب خوف الفلاسفة من السلطة و الكنيسة
المرتبطة بها عضويا، هذا العقل التنويري الذي يريد تخليص البشرية الأوروبية و غير
الأوروبية من ظلمات العصور الوسطى و هيمنة رجال الكنيسة. استعرتُ من هاشم صالح القالب اللغوي و طوّعتُه
و حشوتُه أفكارا شخصية و نقدا لواقعنا العربي الإسلامي المعاصر المَعيش في القرن
الواحد و العشرين. يبدو لي أنني قد قمت بذلك بشفافية دون سرقة أدبية فجة أو سخيفة
و دون تعسّف أو تحريف أو تجنِّ على النص الأصلي و دون إسقاط مرحلة على مرحلة أو
حضارة على حضارة أو دين على دين أو نقد على نقد.
إمضاء م. ع. د. م. ك.
"أنا متشائم بالذكاء و متفائل بالإرادة" أنتونيو قرامشي
قال الفيلسوف اليساري
المغربي العظيم عبد الله العروي: "لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن
إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن
ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه". و مجتمعنا التونسي عربي مسلم في أغلبيته أو لا يكون مع احترام حقوق الأقليات العرقية و العقائدية فهي ملح
الديمقراطية.
يطلب الداعية السياسي أو
الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي -
أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد الهدام المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم
بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى،
و على كل مقال قد يبدو لكم ناقصا
أو سيئا نرد بمقال كامل أو جيد، لا بالعنف اللفظي.
قال
الشاعر العراقي سعدي يوسف: "أسير مع الجميع
وخطوتي وحدي". هذه وضعيتي أنا و قلة من اليساريين التونسيين داخل العائلة
اليسارية الموسّعة التي تجمع أربع عائلات ضيقة وهي العائلة الفوضوية و العائلة الماركسية و
العائلة القومية الاشتراكية و عائلتي أنا، أعني العائلة الاشتراكية الديمقراطية على النمط الأسكندنافي
و ليس على شكل حزب الديمقراطيين الاشتراكيين التونسي (M. D. S).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire