جارٌ جارَ
عليه الزمن، توفي ابنه البكر بلڤاسم ذو الخمسة وعشرين ربيعا، منحه الزمن مهلة
فسيحة عاش فيها حياة كريمة سعيدة ثم غدره الزمن مرة ثانية وسرق منه حرمه المَصون
الحاجة خديجة بنت الخليل، وقرب النهاية غرس فيه الدهر أنيابه حتى اللثة، فقد
البصرْ وأقعده الكبرْ.
هزمه الزمن،
ككل أبطال الملاحم الكبرى، هزمه بعد طول جهاد بحلوه ومرّه، لكنه في النهاية انتصر
على الزمن بصفاء عقيدته وقوة إيمانه وصلابة التزامه ودوام صلاته وصيامه وورعه
وتقواه حتى اليوم الأخير من حياته، بفضل الله وفضل مساعدة الملاك الأرضي زوجة ابنه
وفي الوقت نفسه ابنة أخيه فاطمة بنت عبد الله بن الهاني.
اسمه الحاج
نصر بن الهاني، وأنا أدعوه بكل حب ومودة واختصار عمي نصر. لم يكن لي عم غيره. لا
توجد صلة قرابة دموية بيني وبينه، لكن توجد جيرة طيبة وقرابة ربّانية بيني وبينه
ترتقي فوق صلة الرحم بين الابن وابنه.
مات أبي
وأنا في سن الخامسة عشرة فلم أجد أمامي أبا سواه، طَلْق المحيّا جميلُه، قمحي
اللون، قوي البنية، باسم الثغر، حلو الكلام، عطوف حنون، ينبثق من وجهه نور كنور
الملائكة.
لم أسمع منه
يوما كلمة قاسية، لا في حقي ولا في حق أندادي الأطفال. فلاح جنوبي يتمتع بأخلاق رقيقة
لا تتوفر عادة في رجال الصحراء القساة، رجال ذاك الزمن القاسي مثلهم.
يزورنا في
المناسبات ويعطينا من دڤلة نخيله الكثير رغم أننا لم نكن من المعدومين.
في عيد
الأضحى، يمر على الجيران صباحا، الواحد تلو الآخر، يذبح الشاة ويسلخها، يأكل قطعة
من كبدها ويسلّم ويمضي وفي الغداء يجمع كل الجيران حول مائدته، عادة ورثها عن أبي.
يقول النبي
صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية،
أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، وبكل نية طيبة وصادقة مع حفظ المقام
العالي للرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديثه الصحيحة في مسلم والبخاري، أعمّم
المقاصد من الحديث الصحيح وأضيف: "أو جار وفيّ يدعو له".
سوف أذكر
عمي نصر وأتذكّره دوما وأبكيه كما يبكي الشيعة الحسين بن على، رضي الله عنه، لكن
دون مغالاة أو هرطقة.
جمنة: قرية
جميلة مزروعة في الجنوب الغربي التونسي. أعشقها. ولدت فيها سنة 1952. ترعرعت في
مائها وترابها وكبرت تحت شمسها وظلها ودرست في جامعها ومدرستها الابتدائية. تنشقت
عطرها وتحمّمت بأخلاقها وتنشفت بنورها وما زالت تلاوة البردة في الجامع القديم ترن
في أذني وتسكن قلبي وتدفئه حتى اليوم.
قرية تتمتع
تقريبا بمرافق المدن العصرية، لم تلوّثها المدنية بسلبياتها وما زالت تحافظ على
أخلاق الريف الأصيلة من جيرة طيبة وكرم وصدق ووفاء وعدم رياء وبراءة الأطفال
وتزاور وتكافل وتحابب وعدم تكبّر وبساطة في الملبس والمأكل والمسكن، وتسامح في
العلاقات البشرية، ورحابة صدر في قبول الآخر مهما كان هذا الآخر متطرّفا يمينا أو
شمالا، وبحول الله ستواصل نبذ القبلية والعروشية والحزبية الضيقة والتعصب
الإيديولوجي.
إمضائي
أجتهدُ فإذا
أصبتُ فلي الأجرُ الموعودُ، وإذا أخطأتُ فلي بعضُه!
و"إذا
كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
Aimer, c`est
agir. Victor Hugo
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، 16 ديسمبر 2010.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire