ما هو الفرق العميق بين الفكر
الديني و الفكر العلمي التجريبي؟ نقل د. م.
ك.
"فكرة قرأتها في كتاب": حوار أجراه هاشم صالح مع غرانجيه بتاريخ 19 أفريل 1987 بباريس.
نقل مواطن العالم د.
محمد كشكار
غرانجيه: عالم الإبستمولوجيا
الفرنسي، الذي حل - عام 1984 - محل ميشيل فوكو في كرسيه في الكُوليج دو فرانس (Collège de France) الذي كان يدعى: "تاريخ أنظمة الفكر" Histoire des systèmes des
pensées، حيث أمضى فوكو مدة ثلاثة عشرة سنة
يلقي دروسه العامة تحت هذا العنوان العريض.
كتاب
"مخاضات الحداثة التنويرية. القطيعة الإبستمولوجية في الفكر و الحياة."،
هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة و النشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2008، 391
صفحة. استعرته من المكتبة العمومية بحمام الشط. كتاب من أفضل الكتب التي قرأتها في
السنوات الأخيرة و أعتبر كاتبه من أعلم و أنضج الفلاسفة التنويريين العرب، و
أعُدّه من أهم رواد النهضة العربية الإسلامية المعاصرة.
تنبيه ضروري:
ما أنشره في
هذه السلسلة من نقل و تعليق، تحت العنوان المشترك "فكرة قرأتها في
كتاب"، لا يمثل بالضرورة موقفي الفكري بل
هو عبارة عن
مذكّرة خاصة، أعتمدها شخصيا عند الرجوع إلى الكتاب الأصلي. لا تغني هذه المذكرة عن
قراءة الكتاب كاملا. يجب إذن توخّي الحذر الشديد في التعامل مع ما ورد فيها لأن لا
تصل إليكم فكرة الكاتب ناقصة أو مشوّهة. أنشر هذه السلسلة مساهمة مني في رد
الاعتبار لفن ثامن في طريق الانقراض، اسمه "مطالعة الكتب" و فكرة الكتاب
تلزم الكاتب و لا تلزم الناقل دون أن نتغافل عن
كون الأفكار هي وقائع فكرية تستقل عن قائلها.
نص هاشم صالح:
صفحة 352:
-
هاشم صالح: هل تعتقد أن القطيعة العظمى التي تتحدث عنها تشكل
قطيعة مع الرؤيا الدينية للعالم؟
-
غرانجيه: تقصد الفكر الديني؟ ليس فقط. ابتداء من اللحظة التي حصلت
فيها تلك القطيعة لم يعد الناس يخلطون بين الأشياء كما كان يحصل في السابق. أقصد
لم يعودوا يخلطون بين الفكر الديني من جهة، و بين المعرفة العلمية التجريبية
للعالم من جهة أخرى. و لكني لست ميالا للقول (على الرغم من الصراعات التاريخية
التي جرت بين كلا الطرفين) بأن عمق المسألة يكمن في إحداث القطيعة مع الفكر الديني
وحده. فالدين كارتباط بالمطلق و توتر روحي عميق موجود لدى كل العلماء الكبار.
القطيعة هنا هي مع شيء أعم هو الفكر
الشعري إذا
جاز التعبير، أي مع معرفة للعالم ترتكز أساسا على الحسية النوعية (Le qualitatif).
-
هاشم صالح: على الأسطورة؟
-
غرانجيه: الأسطورة هي أحد جوانب الفكر النوعي، و هي مرتبطة بشكل وثيق
بالفكر الديني. و لكن فكر أرسطو ليسَ فكرا دينيا بالمعنى الذي نعطيه لهذه الكلمة
بعد ظهور المسيحية. و مع ذلك فهو فكر نوعي. إنه يهدف في مشروعه العلمي إلى ممارسة
الدراسة النوعية للواقع (La saisie qualitative de la réalité).
-
هاشم صالح: هذا في حين أن الفكر الحديث يتميز بالكمية، أو
بالحسابات الكمية (Le quantitatif).
-
غرانجيه: ليس فقط، ليس بالضرورة. الفكر الحديث يتميز بالتخلي الكامل
عن النوعية بكل بساطة. إنه الفكر الشكلاني (La pensée formelle) الذي يتطور بطريقة صارمة، و منتظمة، و متواصلة و تجريدية، أي
شكلانية. إنها طريقة لا تستخدم الكمية أو الحسابات الكمية بالضرورة. بالطبع فإن
الجانب الكمي الحسابي كان أساسيا في ظهور علم الميكانيك. هذا شيء مؤكد. و لا يزال
أساسا في الفيزياء المعاصرة.
-
هاشم صالح: لنعد الآن إلى العلوم الإنسانية و مكانتها المعروفة و درجة
وثوقيتها من الناحية الإبستمولوجية. ما هي مكانة الحقيقة في هذه العلوم؟ بعضهم
يرفض التحدث عن الحقيقة هنا، و يكتفي بالكلام عن لعبة الصواب/الخطأ التي تسود فترة
معينة و بيئة معينة، ثم تنهار لاحقا لكي تحل محلها لعبة جديدة للصواب/الخطأ، و
هكذا دواليك...بمعنى آخر فإن الحقيقة التي نحلم بها، أي الحقيقة الكاملة، غير
موجودة، أو لم تعد موجودة. ما هو موقفكم، كعالم إبستمولوجيا، من هذه المسألة
الشائكة و المعقدة؟
-
غرانجيه: سوف أقول أولا بأنه حتى في العلوم الدقيقة ينبغي إعادة
النظر بمفهوم الحقيقة. و ربما كان الكلام عن الحقيقة المطلقة يعني غمط المسألة لا
طرحها. و بما أننا نتحدث عن علوم المادة فإننا نجد أن تاريخ علم الفيزياء يبين لنا
جيدا أن مفهوم الحقيقة شيء له معنى بالتأكيد. الحقيقة موجودة و التقدم العلمي يثبت
ذلك. و لكنه لا يعني أبدا وجود حقيقة نهائية مكتسبة مرة واحدة و إلى الأبد، أي
وجود حقيقة غير قابلة للتعديل و التحسين فيما بعد. هذا شيء واضح، لم يعد أحدا
يناقش فيه في البيئات العلمية و الإبستمولوجية. و نحن نلاحظ أن حقيقة نيوتن و
حقيقة أنشتاين مختلفتان. و إذن
فلا ينبغي التكلم عن الحقيقة المطلقة في العلم. هذا شيء ممنوع منعا باتا. الحقيقة
المطلقة هي إحدى بقايا الروح الدينية. و نحن هنا لا نعارض الفكر الديني الوثوقي.
فله الحق في افتراض الحقيقة المطلقة. و لا يمكنه أن ينهض بدون ذلك. و هذا شيء
مفهوم على أرضيته بالذات. و لكن بالنسبة للعلم هناك حقائق مختلفة، حقائق نسبية، أي
نظام معين للتجريب، و نسق معين من المصطلحات و المفاهيم القابلة للضبط و التحكم
بها أو التحقق منها. و الحقائق هي تلك المعارف المكتسبة أو المكتشفة التي مرت تحت مجهر المراقبة
و الضبط و نجحت في الامتحان العسير. و لكن عندما يغتني نظام المفاهيم و المصطلحات
هذا بمفاهيم جديدة (كما هو عليه الحال بالنسبة للفيزياء و العلوم الدقيقة بشكل
عام)، و عندما تصبح إمكانيات التجريب العملي أكثر دقة و إحاطة، عندئذ تتغير
المعارف السابقة و المصطلحات السابقة و تطرأ عليها أحيانا تعديلات عميقة جدا ترمي
بها في مهاوي الخطأ و الضلال. و هذا التعديل هو الذي يتيح لنا أن نفهم لماذا أن
حقائق الأمس كانت مقبولة كحقائق. هذا شيء مهم جدا لا يدرك مغزاه إلا الراسخون في
العلوم الإبستمولوجية. فمثلا عالم الميكانيك و الفيزياء اليوم، أي عالم النظرية
النسبية إذ شئت (Le
relativiste) هو الذي يعرف جيدا لماذا أن ميكانيك
نيوتن يمثل الحقيقة في مجاله الخاص حتى الآن. و الدليل على ذلك أن مهندسي الفضاء
لا يستخدمون إلا ميكانيك نيوتن عندما يرسلون المركبات الفضائية في الجو. إنهم لا يستخدمون
الميكانيك النسبي الأنشتايني! هذا شيء لا معنى له في مثل هذه الحالة. إذن فالتحول
الذي يصيب الحقيقة العلمية ليس قلبا كاملا على طريقة مع أو ضد، و إنما هو في أحيان
كثيرة تصحيح أفضل و تكملة أفضل. و عندما يستبدل العلماء الحقائق الجديدة بالحقائق
القديمة فإنهم يفعلون ذلك و هم يعرفون لماذا حصل هذا التحول، و لماذا أن الحقيقة
القديمة كانت حقيقة في وقتها، أي حقيقة مؤقتة و انتقالية. و في العلم - بالمفهوم المعاصر للكلمة - لا توجد إلا حقائق مؤقتة و
جزئية. و الآن إذا ما نظرنا في علوم الإنسان وجدنا أنها تعيش الحالة نفسها. و هذا
إذا ما بحثنا في العلوم الإنسانية عن حقائق مطلقة، فإن ذلك يعني استبدال فكرة
العلم بالأيديولوجيا الدوغمائية قليلا أو كثيرا. و عندئذ نخرج من مجال العلم لكي
ندخل في مجال "الحقائق المطلقة" التي يدافع عنها الناس حتى درجة
القتل...
إمضائي المختصر
أجتهد و أقرأ و أكتب و
أترجم و أنقل و أعلق و أنشر يوميا في الفيسبوك، أفعل كل هذا، لا حبا في
السلطة الفكرية
أو المال أو المنصب أو الجاه، و إنما من أجل متعتي الفكرية الخاصة الذاتية و ما
أروعها من متعة، متعة عظيمة لا يساويها أجر مهما عَظُمَ، متعة حُرِم منها السياسيون
و الأديولوجيون و المثقفون المأجورون، مرتزقة السلطة.
لا
أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه
إذن أن يتكلم بلسان المجتمع، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه من أجل بناء أفراده
الذاتي لتصورات علمية مكان تصوراتهم غير العلمية و على كل سلوك غير حضاري نرد
بسلوك حضاري و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 24 أفريل 2012.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire