lundi 12 novembre 2018

سيرة فكرية، تُقرأ ولا تُحتذى: خطاب الهوية، المختلف، المتعدد، المتعارض، المنفصم! جزء 2. مواطن العالم د. محمد كشكار



غيّرتُ ذاتي و أعدتُ بناءها أو ترميمها، و من أستاذ إعدادي، غير مجاز في اختصاصه (كنتُ أتصبّب عرقا من مدير معهد ثانوي يتبجّح دون لياقة بأن مؤسسته تضم 80 في المائة من الأساتذة المجازين)، أصبحتُ أستاذا مجازا في اختصاصي وحاملا لدكتورا في غير اختصاصي الأول من جامعة تونس وجامعة كلود برنار بفرنسا. لكن "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، حصلتُ على بطاقة دخول إلى مجال البحث العلمي. لم أدخله. أُوصِدت في وجهي أبواب الإنتاج العلمي وحُرِمت من شرف الارتقاء إلى رتبة عالِم أو منتج للعلم وبقيت كما أنا، غصبا عني، أستاذا نكرة ناقلا للعلم. ولعل ما أكتبه وأنشره في الفيسبوك والنت، هو شكل من أشكال إثبات الذات والبحث عن الاعتراف أو شكل من أشكال الصراع بيني وبين نفسي.
إنها مجابهة لقدرتي ومحاولة معالجة جهلي وقهره، بوسيلتي التي هي حيلتي، أي بترجمة إحباطي أملا على شكل يشبه أثرًا كتابيًّا. أرجو أن يستحق تسميته كأثر يُقرأ فلا يُذكر. وهكذا أردتُ أن أبيّن كيف حِدتُ  سابقًا عن هويتي الأمازيغية-العربية-الإسلامية جاهلا ثراءها لأتعرّف على تشويهات النظرية الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي والصين وكوبا وعلى نُسَخِها الباهتة في دول أوروبا الشرقية  وكوريا الشمالية وألبانيا. هذه النظرية راجت وسادت بمفردها على الساحة الفكرية والسياسية في تونس الستينيات والسبعينيات. حاولتُ أن أشرح كيف تحولتُ من إسلامي الفطري إلى أيديولوجيتي الاشتراكية الفلسفية الحديثة المكتسبة ثم كيف تخليتُ عن هذه الأخيرة متوجها نحو آفاق الفكر الإنساني الأرحب بمساعدة سارتر وسيمون دي بوفوار. لكن للأسف، فإنسانية هذا الفكر، لم تحضني كعربي مسلم  ورحابته لم ترحب بي وعالميته لم تشملني. فرجعتُ إلى حضن أمي وشرعتُ في الحفر الأركيولوجي الجاد داخل نفسي ووطني وتراثي الأمازيغي-العربي-الإسلامي، علَّني أفوز داخل أسوار هذا الكيانات بكنوزها المغمورة وأنقذ ذاتي وأسترجع هويتي التي ضيعتُها بجهلي.
سأحاولُ أن أصفَ خيبتي ونجاحي، ترددي بين إيماني وشكي، أو تأرجحي بين إسلامي وعَلمانيتي وبين حداثتي وأصالتي، أو توزعي بين وطنيتي وعالميتي، أو انشطاري بين ذاتي الثائرة الصعلوكة وانتمائي لقبيلتي.
حديثي هذا عن معاناتي الفكرية وحيرتي الوجودية لا يعني البتة أنني رسوتُ على رأيٍ واحدٍ ألتزمُ به طول حياتي. لا يعني أني وصلت إلى بر الأمان المعرفي! هذا البرٌّ، برٌّ مفقودٌ، مفقود، يا ولدي! وهذا أبعد ما يكون عن ممارستي للنقد الإبستمولوجي للمعرفة البشرية المتراكمة عبر آلاف السنين، ذلك أنني أغيّر أفكاري باستمرار، وهو ما يبرّر استمراري في البحث الحر غير الأكاديمي والكتابة المستقلة عن أي أيديولوجيا. ولهذا فإن كتابة هذه السيرة لم تكن بالنسبة لي تتويجا لمسيرة، وإنما هي مجرد حفرٍ أركيولوجي على حد تعبير "ميشيل فوكو" في الكلمات والأشياء، حفرٍ في الذات علّني أظفر في طياتها بِبصيصٍ من نورٍ يضيء دربي ويبدد شيئا من حيرتي وتيهي وضياعي.

أعرّف نفسي كيساري ديمقراطي عَلماني مؤمن ومُعجب بالنمط الأسكندنافي، لكنني أسعى إلى التماهي مع مجتمعي التونسي الإسلامي الأمازيغي العربي الأممي الرافض لأي تحالف مع الإدارة الأمريكية الحالية وملوك وأمراء الخليج العربي وحلف الناتو الاستعماري الجديد (تتونستُ، تبربرت، ترومنتُ، تقرطجتُ، تأسلمتُ، تعرّبتُ،  تعولمتُ، وحديثًا تتونستُ من جديد، هويتي هي انبثاقٌ من تفاعل كل هذه الحضارات جميعا)، وهذا لَعمري تعريف لوحده مُبِين، أتبناه حيطة وحذرا علميا، لا هروبا وتقية من التعريفات السائدة كاليسارية والعَلمانية والحداثة، هذه المفاهيم الثلاثة الأخيرة التي شُوهت عن قصد سياسي وغير علمي من قبل أعدائها وغير المطلعين على تراثها العالمي الرحب والغني، هم اليمينيون المثقفون وغير المثقفين الذين حمّلوا هذه المفاهيم الثلاثة ما لا تتحمل ونسبوا لها، جهلا وظلما وبهتانا، تأويلات غريبة عنها كالميوعة و"قلة الرجولية" و الكفر والإنبتات والخيانة الوطنية. لكن في المقابل - وللأسف الشديد - لم يطوّرها أصحابُها ومحتكروها الشيوعيون والقوميون والاشتراكيون ولم يخلّصوها من بعض الشوائب التي لصقت بها منذ ثلاثة قرون تقريبا  ولم يسلّطوا نقدهم الذاتي العلني على بعض تأويلاتها المغرضة من قِبل الإسلام السياسي (رفض النقد العلني، موقفٌ أتفهمه فقط كرد فعل شرعي للدفاع عن النفس ضد تهديدات المتطرفين من الإسلاميين، الداعين لقتل العَلمانيين ونفيهم وصلبهم وتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، لا لشيء سوى معارضة هؤلاء الأخيرين للإسلاميين سياسيا وسلميا بالمظاهرات والاعتصامات التي لا تعطل مرفقا عاما) أو نقد مفاهيمَها المتكلّسة مثل ديكتاتورية البروليتاريا  والحزب الطلائعي الأوحد  وتقديس الشخصيات التاريخية السياسية مثل الحكام الدكتاتوريين كلينين وستالين وماو وكاسترو وعبد الناصر وصدام والأسد مع احتفاظي باحترامي التام للتابعين لهؤلاء من الرفاق المعاصرين المناضلين التونسيين النقابيين القاعديين اليساريين الصادقين النزهاء الذين تربيتُ وسطهم وناضلتُ معهم و أعترفُ وأشهد لهم بالوطنية والشجاعة أيام معارضتهم لبورقيبة وبن علي والحكومة الحالية.

كبعض المفكرين المسلمين، أتأرجح في موقفي الكشكاري الشخصي من الحرية بين مناصرة الحركة الاشتراكية فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية وبين مناصرة الليبرالية فيما يتعلق بالحريات الفردية.

د. بعد ثورة 14 جانفي 2011 في تونس
ومع أن الثورة الدائرة في بلدي - تونس - ليست كسائر الثورات، إذ هي ثورة مركبة لها أكثر من وجه - وجه تقدمي، وجه رجعي، وجه غير واضح - وتتدخل فيها أطراف أجنبية يصعب حصرها، أطراف تعمل على إجهاضها مثل أمريكا، الاتحاد الأوروبي، قطر، السعودية، أركان النظام القديم، العملاء الجدد. ثورةٌ تغلي داخل بُرمتِها أهدافٌ متناقضةٌ وشعاراتٌ متناقضةٌ متنافرةٌ، مثل:
-         المطالبة بحقوق الإنسان وفي الوقت نفسه المطالبة بتطبيق الحدود الشرعية.
-         المطالبة بحرية التعبير وفي الوقت نفسه المطالبة باحترام الصورة الموروثة في مخيلة الناس حول المقدسات.
-         التغني بالحداثة وفي الوقت نفسه الرجوع الشكلي للسلف الصالح.
-         التغني بالعَلمانية وفي الوقت نفسه المطالبة بدولة الخلافة.
-         ممارسة التكفير في الواقع وفي الوقت نفسه تجريمه في الدستور.
-         ممارسة التطبيع في الواقع وفي الوقت نفسه المطالبة بتجريمه في الدستور.
-         المطالبة بحرية الإبداع وفي الوقت نفسه المطالبة بتحريم المسرح والرقص والتصوير والنحت والتعبير الجسماني عند الفتيات.
-         المطالبة باستقلالية الإعلام العمومي وفي الوقت نفسه المطالبة بخوصصته.
-         المطالبة بالتشغيل وفي الوقت نفسه المطالبة بغلق المؤسسات التابعة لبن علي وأصهاره ووكلائهم في الداخل والخارج.
-         المطالبة بخلق فرص شغل وفي الوقت نفسه المطالبة بغلق المؤسسات السياحية الحرام.
-         المطالبة بتشجيع السياحة الأوروبية وفي الوقت نفسه غض الطرف عن  الانفلات الأمني السلفي الجهادي.
-         فك بعض الاعتصامات بالقوة والقمع وفي الوقت نفسه مساندة بعض الاعتصامات بالـ"مليشيا".
-         استعداء مجاني لبعض الأنظمة الأجنبية وفي الوقت نفسه التفكير في جلب مستثمرين من بلدانهم.
-         الجَلْد اللفظي اليومي لضحايا العنف وتحميلهم مسؤولية تأجيج بؤر التوتر الاجتماعي وفي الوقت نفسه التفهم التام وتبرير للسلوكيات  العدوانية للمنفذين والداعين للعنف.
-         الدعوى إلى إصلاح التعليم وفي الوقت نفسه التهميش الفعلي والمقصود للمدرّسين.
-         المطالبة بتوفير حياة كريمة للمواطن الفقير وفي الوقت نفسه عدم وضع حد للزيادة المشطّة في الأسعار.
-         المطالبة بمحاربة الفساد وفي الوقت نفسه نلاحظ تفشي الرشوة والمحسوبية في القضاء والإدارة العمومية.

إمضائي المختصر جدا
محمد كشكار, 66 سنة، متزوج وأب لبنت و ولدين اثنين. أستاذ تعليم ثانوي أول فوق الرتية في علوم الحياة و الأرض، متقاعد منذ 6 سنوات بعد مسيرة مهنية دامت منذ 38 سنة ودكتور في تعلّميّة البيولوجيا متخرج سنة 2007 تحت إشراف مشترك من جامعة تونس وجامعة كلود برنار بليون 1 بفرنسا.

أول نشر على النت: حمام الشط في أفريل 2012.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire