عن أي مجانية أتحدث؟
عن مجانية الغذاء والسكن والصحة
والنقل والتعليم والهاتف والأنترنات. مجانية الثمن (Le prix) وليس الكُلفة (Le coût): في المنوال المجاني، المواطن
يدفع كلفة الخدمات مع المجموعة الوطنية عن طريق الضرائب ولا يدفع ثمنها كفرد عند
الاستهلاك أو الاستعمال.
جامعة بريطانية أجرت بحثًا
أكدت نتائجُه أن الخدمات مدفوعة الثمن تتكلف على ميزانية الدولة خمسة أضعاف
تكلفتها لو كانت مجانية.
أقترح عليكم بعض الاجتهادات:
نقل حديدي يشتغل بالطاقة الكهربائية (مترو خفيف) لا يلوّث المحيط ونادر الحوادث
مما يقينا من الإصابة بعدة أمراض ويجنّبنا مصاريف علاجها الباهظة. الصحة المجانية في القطاع العمومي تريحنا من كارثة
المتاجرة بصحة المواطن في القطاع الخاص. التعليم المجاني يسوّي بين أبناء الأغنياء
وأبناء الفقراء ويضمن تكافؤ الفرص للجميع دون تمييز طبقي ويفتح للفقراء منهم بابَيْ
الترقّي والمصعد الاجتماعي على مصراعيهما. مجانية الأنترنات تضمن حرية التعبير
والنشر لجميع المواطنين بعدما كانت حكرًا على الإعلاميين وأصحاب وسائل الإعلام.
مجانية السكن تخفف حِمل دفع معلوم الكراء الشهري الذي يصل اليوم إلى ثلث مرتب
أستاذ (500د على 1500د). مجانية الغذاء تمنع احتكاره من قِبل الرأسماليين الجشِعين
وتضمن سلامتَه من كل غِش، والدولة التونسية بالذات قادرة على توفير الغذاء مجانًا لجميع
التونسيين: بعد الجلاء الزراعي، ورثت الدولة عن الفلاحين المعمّرين الفرنسيين 800 ألف هكتار أراضٍ زراعية خصبة
موزعة على كامل أنحاء الجمهورية (قمح وبرتقال وزيتون ونخيل)، وزّع منها بورڤيبة
على أصحابه دون وجه حق 300 ألف هكتار وبقي
إلى اليوم 500، لو فُلِحت وأديرت كما أدارها الأجانب لوفّرت الغذاء مجانًا لكل
التونسيين.
خدمات مجانيةٌ هي في الحقيقة
ليست مجانية لأننا دفعنا كُلفتَها مسبقًا من المال العام المتأتّي من دافعِي
الضرائب، أي نحن المواطنون، فلماذا تطلب منّا الدولة إعادةَ الدفع ثانية عند
الاستهلاك أو الاستعمال؟
أعرض عليكم مثالا من الواقع،
تجربة جمنة في الاقتصاد التضامني: أرض جمنية افتكّها المستعمر الفرنسي سنة 1912،
غرسها عمال جمنين وسقوها بمائهم وعرقهم، أصبحت واحة ظليلة تنتج دڤلة نور، ورثتها
الدولة التونسية في الجلاء الزراعي سنة 1964، سوّغتها لمستثمرٍ مقابل ملاليم، نَهَبَ
خَيراتَها وأهملَ نَخيلَها العشرة آلاف، استرجعها أهالي جمنة في ثورة 2011، تديرها
اليوم تطوّعًا مجانيًّا جمعية حماية واحات جمنة (عشرة جمنيين "أنبياء")،
وكل ربحها يذهب اليوم مجانًا لصالح سكان جمنة على شكل إنجازات يستغلها المواطن
الجمني مجانًا أو بمقابل رمزي (سوق بلدي مغطَّى، قاعة رياضة مغطاة بالمعهد، سيارة
إسعاف، ملعب كرة قدم صغير معشّب، إلخ.).
خاتمة: المجانية تحرّر
الإنسان من سجن المجتمع الاستهلاكي الذي حبستنا داخله الرأسمالية المتوحّشة،
وتحرّرنا أيضًا من الأنانية المفرطة وترفعنا في سلّم الإنسانية درجات. المجانية نشيدُ
يمجّد المشاركة في مُتَعِ الحياة دون ستراس والقطعُ نهائيًّا مع رذيلة حب التملّك
وإعلاء فضيلة حب جودة الحياة.
مصدر الإيحاء:
Monde
diplomatique, novembre 2018, «Éloge de la gratuité», par Paul Ariès,
politologue, p. 28
إمضائي
قرارُ القطعِ النهائيِّ مع أربعة أصدقاء كانوا فيما مضى حميمين، قرارٌ
أراحني كثيرًا وخلقَ لديّ إصرارًا على مواصلة الكتابة والنشر. يبدو لي أنني نجحتُ
في أن لا أُبقِي في داخلي إلا على مشاعر الحنين لِما هو جميلٌ فيهم.
أجتهدُ فإذا أصبتُ فلي الأجرُ الموعودُ، وإذا أخطأتُ فلي بعضُه!
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
Aimer, c`est
agir. Victor Hugo
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الخميس 8 نوفمبر 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire