نساءُ حيِّ الحمادة
تحديدًا "وزنڤتِنا*" الحادّة تخصيصًا، حيث نشأتُ وترعرعتُ. كنّ يخرجن
لزيارة الجيران والأقارب ويستقبلننا، نحن الشباب، دون إذن أزواجهن ويعاملننا كأولادهن
بحنانٍ وحِنِّيّةٍ ونِيةٍ طيبةٍ خالصةٍ. كنّ يتبخترن في "الزنڤة*" سافرات مرفوعات الرأس والهامة. كنتُ، وأنا شابٌّ
في العشرينيات من عمري، أرتمي في أحضانهن عند رجوعي إلى مسقط رأسي في العطل
المدرسية، لا أفرّق بين أمي و"أمي"، وما زلتُ وأنا في الستة وستّين من
عمري أحنّ إلى أحضانهن الدافئة. واليوم، عند زيارة موطني، أبكي طويلا عالِقًا في
جلابيبِ مَن تبقّى منهن، وكن يبكين معي ويقلن لي همسًا أنني أذكّرهن برائحة الغالية
يامنة، أمي (ماتت سنة 1993). في العيد الصغير والكبير، كنا معشر الشباب، نطوف نصف
البلاد، نعيّد بالأحضان على النساء جارات أمهاتنا وقريباتهن وصاحباتهن. كنتُ حينذاك
أروي تفاصيل حياتي الجمنية لزملاء الدراسة، أبناء مدينة صفاقس، فيتعجّبون من أمري
ويكادوا أن لا يصدّقونني فيما أنقل لهم.
رجعتُ مرّة
إلى جمنة، بعد غيابٍ دام عشر سنوات، لإحياء حفلٍ ديني ترحّما على روح أمي، حفلٍ
نسميه "ألفية" وكنت غير مرفوقٍ بزوجتي (هي من أصل جمني لكنها وُلِدت وعاشت
بأحواز تونس الجنوبية). وصلتُ إلى منزلنا غير المأهولِ، جاء الجيرانُ وهرعتِ الجاراتُ
صوبَ منزلنا لتحيتي والترحاب بمَقدَمي، أعلمتهن بما أنتوي صنعه، رحّبن جميعًا بالفكرة،
وبعد يومين وفي الصباح الباكر تهاطلت الجاراتُ على "حوشْنا الواسعِ"،
عجائز وشابات، كَنَسْنَه، نظّفنه، أحضرْن الأواني، وبدأت أسمع طلباتهن وأنفّذ
أوامرهن دون حضور أو وساطة أزواجهن، كن يتصرّفن معي وكأنهن أخواتي الشقيقات. حضر
العشاءُ، فهَلَّ ركبُ حفظةِ القرآن المتطوعين مجانًا، تلوْا ما تيسّر من الذكرِ
الحكيمِ، ثم أعقبوا التلاوةَ بدعاءٍ يقشعرّ له البدنُ خِشيةً ورِعشةً، دعاءٍ صالحٍ
لروح المرحومة ولي أنا شخصيا، أبكاني من فرطِ الحنينِ. دعاءٌ بترنيمةِ شيخٍ جليلٍ، مهنته بنّاء
واسمه علي بن عبد الله، تربّيتُ منذ الصغرِ على صوتِه المُتَهِدِّجِ الحنونِ، وما يزال
صداه يرنُّ في أذني بعد وفاتِه بِعشرِ سِنينَ، رحمه الله رحمةً واسعةً وأسكنه
فراديسَ جنانِه وغمره برضوانِه وغفرانِه وأسعدَ كل مَن سمعَ وتمتّعَ بِحلاوةِ
لسانِه.
الزنڤة: النهجُ الذي له مدخلٌ واحدٌ و ليس له
مخرجٌ (impasse).
إمضائي
أجتهدُ فإذا أصبتُ فلي
الأجرُ الموعودُ، وإذا أخطأتُ فلي بعضُه!
و"إذا كانت
كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، 15 أوت 2012.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire