مقدمة منهجية: سبقني اليوم صباحًا إلى مقهى الشيحي، المقهى
التعيسةُ التي لم تعد تعيسةً، سبقني فيلسوفان، واحدٌ فرنسي والثاني تشيكي. أنقلُ
لكم دون أمانةٍ ما التقطتُه سرقةً من نقاشِهما، الضيّقِ الشيقِ والمشوِّقِ، حول هذا الكائنِ العجيبِ الذي عَمَّدتُه
عبثًا "عَمَّارْ التجمّعي الستالينْجِيُّ"! سمعتهما، والله العظيم سمعتهما،
سمعتهما بأذنيَّ اللتين سيأكلها الدود والتراب، الفرنسي اسمه جان بول سارتر،
والتشيكي لم ألقط إلا لقبه، كوزيك. الظاهر من سخريةِ عيونِكم أنكم لم تصدّقوني! لا
يهم.. لكي أكتبَ، يكفي أن أصدّقَ نفسي.
كانا الاثنانِ
في حوارٍ حميمٍ، كانا يُقرِّعانِ جليسًا ثالثًا، مسكينًا غائبًا، اسمه "جان التشيكي
الستاليني"، كانا يُطرِّقانِه على رأسه الحديدية بمطرقةٍ أشدَّ صلابةً من
مطرقة ستالين نفسه، هي مطرقةُ الفلسفةِ. تعاطفتُ مع الضحيةِ، تسللتُ إلى طاولتِهما،
وبخفةِ ساحرٍ سحبتُ بلطفٍ المسكينَ من يدِه، ووضعتُ مكانَه في قفصِ الاتهام "عَمَّارْ
التجمّعيُّ الستالينْجِيُّ"، ابن بلدي! لماذا؟ ربما ثأرًا وشماتةً أو لكي أتمكن
من نقل ماذا ألّفا فيه المؤلِّفان في كتاب "الاشتراكية الوافدة من الصقيع"، مترجَم عن
سارتر، سلسلة مواقف الفكر المعاصر، دار الكاتب العربي، بيروت، (أول مرّة لا أجد في
كتابٍ تاريخَ إصدارِه).
مَن هو هذا الــ"عَمَّارْ
التجمّعي الستالينْجِيُّ"، الذي حَكَمَنا وحاكَمَنا قبل الثورة، وما زال يَحكمُنا
أيضًا بعد الثورة، وسيظل يَحكمُنا إلى يوم يُبعثون، قَدَرُنا المحتومْ ومصيرُنا
المشؤومْ.
"عَمَّارْ
التجمّعي الستالينْجِيُّ"، هو كائنٌ توافقيٌّ حِربائيٌّ، ارتدى ثوبًا جديدًا بمناسبة
الاحتفاء بشهر ثورة 17-14، ثوبًا مزركشًا لكنه مرقّعٌ بخِرقٍ بالِيةٍ مختلفةِ
الألوانِ.. والله لو خرجتَ من جلدكَ لعرفتُك، يا عَمَّارْ.. يا وِلْدْ "الطرابلسية"!
ملاحظة
ديونتولوجية: لقد سرقتُ القالبَ الفلسفيَّ واللغويَّ وحشوتُه مقامةً شعبويةً من
مقاماتِي الكشكاريةِ. يكفيكَ تخريفًا وتجذيفًا يا كشكار.. وما دخلُ "عَمَّارْ
التجمّعي الستالينْجِيُّ" بــ"جان التشيكي الستاليني"؟ دققوا معي،
"خوذوا عيني شوفوا بيها"، وستكتشفون أنهما وجهانٍ لعملةٍ واحدةٍ.
لبّ الموضوع:
إن ما يميّزُ هذا الــ"عَمَّارْ التجمّعي الستالينْجِيُّ"، ذكرًا كان أو أنثى، أنه تجمّعتْ فيه عِدّةُ طِباعٍ سيئةٍ، ويميّزه أيضًا قدرتُه على التخفّي تحت عدة مسميات. هو كائنٌ لا يفكّرُ، لأن أعرافَه يَرَوْنَ في التفكيرِ شيئًا لا محلَّ له داخل تجمّعاتِهم، أعني أحزابَهم، ومهما تنوّعتْ عناوينَها فالبصمةُ الجينيةُ الستالينيةُ واحدةٌ، وهي علامةٌ لا تُخطِئُ أبدًا، وفي وسعِنا أن نقولَ أنهم تعلّموا أن لا يفكّروا، وإذا ما تصرّفَ أحدهم ضد طبيعته المكتسبة وسمح لنفسه بلحظة تفكيرٍ في التفكيرِ، فهو بهذه اللحظة المخطوفة يخاطِرُ مخاطَرَةً عظيمةً ويعرّضُ نفسَه ومستقبلَه السياسيَّ في الوقتِ ذاتِهِ للخطرِ، وهذه هي على ما أتصورُ ممارساتٍ وسلوكاتٍ ما زالت سائدةً بعد الثورةِ إلى اليومِ، أظن أن هذه هي ما يُسَمِّيها فقهاءُ الحداثةِ سُخريةَ العقلِ وعبثيةَ القَدَرِ
(Le nihilisme nietzschéen ou la ruse de la
raison).
"عَمَّارْ
التجمّعي الستالينْجِيُّ"، هو أيضًا كائنٌ محرّمٌ عليه مجرّدُ امتلاكِ الرغبةِ
في التفكيرِ، وهذا أمرٌ ذكيٌّ مُدبَّرٌ من قِبلِ أسيادِه في الخارجِ (FMI, BM, BCE, etc) وممثليهم في الداخلِ (لوبيات الأعمال والتهريب)،
ومتأتٍّ بالدقةِ كنتيجة للمقدّمات، فالرغبةُ قد تقودُ إلى التفكيرِ، إلى الجدلِ،
إلى التمرُّدِ، إلى التحرُّرِ وفي النهايةِ إلى الاستقالةِ ثم المعارضةِ، وعندما
تتكلسُ الثورةُ، يغدو التفكيرُ إذن مناقضًا للثورة نفسِها.
"عَمَّارْ
التجمّعي الستالينْجِيُّ" كائنٌ لا يموتُ مطلقًا، لأن الأنانيةَ والجشعَ،
صفتان لا تعترفان بالمكانِ ولا بالزمانِ ولا بالموتِ. والسببُ في ذلك هو الأتي:
"عَمَّارْ
التجمّعي الستالينْجِيُّ" هو إنسانٌ آليٌّ، والكائن الآلي لا يعيش، هو ليس
على قيدِ الحياةِ حتى يتمكّنَ منه الموتُ، وعندما يتبلّدُ، يتبلبلُ، يختلُّ، يُصلَحُ
أو يُبعدُ إلى فجرٍ آخرَ قد يُحتاجُ يوماً لكفاءاته، والأمثلة في تونس عديدة:
السبسي، محمد الناصر، بسيّس، حاتم بن سالم وزيرُنا المفدَّى، الصيد، إلخ. والإنسان
الآلي، عادةً لا جسدَ له، ومن هنا ندرِكُ أن النظامَ (هو نفسه قبل وبعد الثورة، مع
بن علي أو دون بن علي) يملكُ دواليبَ تدورُ، أشرطةَ نقلٍ وإيصالٍ، لكنه لا يملكُ
أعضاءَ أو منخرطينَ، والذين يفكّرون عوضًا عنه (الدوائر المالية العالمية
والمحلية) من أجل مصلحتهم هُمُ قبل مصلحته هُوَ، أشباه المنخرطين ليست لهم أعينٌ
ليبصروا بها ما حولهم، وحتى لو افترضنا جدلاً أن لهم أعينًا، فهي أعينٌ لا تَرَى
إلا ما تريدُ أن تَرَى، ولا تَرَى ما يريدُ الشعبُ أن يَرَى.
في كلمةٍ: "عَمَّارْ التجمّعي الستالينْجِيُّ"
كائنٌ متحوّلٌ متجدّدٌ آليًّا، كائنٌ مجرَّدٌ من الوعي، وهو في غير حاجة، لا لوعيٍ
ولا لمخٍّ، فنخاعٌ شوكيٌّ يكفيه وزيادة، يكفيه لتنفيذِ الأوامرِ. ثم بحق الشيطانِ،
ماذا عساه يفعل بمخٍّ أو بوعيٍ؟ فالأهدافُ مرسومةٌ سلفًا، والمهامُّ معدَّةٌ
مسبقًا، وستُضبَطُ ردودُ أفعالِه بواسطةِ أساليبَ دقيقةٍ مُبَرهَنٍ على جدواها،
بما في ذلك أفعالُه الدماغيةُ الخارجةُ عن تَخَصُّصِ قشرتُه المخية، قشرةٌ مخدَّرةٌ، مركزُ الإرادة والقيادة والسيادة عنده
مركزُ معطَّل، ومُولّد النقد والتفكير والتدبير عنده أيضاً معطَّل.
"عَمَّارْ
التجمّعي الستالينْجِيُّ"، كائنٌ لا يعرف "الحب والصدق والتضامن والتآزر
والمصلحة العامة" بسبب أنه ليس لهذه القيم وجودٌ في عالَمِه. وبالتالي فلا
تحتلُّ في تلافيفِ مخّهِ حيّزًا حتى ولو كان صغيرًا، ولا تمثلُ بالنسبة إليه
حقيقةً ملموسةً. الحقيقةُ عنده، سرابٌ ضبابيٌّ، يقول عنها أن فئاتًا شعبويةً قليلة
هي التي تقف وراءها، تساندها وتشجعها، فئاتًا لا يراها (هو) ذات قيمة ولا ذات أهمية.
ردُّ فعله الدماغي الذي يدعونه، بخلاف الأصل، فكرًا، هذا الشيء المدهش الخارج عن
ذاتِه وإرادتِه نفسِه، والذي تحرّكُه قوى خارجيةٌ، يتعلقُ خاصةً بالآليةِ
البافلوفيةِ: إنه قابلٌ للتحريكِ إلى أقصى مَدَى، كما أنه قابلٌ للتسخيرِ إلى أعلَى
درجةٍ.
إن رجال
النظام "التجمّعيين الستالينْجِيُّين" (Les hommes
d`appareil)، قبل الثورة وبعدها، بجميع
ألوانهم في السلطة والمعارضة المضادّة للثورة، هذه المنتوجات المتعفنة من الإنتاج
المُوَثَّنِ، هم، في جوهرهم، مشبوهون، مشبوهون لسببين: أولا لأنهم منحوتونَ
كتماثيل، وثانيًا لأنهم ليسوا تمامًا منحوتِينَ. فباعتبارهم رجالاً ميكانيكيين
(آليين) نراهم قابلين لأن يُبرمَجوا، "يُفَرْمَتوا" (Formatage)، ثم يُبرمَجوا للمرة الألف، ويُحرَّكوا في أي اتجاهٍ
يراهُ قائدُهم ومحرِّكُهم وجيهًا، فهُمُ بهذا مرتزقةٌ، وبسهولةٍ كبيرةٍ كما
يُشترَونْ يُباعونْ، خيانتُهم تنبعُ من عجزِهم، وما دامت السلطة تستطيعُ أن تكتشفَ
المفتاحَ الذي يديرُهم، فكيف لا يكتشفُه عملاءُ الخارجِ بدورِهم أيضًا؟ ومَن يَدرِي
من يَشدّ إليه أكثر خيوطَ التمثالِ المتحركِ؟
خاتمة: ومع ذلك فالناس لا يولَدون كــ"عَمَّارْ
التجمّعي الستالينْجِيُّ" وصوليين، محدودين مزوّدين بقِطعٍ جلدية على أعينهم،
كخيول العربات، تحدُّ من حقل رؤيتهم. ولا يولدون ضد التفكير، فالعقل هو الهبة
الطبيعية الوحيدة الموزعة بين الناس بعدلٍ، ولا يولدون مجرَّدين من الحساسية
والعواطفَ، بل يُصبحونَ قابلينَ في كل لحظةٍ للخنوعِ والاستسلامْ وإلى عمليةِ
إفسادِهم أخلاقيًّا من قِبلِ السيستامْ. لكن النظامَ العالميَّ الجديدَ هو الذي
يريدهم هكذا، كلهم ودون استثناء كــ"عَمَّارْ التجمّعي الستالينْجِيُّ"،
وهو يستولي على عقولهم لأنه لا يستطيع أن يعمل دونَهم.
كلامٌ خارجٌ
عن موضوع اليوم ولا يهم "عَمَّارْ التجمّعي الستالينْجِيُّ"، كلامٌ
ألّفتُه ولم أسمعه: إن الأحزابَ، كل الأحزابَ التي حكمتنا بعد تاريخ 1917
أو عارضت مَن يحكمُنا، في العالَم العربي، كلها خرجت من قالبٍ لينيني-ستالينيٍّ
واحدٍ موحّدٍ: الحزب الدستوري، الإخوان المسلمون، الأحزاب البَعثية والناصرية،
جبهة التحرير الجزائرية، وحديثًا داعش وأخواتها، إلخ. كلها أحزابٌ بُنِيتْ على
الهرمية اللينينية، من فوق إلى أسفل، من القمة إلى القاعدة، من القيادة إلى الشعب
دون "فيدباك". كل منخرطيها تربّوا على عبادة شخصية المؤسس الأب الملهم
المُنظِّر المعصوم المهيمن، المتعالي الذي انتحلَ -والعياذُ بالله- بعضًا من صفات الله (بورڤيبة، بن علي، حمة، الكيلاني،
الشابي سنيور ثم جنيور، بن جعفر، الغنوشي، البنّا، عبد الناصر، صدام، السادات،
مبارَك، الأسد الأب ثم الابن، الڤذافي، علي عبد الله صالح، بومدين، الحسن الثاني،
الحسين، البشير، إلخ.). كلها أحزابٌ ستالينيةٌ صُمّمت لكي تَبقَى وتُعمِّرَوتُبقِي
على غياب الديمقراطية داخلها، وعلى غياب التداول على رئاسة الحزب، وعلى احتمالِ
استعمالِ العنفِ المسلّحِ كلما أحست بأخطارٍ تُهدِّدُ كيانَاتَها، يبدو أنها لم
تُشْفَ بعدُ من داء "العنف الثوري" الستاليني. ستالينيتُها، ستالينيةٌ
هيكليةٌ ضمنيةٌ، حتى ولو تستّرتْ بألفِ غلافٍ ملوَّنٍ، وحتى ولو أنكرها المستفيدون منها، ليبراليين كانوا، أو قوميين أو
شيوعيين أو إسلاميين.
إمضاء
الناقدُ لا
يُطالَبُ ببديلٍ. البديلُ ليس جاهزًا. البديلُ يُصنَعُ ولا يُهدَى. وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي. كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ
القناعاتِ والبداهاتِ العمومية" فوكو
و"إذا كانت
كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الجمعة 4 جانفي
2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire