تنبيه منهجي:
أنا أعي جيدًا أن التجربة
التي سأتحدثُ عنها تجربة محدودة في العدد والزمان والمكان وأعرف أيضًا أن التوقف
عند مثالٍ واحدٍ (Un seul exemple) يختزل الفكرة وقد يشوّهها (L`exemple réduit l`idée et pourrait la déformer)
لكنني -ورغم العوائق المنهجية- سأحاوِلُ.
ملاحظة ديونتولوجية:
للأمانة العلمية، أخذتُ الوعاءَ
اللغويَّ والمضمونَ الفلسفيَّ من كتاب "الحداثة واستبعاد الآخر"
للفيلسوف عمر بوجليدة، 2013، ص 43-45،
واستبدلتُ نَصَّه بِنَصِّي.
نَصِّي:
هذا الآخر أي "الخوانجي
التونسي" (مع الاعتذار لصديقي علي ضيفلله عن استعمال المفردة السائدة لكن هو
لا يحبّذها)، الآخر الذي هُمِّشَ طويلاً ونُبِذَ بعيدًا وبِنيّةٍ مبيّتةٍ أبعِدَ عن
الفضاءات الثقافية العامة (مسرح، سينما، إعلام، نشر، نوادي ثقافية ومدرسية، جمعيات
حقوقية، مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل الوطنية والجهوية والمحلية، إلخ.)،
أقصِيَ منها من قِبل اليسار الستاليني التونسي (البوكت والأوطاد).
هذا الآخر (الخوانجي التونسي) لم يعد يقبلُ أن يكون موضوعًا للدرس فقط بل يريد أن يصبح ذاتًا وليس اختراعًا تصنعه ذاتٌ ما (اليسار الستاليني التونسي) لتوظفه وتستعمله لتعريفِ نفسِها بما ليس فيها (حركة تونسية-أممية يسارية حداثية عَلمانية ديمقراطية حقوقية)، وتنقل هذا الآخر عندئذٍ مِن كائنٍ فعلِي إلى كائنٍ صورِي لا يمتلك أيَّ دَوْرٍ وجودي قِيمِي
(Un être axiologique)
بل آخر يمتلك فقط دورًا أداتيّاً لِشيءٍ مقابلٍ، يتوهم الستالينيون التونسيون أنه
يساعدهم على تمييزِ هويتهم الستالينية الشمولية الإقصائية المنغلقة والدخيلة
والمنبتة عن بيئة المجتمع التونسي ذي الأغلبية الساحقة المسلمة، هويتهم وافدة مثلها
بالضبط مثل الهويات السياسية الأخرى المتواجدة بتونس كالإخوانية والوهابية وهوية
حزب التحرير، هويات ثلاث تجمعهم مرجعية إسلامية سياسية واحدة مشتركة.
في عصر الثورة التونسية
البوعزيزية ما يزال الآخر ("الخوانجي التونسي") غريبًا وبعيدًا، لم يرتقِ
بعدُ في ذهنِ الستالينيين التونسيين إلى أن يكون موضع الغيرية وعنوانًا معروفًا
ومعترفًا به للاختلاف ولا أن يكون حتى مصدرًا لحركةٍ موجبةٍ، وبالتالي يغيب عند
هؤلاء المتعصبين المنغلقين مفهوم "الآخر" بإطلاقٍ من تأملاتهم الوثوقية
(Dogmatiques).
اليسار الستاليني التونسي عظّم
ذاتَه ونفخَ فيها وصدّق حجمَها الوهمي وأسس جل خطابَاته السياسية والفكرية
والثقافية والنقابية والحقوقية على إقصاءِ الخطابات الإسلامية عموما وأقصى منها خصيصاً
الخطابات "الخوانجية" في كل هذه المجالات واستبعد فعليّاً "الخوانجية
التونسيين" من جل الفضاءات العمومية ولم يترك لهم -مكرهٌ أخاكم لا بطل- إلا
المساجد والجوامع والكتاتيب والجنائز والأعياد الدينية، فحَكَمَ بالتالي على "الذات
الخوانجية التونسية" بالتقوقعِ على نفسِها ونفاها خلال ستين سنة وطوالَ
العهدَين السابقَين (بورڤيبة وبن علي) من جل الساحات الثقافية الممكنة والمتاحة.
يقول الستاليني التونسي وهو
ينظر إلى حداثته هو (الستالينية) وعَلمانيته هو (لائكية الثورة الفرنسية المعادية
للكنيسة مع التذكير أن الدولة الستالينية لم تكُ يومًا ديمقراطية ولا تعددية ولا
حقوقية ولا حرية تعبير أو نشر ولا لائكية بل كانت دولةٌ قمعيةً تسود داخلها
ديكتاتوريةُ الحزبِ الواحدِ، دولةٌ تُعلِي
من شأن الإلحاد بل تدرّسه وتمنع المسيحيين والمسلمين واليهود من الاحتفال العلني
بأعيادهم الدينية). ماذا يقولُ؟
يقولُ: "كيف يمكن لي أن
أنكر وجاهة "الحداثة" و"العلمانية" ولا أرى فيهما الحل الأوحد
لتخلف مجتمعنا التونسي العربي المسلم المعاصر، اللهم إلا إذا قارنتُ نفسي بهؤلاء "الخوانجية
التونسيين" الرجعيين الظلاميين الجرذان الإرهابيين الذين اختلطتْ عليهم
الأمور وأعماهم عن المنطق والحس السليم كرهُهم لليسار فباتوا عُميٌ صمٌّ بُكمٌ لا
يفقهون".
يبدو لي أن مهمة الانتقال من "الأنا
الستالينية" إلى الاعتراف بالآخر كذات وليس كموضوع هي من أهم وأوكد المهمات
الديمقراطية إلا أن اليسار الستاليني التونسي -خلافًا لليسار الغربي- لم يتحرر
بعدُ من وهم تحقيق الجنة الشيوعية في تونس بغض النظر ورغمًا عن تركيبة المجتمع
التونسي المسلم. إن التيار الستاليني التونسي لا يعترف بالتيار النهضاوي التونسي
إلا ليتمكن من إقصائه واستبعاده حتى يطرد خطره المستقبلي المحتمل على وجوده وذلك
بتغليق الأبواب على فكره السياسي الإسلامي للحد من تأثير هذا الفكر ومن ثَم إخراجه
ثانية (بعد الثورة) من الفضاء الثقافي العام ظنًّا منه أن الغائب على العين غائب
على الفعل في الواقع. لم يتعظ اليسار التونسي من تجربته الفاشلة قبل الثورة بل
أراد تكرارها بعد الثورة. غاية الستالينية التونسية كانت ولا زالت السيادة
والسيطرة وتحويل كل مَن خالفها إلى خصومٍ وأعداءٍ حتى ولو كان عددهم بالملايين
أسوة بـ"أب الشعوب" (ستالين) الذي نفى وشرّد وقتل وسجن قرابة ثلث شعبه
السوفياتي (يكون نقدي في غير محله لو قام الستالينيون التونسيون بنقدهم النظري
الذاتي خاصة وأنا أصدّق شعاراتهم الاشتراكية النبيلة ولي فيهم أصدقاءٌ كُثْرُ أحبهم
وأحترمهم وأجلهم وأقدرهم وهم أبرياء من جرائم ستالين ولا أحمّلهم وزرها ومتأكد
أنهم صادقو السريرة ولا يحبذون القتل للوصول للسلطة كما فعل الدواعش الإسلاميون).
غايةٌ الستالينيين التونسيين نبيلة لكنها مستحيلةٌ أما وسائلهم لتحقيقها فهي أقل
ما يُقال فيها أنها غير ديمقراطية، والغاية عندي -مهما كان مستوى نبلها- لا تبرر
الوسيلة.. كان ستالين في عونهم!
يحق للقارئ أن يسأل وما الرابطُ
مع العنوان؟
"نادي مقابسات" هو
نادي ثقافي ذو مرجعية فلسفية إسلامية (مؤسسوه أساتذة فلسفة لا يحبذون إلحاقه
بِمدار حزب النهضة وأنا أصدقهم)، نادي يحاول الإعتراف بالآخر (اليسار) كذاتٍ
مستقلةٍ مغايرةٍ وليس كموضوعٍ للدرس فقط ،
ولتحقيق ذلك استدعى هذا
النادي مفكرين يساريين ماركسيين (أمثال سليم دولة ود. أم الزين بن شيخة وغيرهم من
الأقل شهرة وأقل إنتاجًا من اليساريين غير الماركسيين أمثالي) ووفر لهم منبرًا حرًّا
بأتم معنى الكلمة وجمهورًا أظن أن أكثرَه نهضاويون وفسح لهم المجالَ واسعًا
ليعبّروا عن وجهاتِ نظرهم المختلفة تمامًا عن وجهاتِ النظر الإسلامية عمومًا والنهضاوية
خصوصًا.
خاتمة:
أتمنى أن أرى وأسمع يومًا
مفكرًا إسلاميًّا غير منتمٍ يحاضرُ في منتدى ثقافي ذي مرجعيةٍ ستالينيةٍ مع
الإشارة أنني لستُ إسلاميًّا ولستُ ستالينيًّا، أتعاطف مع الاثنين لكنني أعارضُهما
جذريًّا، فكريًّا وسياسيًّا.
إمضائي
"الفلسفةُ
هي الحوارُ" فيلسوف حمام الشط حبيب بن حميدة
"المثقفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العمومية" فوكو
"نَحْنُ
نسأل مَن نكون في هذا الحاضر؟ لا لنكتشف مَن نَحْنُ فقط بل لنرفض مَن نَحْنُ، أي
أن نتخيل كيفية وجود مُغايِرة، تأكيدًا لحق الاختلاف، حق الآخر...". فوكو (عمر بوجليدة، 2013)
"لا أقصد فرض رأيي
عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى كل
مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف الرمزي أو اللفظي أو المادي" (مواطن
العالَم)
وَ"إذا كانت كلماتي لا
تبلغ فهمك فدعها إلى فجر آخر" (جبران)
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الثلاثاء 5 سبتمبر 2017.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire