جمنة
الستينات تعطي درسا في التنمية المستديمة: النظام الغذائي البيولوجي. مواطن
العالم من أصل جمني د. محمد كشكار
في الستينات و في قريتنا, لا يوجد جزّار و لا بائع خضر و لا دكان مرطبات و لا طبيب و لا صيدلية و لا مركز حرس و لا بلدية و لا مغازات
لبيع الآلات الكهربائية المنزلية. في قريتنا بشر و فراشات و قطط و ماعز و حمير و ورد
و نخل و زيتون و رمان و هواء نقي و شمس مطهّرة و عمدة اسمه الشيخ ابراهيم, مهمته
التوفيق بين الناس و ستر عوراتهم و الذود عن أعراضهم و ليس الوشاية بهم لدى السلطة
البعيدة في معتمدية قبلي. في قريتنا, بيوت
آمنة مفتوحة على الدوام و قلوب صافية لا تعرف العنصرية و لا التكبر, ترحب بالجار و
الضيف و البعيد و القريب
نساؤنا نساء و رجالنا رجال يعملون جنبا إلى جنب في الحقل
و البيت دون تفرقة في الجنس و الواجبات. يكفل الجار أيتام جاره و يعوض أباهم في
الحنان و المسؤولية و الجارة تضاهي الأم في الرقة و الحب. أطفالنا يحترمون الكبير
و شيوخنا يربون الصغير. بلادنا يا ناس من أجمل و أروع البلدان. كلمة جزار كلمة
مكروهة في الأخلاقيات البيولوجية و كلمة حرس مكروهة في الأخلاقيات الريفية لاقتران
الأولى بذبح الحيوانات و الثانية بالسلطة المفروضة من الخارج. تنتج كل عائلة
حاجتها الغذائية أو تأخذها من الجار إعارة أو هبة. لا نربي خرفانا و لا أبقارا لأنها
تأكل كثيرا و تشرب كثيرا )إنتاج كيلو لحم بقر
يحتاج تقريبا إلى 100.000
لتر من الماء و في الصحراء يعز الماء( بل نربي ماعزا و دجاجا يرعى
في حرية من الصباح إلى المساء و يغذي نفسه بنفسه تقريبا مثل النباتات الخضراء. لا
توجد حنفيات في منازلنا، فلا نبذر الماء و لا نستهلك منه إلا القليل الضروري.
يعتمد نظامنا الغذائي على النباتات فنحن تقريبا نباتيين، لا نذبح العنزة إلا في
عيد الأضحى للضرورة الدينية أو عندما تكون مريضة
نشرب
حليب العنزة, و نأكل بيض الدجاجة, و نستعمل فضلاتهم سمادا عضوياّ فلماذا نذبحهم يا
ترى؟ لا نعتدي على حيواناتنا الأليفة بالعنف و إلا لماذا نسميها أليفة؟ أليفة
لأنها ألفت من غدرنا و جشعنا و نهمنا. نأكل الفرع و نحافظ على الأصل. لا نستهلك
السكر الأبيض و الحليب الأبيض إلا في الشاي. لا يبيع دكان العطار الياغورط و لا الشكلاطة
و لا البسكويت و لا الجبن, أراحنا الله من الأغذية المصنعة و الملونة و المسرطنة.
وجبتنا بسيطة جدا و بيولوجية مائة بالمائة لأننا لا نستعمل في إنتاجها سمادا
كيميائيا و لا مبيدات أعشاب و لا مبيدات حشرات. نكتفي بما تنتجه الطبيعة و نقنع
بالقليل لسد الرمق. لا نصنع حلويات في عيد الفطر لاقتناعنا التقليدي أنها ليست غذاء
بل سموما عسيرة الهضم تنهك "البنكرياس" و القلب و الشرايين. نزرع الحبوب
في السهول فيسقيها مفرّج الكروب, نحصدها بالسواعد و المناجل, نفصل حبات القمح عن
سنابلها بطريقة تقليدية يدوية و نطحنها برحى
حجرية و نغربلها و نصنفها برغلا و كسكسا و خبزا. مطبخنا فقيرا لكن صحّيا, لم نكن نستهلك لا مرق لوبيا و لا مرق
جلبان و لا مرق ملوخية و لا بطاطا مقلية و لا "طاجين" و لا أرز بالفواكه
و لا سمك, لا مقلي و لا مشوي. وجبتنا مغذية لكنها ليست لذيذة
اللذة في الطعام يا سادتي يا كرام تصحبها دائما الأمراض:
خذ مثلا الأكل المقلي أو الدسم, يعدّ من أشهى الأطعمة لكنه يدمر القلب و الشرايين,
أطباق الحلويات المتنوعة تنخر الأسنان و ترهق "البنكرياس" و تمهد لمرض
السكر, المصبّرات المملّحة ترفع في ضغط الدم. نطبخ و نأكل في أواني مصنعة يدويا من
الطين و خالية من النحاس و الألومونيوم المسرطنين . نغسل هذه الأواني بالطين
الأخضر أو بالصابون الأخضر الطبيعي. لا نستهلك من الطاقة إلا القليل مما يطرحه
نبات النخيل من خشب و جريد جاف. النخلة و ما أدراك ما النخلة في تراثنا و وجداننا,
مصدر رزقنا و سعادتنا, نسقيها و نمدها بالسماد العضوي فقط. لا نغشها و لا نسمّمها
بالكيميائيات. نربيها سنوات بحب و حنان حتى تثمر على مهلها "رطبا جنيا"
نأكل منه القليل و نبيع الكثير و ما زاد عن حاجتنا نخزنه في أوعية خزفية لنستل
روحه في لطف و أدب على مدى الفصول الثلاثة الباقية. لا تمثل المعزة في غذائنا
الشيء الكثير و مع ذلك نكرمها و نرحب بها تسكن معنا في نفس المنزل و نعاملها دون
مبالغة كفرد من أفراد العائلة. كانت أمي تستيقظ في أنصاف الليالي عند صياح معزتها
لتراقبها و تقدم لها الماء و الغذاء. كان الغائب منا يسأل في رسائله عن العائلة و
عن المعزات. عندما تلد المعزة, نحتفل بولادتها و نقدم لها أكبر الرعاية و لا نسرق
حليبها المتدفق بل نتركه لابنها. ابنها الجدي أو العناق يعني الذكر أو الأنثى الذي
يملأ ساحة البيت فرحا و بهجة بقفزاته الرشيقة و هذه الصورة الرقيقة ما زالت عالقة
بمخيلتي بعد خمسين سنة و كلما تذكرتها
غمرتني سعادة منعشة
في الثمانينات, جاءنا المحتل متنكرا في زي التمدن و
التحضر فأهلك الحرث و الزرع, أصبحت بيوتنا
من حجر أصم مثل قلوبنا. جاءنا الحرس الوطني فأصبح الأخ يشتكي أخاه و الجار جاره
لأتفه الأسباب فانقرض التسامح و سادت الوشاية. أغلقنا بيوتنا بالمفاتيح و كثر
السراق. تخلى الكبير عن مسؤولياته التربوية فلم يعد يحترمه الصغير. تفشت فينا
العنصرية و القبلية و تهافتنا على السلطة الزائفة
في التسعينات, جاءنا الخير الكبير و النخل الكثير و
الفضائيات العشوائية و أصبح لنا مليونيرات و "ديماكسات
أتمنى من كل قلبي أن لا يقتصر الغنى على الجيوب فقط و
يشمل هذا الخير القلوب و النفوس و نتمسك أكثر بعاداتنا التقليدية الجيدة و لا نأخذ
من غول الحضارة إلا ما يفيدنا في نهضتنا و أكلنا و تربيتنا و ثقافتنا
v جمنة:
قرية جميلة في الجنوب الغربي التونسي على أبواب الصحراء الرملية
v ديماكس:
نوع من السيارات اليابانية المستعملة في النقل الفلاحي و التجاري و الصناعي
v طاجين:
أكلة تونسية دسمة جدا و هي خليط متماسك من
البيض و الجبن و اللحم
v البنكرياس:
غدة في الجسم تنتج الأنسولين وهو هرمون ينقل السكر إلى الخلايا لحرقه
التاريخ: 28 جانفي 2010
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire