جدل
حول المخ البشري، مخ امرأة أو مخ رجل. مواطن العالم د. محمد كشكار
في هذا المقال المطوّل نسبيا، سأحاول طرح الإطار النظري
العلمي لأطروحتي و عرضه للنقاش و المجادلة. أبدأ بما قاله الأستاذ الفرنسي بجامعة
كلود برنار بليون 1 بفرنسا و مدير أطروحتي "بيار كليمان" (1998b): يرتكز كل بحث في تعلمية البيولوجيا أو فلسفة تعليم البيولوجيا
la Didactique de la biologie
على تمشيات و مضمون بيولوجي
des
contenus et démarches biologiques précis
يجب على الباحث إذا البدء
بتدقيق هذه المفاهيم و التمشيات و توضيحها و تحديدها في أكثر الأحيان بمقاربة قبلية
تاريخية و ابستومولوجية
1. الثنائية الديكارتية
سنتعرض في الفقرة الموالية إلى البحث عن تاريخ
تصورات التلميذ حول المخ و مصادرها
كان الفيلسوف الفرنسي المشهور ديكارت (1596-1650) يعتقد
أن الروح التي تسكن داخل الغدة الصنوبرية
(la glande
pinéale, l’épiphyse
تنتقل عبر الأعصاب و تنفخ
العضلات. و كان يعتقد أيضا أن هذه الغدة هي التي تجمع و توحّد الروح مع الجسد
le dualisme cartésien
بصفته عالما في وظائف الجسم الفيزيولوجية، أخرج ديكارت
الروح من الجسد حتى يستطيع دراستها لكن في الوقت نفسه و كضليع في علم ما وراء
الطبيعة فقد أنقذها من مبضع المشرّح و جرّدها عن المادة. يتصور هذا العالم أن
الجسم هو عبارة عن آلة لكن ما زال يعتقد في الوقت نفسه أن الروح خالدة. ما زالت نظرية
الثنائية الديكارتية، أو الفصل بين الروح المجردة عن المادة و "الجسم – الآلة
le corps
machine
تحافظ في الوقت نفسه على العشب و المعزة
ménage la
chèvre et le chou
حسب رأي جان بول شنجو
J. P.
Changeux, 1983
قد لا تدل هذه الثنائية المعلنة على حقيقة تفكير
ديكارت لأن تجريد الروح عن المادة كان المذهب الرسمي السائد في عصره فلم يكن
يستطيع الخروج عنه حتى و لو أضمر عكس ذلك. كان البعض من العلماء في الحضارة
العربية الإسلامية، الذين يؤمنون بالرأي المعاكس لهذا المذهب السائد عندهم أيضا، يترددون
كثيرا قبل التصدي المعلن له تملقا و تزلفا للسلطة الفكرية المتحالفة مع السلطة
السياسية أو خوفا من بطشها. باستعمال عبارات عصرية، يحاول الثنائيون الجدد
تخليد نوع من التقليد الثنائي الديكارتي. من حسن حظ هذا التيار الأقلّي أنه يضم
بين ظهرانيه أسماء في مثل شهرة كارل بوبار
Karl Popper
و سير جون إكلس
Sir John
Eccles, neurobiologiste et prix Nobel de médecine 1963
و روجيه بنروز
Roger
Penrose, mathématicien et physicien
قال "إكلس" الذي يعتقد أن الله ينفخ
الروح في الجنين بعد ثلاثة أسابيع من الحمل: "...علينا أن نعترف أننا كائنات
روحانية عائشة في عالم روحي، كما توجد كائنات مادية، حبتها الطبيعة بجسم و مخ،
تتحرك داخل عالم مادي". لكنه يجهد نفسه في التميّز عن ديكارت عندما يؤكد أنه
لا وجود لوعي
(
conscience
دون مخ و أن هذا الوعي ينبثق من المادة المخية
ثم يكتسب ماهية مختلفة عنها. تستعمل هذه الماهية المخ بدلا من أن تمتزج به (Frei, 1999). يرى العالم "بنروز"
أننا لا نعيش في عالم موحّد بل يوجد عالم ذهني مستقل يستند إلى عالم مادي. حسب
وجهة نظره، يرى أننا نعيش وسط ثلاثة عوالم مختلفة: عالم مادي و عالم ذهني و عالم
الأشياء المجردة مثل الأعداد و الكيانات الرياضية الأخرى
Searle, 1996
ننهي هذه
الفقرة بالأقوال البليغة التي أدلى بها العالم "دانيال دينات" للمجلة
العلمية الفرنسية
La
Recherche, Dennet, 1999
-
المجلة:
" عبر مئات السنين، كان الناس يعتقدون أن الجسد و الروح شيئان من طبيعة
مختلفة. ديكارت نفسه يرى أن هذا الفصل بديهي و جلي. ما هو تعليقك
-
العالم:
"قد يبدو هذا الاعتقاد الأحمق في ثنائية الجسم و الروح طبيعيا، هذا لا يمنع
عدم صحته. نحن نعرف اليوم أن كل فكرة من أفكارنا، كل حلم من أحلامنا، كل حالة من حالاتنا
النفسية، ليست إلا حدثا بيولوجيا يحدث داخل مخنا. من الآن فصاعدا أصبحت هذه النظرة
المادية مقبولة عموما. فمهما بلغ الوعي من أهمية و تعقيد، فهو لا يعدو أن يكون
ظاهرة مادية شبيهة بالتركيب الضوئي عند النباتات الخضراء
2. نقد حديث لنموذج "المخ – الحاسوب
لقد أبهر الحاسوب الكبار قبل الصغار. ليس من فراغ أن
يدهش الحاسوب العالم بأسره و يذهله إذا
كان قادرا على القيام بمليار عملية حسابية في الثانية. لكن هل يوجد حاسوب واحد يقدر
أن يفرّق بين زهرة و فراشة أو يغير رأيه أو يبرمج نفسه أو يقول ما قاله "محمود درويش" و "نزار قباني"؟
Fottorino,
1998
قد ينسينا الانبهار أمام
الحاسوب الحقيقة القائلة أن كل مهاراته قد برمجتها عقول بشرية. يطور العلم الآن
وحدات جزئية لمعالجة المعلومة
Unité élémentaire de traitement
parallèle de l’information dans un
ordinateur
بواسطة حواسيب تحاكي الخلايا
العصبية. و المماثلة بين المخ و الحاسوب تقف عند هذا الحد خاصة عندما نعلم أن عدد
الوصلات العصبية في القشرة المخية ( les synapses) يفوق مليون مليار و أن كل خلية
مخية
( neurone
تقيم عشرة آلاف وصلة مع
جارتها في حين أن عدد الروابط المتوفرة في كل وحدة جزئية للمعالجة الموازية للمعلومة
في الحاسوب لا يصل إلى عشرة. تمتاز ذاكرة الإنسان عن ذاكرة الحاسوب في
نقطتين: أولا، سعتها مهولة، تساوي تقريبا bits1016
Dix
millions de milliards de bits
في حين أن الذاكرة
المركزية لـ Cray C98أحد
أقوى الحواسيب في العالم، تستطيع أن تخزّن على أقصى تقدير
Milliards de bits
64
فقط. ما زال العلم حتى الآن غير قادر على تفسير
آليات هذه القدرة الهائلة على تخزين هذه الكمية العظيمة من المعلومات و حفظها و خاصة القدرة على
استحضارها بسرعة. ثانيا، يحتوي المخ البشري على نوعين مختلفين من الذاكرة، الذاكرة
المعرفية
La
mémoire déclarative ou cognitive, savoir
و
الذاكرة الإجرائية
la
mémoire procédurale, savoir-faire) ( Masao,
1994
أنهي هذه الفقرة بالنقد الموجّه لنموذج "المخ -
الحاسوب" من قبل فاريلا
Varela,
1998
و إيدلمان
Edelman
في مقال، عنوانه "المخ ليس حاسوبا"
يقول فاريلا: "تبدو فكرة الحاسوب الذي يحاكي الخلايا العصبية المخية، فكرة
غير واضحة لأن الحاسوب ، بالمعنى الحصري، هو نظام رقمي فقط" ( La
Recherche, 1998). يقول
"جيرالد إيدلمان
Edelman,
1989
أن المخ لا يستطيع أن
يشتغل مثل الحاسوب لأنه غير مبرمج. لا يمتثل المخ لجملة من التعليمات المشفرة
مسبقا. عندما يبدأ الطفل، مثلا، في التعرّف على اللعب من السيارات المصغرة، لم يكن
هذا النوع من السيارات مسجلا مسبقا في مخه. يضيف "إيدلمان": "لا
يقدم العالَم نفسه للمخ على شكل مقطع من تسجيل رقمي يحمل سلسلة من العلامات غير
المبهمة مثل ما نفعل عند برمجة الحاسوب. يمكّن المخ الحيوان من الإحساس بمحيطه و
تصنيف الإشارات المتنوعة و إحداث الحركات البدنية...يتمتع الجهاز العصبي بقدرة
إدراك و تصنيف علامات النظر و الصوت إلخ و ترتيبها في مجموعات متماسكة دون برمجة
مسبقة أما الحواسيب فهي ليست قادرة على الإتيان بمثل هذا الفعل المعقد
Le
nouvel Observateur, 2000
.
3. جدل بين الموحدين
Les unitaristes
و العازلين
Les localisationnistes
v
يقترح
العالم لارميت
F. Lhermite
مقارنة المخ بمدينة باريس:
"لو أن قنبلة سقطت على قنطرة كونكورد
le pont de la Concorde
فستتأثر بلا شك حركة
المرور في المدينة. فهل معنى هذا أن حركة المرور في باريس ستتعطل إثر سقوط قنطرة
كونكورد؟ تشتغل قشرتنا المخية ككل و ليس كجزر منعزلة بعضها عن بعض. تختص بعض
المراكز العصبية بالنظر أو السمع لكن إذا أخذتها منفردة فهي لا تؤدي أية وظيفة
Fottorino, 1998
v
أثبت
التصوير الطبي الحديث
L’imagerie
médicale
مع فارق بسيط، أطروحات العازلين (مركز عصبي للنظر، مركز عصبي للسمع، إلخ) لكن في الوقت نفسه أثبت
أيضا أن العلم ما زال لم يكتشف بعد بوضوح دور المناطق المخية التي تربط بين
المراكز العصبية و التي تحتل أكثر من 80 في المائة من مساحة القشرة المخية. يبين
لنا التصوير الطبي لخلايا المخ أننا عندما نتكلم، تشتغل و تنشط الخلايا العصبية في
مركز "بروكا" للسمع لكن يبيّن لنا في الوقت نفسه أن القشرة المخية تشتغل
كشبكة لا كمناطق منعزلة بعضها عن بعض
v
لقد ساهمت
كلا النظريتان، العزل
Le localisationnisme
و التوحيد
L’unitarisme
في تطور
المعارف حول المخ و نشاطه. لقد قام العازلون باكتشافات طبية مهمة في مجال القدرات
الذهنية و ركائزها من المادة التشريحية البيولوجية
les aptitudes psychiques et leurs
supports anatomiques
أما
الموحدون فقد أكدوا على الأداء العام للمخ و مهّدوا لاكتشاف نظرية "ما بعد
الوراثي المخي
L’épigenèse
cérébrale
و نظرية المرونة المخية
la plasticité cérébrale.
تكمّل النظريتان، العزل و التوحيد، بعضهما البعض رغم
اختلافهما الظاهر. لا نستطيع أن ننكر إضافتهما للعلم الحديث في فيزيولوجية المخ
(la
neurophysiologie
يتقبل العلم اليوم وجود مراكز عصبية لكن يرفض أن
يربط كل وظيفة ذهنية بمركز عصبي واحد في المخ. يؤكد مونيي و جانرود
(M.
Meunier et M. Jannerod, 1999
ما يلي: "تتطلب وظيفة النظر عند القرد،
لوحدها، تشريك ثلاثين منطقة مختلفة من القشرة المخية
4. مخ المرأة/مخ الرجل
سنعرض في الفقرة الموالية نتائج البحوث العالمية في هذا
المجال
v
كانت
العالمة الكندية ساندرا ويتلسون
Sandra Witelson, en 1975
أول من اكتشف أن الجسم
الصلب في المخ
le corps calleux
عند
مستعملي اليد اليسرى أكبر حجما من مثيله عند مستعملي اليد اليمنى. لكن النقطة
المهمة في هذا الاكتشاف هي التأكيد على تأثير عامل الجنس: يبدو أن عاملا مرتبطا
بالجنس هو الذي يحدد العلاقات بين الشكل الخارجي لهذا الجزء من المخ و جانبية
السلوكيات الإيمائية
La latéralisation du comportement
gestuel, Habib, 1995
لقد تعرض
هذا الاكتشاف إلى نقد شديد، قال فيه "كليمان" في 1980: لم تحدد الباحثة
نسبة مستعملي اليد اليسرى و نسبة مستعملي اليد اليمنى في عينة البحث
Clément et al, 1980
v
لقد لاحظ
العالم الأمريكي سيمون لوفاي
Simon Le Vay, en 1991
أن حجم النواة
INAH3
الموجودة بين خلايا المخ داخل غدّة "تحت المهاد
البصري
Noyau interstitiel de l’hypothalamus
antérieur
متساو عند المثليين جنسيا من الرجال و عند
النساء بينما يكبر هذا الحجم مرتين عند الرجال غير المثليين (لا تزيد الفروقات
الظاهرة للعيان بينهما عن عشر المليمتر مكعب). يستنتج هذا العالم أن للتوجه الجنسي
ركيزة أو تخزين هذه الكمية العظيمة من
المعلومات و حفظهاأساسا بيولوجيا. لم يقبل مجمع العلماء هذا
الاستنتاج. إلى جانب آثاره الإيديولوجية، يركز النقاد على مدى صحة نشر هذه النتائج.
يتمحور النقد الأقوى لهذا البحث حول الحالة الصحية للرجال المثليين الذين درست
أمخاخهم فكلهم مصابون بالسيدا أما الرجال غير المثليين فهنالك عدد منهم من مدمني
الكحول و المخدرات. و الحال أن الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة و
تعاطي المخدرات يعطل الأنظمة الهرمونية بما فيها الهرمونات الجنسية. أضف إلى هذا، فإنّ
فيروس السيدا و المخدرات تدخل إلى المخ و تحدث فيه خللا وظيفيا و جروحا. أما
الاعتراض الثاني فيقول أن هوية الرجال غير المثليين لم تثبت تماما في الدراسة. رغم
التحفظات التي تم تقديمها و رغم التشكيك في صرامة الدراسة التي قام بها لوفاي، نشرت
هذه الدراسة في المجلة العلمية
الأمريكية المرموقة "علوم
( Science », Vidal, 1996
v
لقد خطونا
خطوة أخرى عام 1995 عندما نشر في مجلة "علوم" الأمريكية مقال يقارن بين
أمخاخ المتخنثين و المثليين و غير المثليين. ينتمي مؤلفو هذا العمل إلى مجموعة
الباحثين الهولنديين الذين أثبتوا منذ عشر سنوات خلت أن حجم النواة
INAH1
الموجودة بين خلايا المخ داخل غدّة "تحت المهاد البصري
Noyau interstitiel de
l’hypothalamus antérieur
أكبر عند الرجل منه عند
المرأة. لم يقدر أي فريق بحث آخر على إعادة و إثبات نتيجة هذا البحث. في مقالهم
الجديد، وصف الباحثون نواة أخرى، اسمها
BST (noyau
basal de la strie terminale
الكائنة بقرب غدّة "تحت المهاد
البصري" و قالوا أن حجمها عند المخنثين و
النساء أقل إذا قارناه بحجمها عند الرجال المثليين و غير المثليين. توصل هؤلاء
العلماء إلى الاستنتاج التالي: قد يكون للتخنث ركيزة و أساس بيولوجي ممكن، و قد يكون
ناتجا عن تأنيث المخ تحت تأثير الهرمونات الجنسية خلال نموّه. و الحال أن
المتخنثين المنتمين إلى العينة الدراسية قد تناولوا هرمونات أنثوية على مدى أعوام.
هذا العلاج بالهرمونات الجنسية الأنثوية المسلط على مخ المتخنثين متهم بتغيير حجم
BST (noyau basal de la strie terminale
زد على ذلك، فإننا نرى
كما في الدراسات السابقة أن وظيفة
هذه النواة ما زالت غير معروفة عند الإنسان.
( Vidal,
l996
v
عام 1995،
نشر العالم شوايتز
Schaywitz et al.
في مجلة "علوم"
الأمريكية
(Nature
مقالا يبين فيه بواسطة
التصوير الطبي بالرنين المغناطيسي
IRM fonctionnelle
أنه من الممكن اكتشاف إيقاع
القوافي بين الكلمات
les rimes entre les mots
باستعمال نصف الكرة المخية
الأيسر
L’hémisphère cérébral gauche
عند الذكور التسعة عشر في
العينة في حين أن الإحدى عشرة امرأة المكملة للعينة استعملن للغرض نفسه نصفي الكرة
المخية معا
v
لقد نقد
هذا المقال بشدة من قبل العالم "فيدال
Vidal, La Recherche, 1996
" هنالك هوة
تفصل بين الأداء الذهني خلال امتحان لغة دقيق و بين العمليات عالية التعقيد التي
تؤسس لتنمية التفكير. يقع ردم هذه الهوة، كالمعتاد، دون مبالاة عندما يتعلق الأمر
بنشر نتيجة علمية ذات شحنة إعلامية مرتفعة. في بعض الأحيان، يتواطأ الصحافيون و
الباحثون في مثل هذا التمشي". يضيف العالم "بيار كليمان"، مدير
أطروحتي
Clément
"يحتوي البحث إذن على
نتائج حول عدم الاختلاف بين اشتغال أمخاخ الرجال و النساء في ما يخص المهام التي
يسميها الباحثون إملائية و دلالية الألفاظ
Les tâches
« orthographiques » et « sémantiques
أكثر
مرتين من العكس ( اختلاف في المهمة الصوتية
Phonologique نتساءل:
كيف استنتج الباحثون و قدموا و عنونوا نتائجهم؟ ... بلاغة العنوان التالي
بالأنقليزية تعبر عن مضمونه
Sex differences in the functional organization of the brain for language
لا يتكلم
إلا على الفروقات. يشير نصهم إلى أن ما يقصدونه هو فقط التركيز على الفرق بين الرجال و النساء و يتمسكون
بهذه النتيجة و يؤكدونها. في حين أن نقاط التشابه التي يظهرها البحث لا تهمهم
بتاتا: لا يعلقون عليها بالمرة... كل فرق في المخ عند البشر قد يكون على حد سواء
نتيجة أو سببا لسلوكيات مختلفة و هو أثر بيولوجي محسوس قد خطته تجارب تاريخنا
الشخصي في القشرة المخية. لماذا كل هذا التحمّس، في البحث و النشر العلمي،
للفروقات الممكنة بين أمخاخ الرجال و أمخاخ النساء، إن لم يكن لاستغلالها و
توظيفها لتبرير عدم المساواة بين المرأة و الرجل في الحقوق و تأبيد التحيز الجنسي ضد
المرأة أو الانسياق و التأييد لما هو موجود في الغرب بكل مساوئه و ظلمه للمرأة؟ تنمّي
هذه الأبعاد الإيديولوجية سوق مشاريع البحث العلمي و تزيد في نشر
المجلات العلمية و بيعها. إن أخلاقيات البحث و نشر العلوم لا يحكمها حب المعرفة
فقط بل يحكمها أيضا حب الكسب و غريزة الربح بشتى السبل الشرعية منها و غير الشرعية
v
لقد انضم "حبيب
Habib, 1999
إلى نقد "فيدال"
و "كليمان
Clément et Vidal
عندما
قال: "مكنتنا دراسة جديدة تستعمل تقنية الاستماع الثنائي
L’écoute dichotomique
من القول أن الفارق في
الجانبية
La différence de latéralisation
بين الرجال و النساء لا
يهم في الواقع إلا بعض جوانب اللغة
aspects du langage
نذكر منها
الجوانب التي تسمى "عروضية"
Prosodiques
و التي تسمح بإضافة نغمة
عاطفية
Une tonalité émotionnelle
للكلام. هكذا نرى أنه من
المحتمل أن الفوارق في تركيز الهرمونات الجنسية في الدم خلال نمو الفرد قد تؤثر في
توزيع وظائف المخ بين نصفيه الكرويين و هذا الاستنتاج قد يفسر بعض المؤهلات
المنسوبة تقليديا للرجال أو للنساء. لكن حذار أن نستنتج من كل ما سبق من بحوث
"علمية" أي تفوق اجتماعي للرجل على المرأة يكون مرتبطا بخاصية في المخ
5. نقد نموذج "المخ - قائد
أوركسترا
قد يذهب في ظن العديد من المشتغلين بالعلم و غير
المشتغلين به أن المخ يقوم في الجسم مقام قائد فرقة موسيقية يسيّر العازفين فيها و
يأمرهم و يوجّههم و يتحكّم في حركاتهم و سكناتهم. صحيح أن المخ يمتاز على باقي
الأعضاء بدور مهم و معقّد في الجسم و صحيح أنه دليل على تطور الإنسان البيولوجي و
الحضاري و صحيح أنه المنسق الأساسي بين الأعضاء و صحيح أنه مركز القدرات الذهنية
العالية لكن كل هذه الخاصيات لا تمنحه
القدرة على تسيير الجسم و التحكم فيه. المخ هو عبارة عن عضو ينتمي إلى جسم، لا
يقدر على العيش مستقلا عن باقي الأعضاء التي توفر له الغذاء و الأكسجين و تطرح
فضلاته الخلوية كالجهاز الدموي و الجهاز التنفسي و الجهاز الهضمي و جهاز الطرح و
غيرهم من الأجهزة الأخرى. يبعث إشارات إلى كامل أعضاء الجسم و يتلقى منهم معلومات
مفيدة للقيام بدوره فبدون عين لا يرى و بدون أذن لا يسمع و بدون قلب و رئتين لا
يتنفس و بدون أمعاء لا يتغذى فهو يعمل لصالحهم و هم يعملون لصالحه. قال العالم
"جانرود":" لا يفكر الأكتع
le manchot
مثل ما يفكر السليم" لأن مخ الأكتع يختلف عن مخ
السليم، ليس في الحجم و الوزن، بل في شبكات الوصلات العصبية. عندما تقطع اليد، قد
تزول تدريجيا الشبكات العصبية
Les réseaux neuronaux
الخاصة بها لعدم استعمالها أو لغياب الحاجة لها. عند الأعمى منذ
الولادة، قد توظف خلايا المركز العصبي البصرية و تحوّل وجهتها إلى حاسة اللمس لما
لهذه الأخيرة من أهمية عند الضرير. و الأمثلة متعددة في هذا المضمار و كلها تدلل
على مرونة المخ نتيجة الإصابات في داخله أو في أحد الأعضاء الأخرى في الجسم. المخ،
إذن، ليس قائد أوركسترا بل عازف ماهر يتأثر و يحس بعزف زملائه و يؤثر فيهم سلبا و
إيجابا. المخ منسق و ليس مسيطرا، المخ ديمقراطي يؤمن بالشورى على الطريقة
الإسكندنافية، المخ ليس مستبدا، المخ لا يعيش في برجه العاجي فقد ربط مصيره بمصير
رفاق دربه، عندما تقرب الساعة لا يغادر السفينة هربا أو يهرع إلى مصر مثل ما فعل
شاه إيران عند بداية العصيان المدني بل يفارق بشجاعة نادرة سفينة الحياة آخر واحد،
يغادرها عندما يطمئن أن كل الأعضاء قد ناموا النومة الأخيرة، المخ فارس لا ككل
الفرسان، فارس نبيل قلّ وجوده في هذا الزمن الردئ، المخ مواطن عالمى ممتاز لا
يستغل نفوذه و لا يؤمن بالعنصرية أو القومية الضيقة و لا يبتز شركاءه في الجسم،
المخ يطبق على الأعضاء الحديث الرائع "يحب المؤمن لغيره ما يحب لنفسه "
و يطبق المبدأ الشيوعي الإنساني العظيم "من كل حسب جهده و لكل حسب حاجته
خلاصة
يلخص هذا المثال
الأخير في المقال "مخ المرأة/ مخ الرجل" بوضوح التفاعلات بين المعارف
Knowledge
و القيم
Values
عند الباحثين و نضيف إليهم أيضا التفاعلات مع
ممارسات الناشر في مجلة "علوم" الأمريكية
Nature
و المجلات الأخرى. لقد اعتمدنا في هذا التحليل
على نموذج "كليمان
Clément,
1998, 2004
الذي يسمى "م ق م" معارف، قيم، ممارسات
اجتماعية مرجعية
le
modèle KVP
بنشرها معلومات مشكوك علميا في صحتها، تحاول هذه المجلات
العلمية الترويج لغياب
المساواة الاجتماعية بين الرجل و المرأة و للتحيز الجنسي و ذلك باستعمال حجج
علمية واهية ذاتية و منحازة سلفا
ملاحظة: لمن يرغب في قراءة هذا النص بالفرنسية عليه
الرجوع إلى أطروحتي صفحة 51 الموجودة على رابط مدونتي التالي
و عنوانها
Citoyen du
Monde, Dr Mohamed Kochkar.
إمضاء
م. ع. د. م.
ك
الذهن غير المتقلّب غير حرّ
لا أحد مُجبر
على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن
يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه. عبد الله العروي
يطلب الداعية
السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج
العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد
لا أقصد فرض
رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و
على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي
الكاتب منعزل إذا لم يكن له قارئ ناقد
عزيزي
القارئ, عزيزتي القارئة، أنا لست داعية، لا فكري و لا سياسي, أنا مواطن عادي مثلك،
أعرض عليك وجهة نظري المتواضعة و المختلفة
عن السائد, إن تبنيتها, أكون سعيدا جدا, و إن نقدتها, أكون أسعد لأنك ستثريها
بإضافة ما عجزت أنا عن إدراكه, و إن عارضتها
فيشرّفني أن يصبح لفكرتي معارضين
البديل يُصنع بيني و بينك، لا يُهدى و لا يُستورد و
لا ينزل من السماء (قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) و
واهم أو ديكتاتور من يتصور أنه يملك البديل جاهزا
تاريخ أول
نشر في مدونتي و صفحاتي الفيسبوكية و في مواقع أخرى على النت
حمام الشط في 14 جويلية 2010