في شباب
السبعينيات، كانت الرؤيا تبدو لي واضحة، كنت مع الثوار المسلحين ضد الدول الغاصبة
والأنظمة الظالمة: مع ثورة فيتنام ضد نظام أمريكا، مع ثورة ظُفار ضد حكام اليمن وعُمان،
مع الصحراويين ضد الحسن الثاني، مع مانديلا ضد الميز العنصري الأبيض في جنوب
إفريقيا، مع الفدائيين الفلسطينيين ضد إسرائيل.
في كهولة التسعينيات،
لم تعد الرؤيا عندي واضحة، فأصبحت أقف ضد الظالم وفي نفس الوقت ضد المظلوم الظالم هو
أيضًا لمَن هم أضعف منه: ضد أمريكا وضد صدام، ضد بشار وضد الجهاديين، ضد الناتو
وضد القذافي، ضد العسكر في الجزائر ومصر وضد الإسلاميين المسلحين في القُطرَين، ضد
حكومة الشيعة العراقية الحالية وضد دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام، ضد
كل الحكومات التونسية التي جاءت بعد الثورة وضد جِهادِيِّ الشعانبي والاعتصامات
والمظاهرات والإضرابات في القطاع العمومي وخاصة في الصحة والتعليم، لكنني ما زلت
ضد إسرائيل ومع المقاومين المسلحين الفلسطينيين، ولو كنت في غزة لَفَرَضَ عليَّ
المنطق أن أحمل السلاح مثلهم وأقاوم، رغم
أنني أومن بأن المقاومة السلمية أجدَى وأصعب وأقل دموية، ولي أسوة في نجاعة مقاومة
الأنبياء الأبطال الثلاثة، غاندي ومارتن لوثر كنغ ومانديلا، ولي بعض الأمل في الثورات
السلمية المتتالية منذ سقوط جدار برلين والإمبراطورية الشيوعية وصولا إلى ثورة
تونس.
واليوم في
التقاعدِ، ماذا دهاني يا تُرى؟ أتراه الزمن تغير أم أنا الذي تغيرت؟ هل عوّضَ خوفُ
الشيخوخةِ وجُبنُها حماسةَ الشبابِ وشجاعتِه؟ أم تراه لون الثورات هو الذي تبدّل
أو دمي هو الذي تلوّث؟ هل العلم بالأشياء طغى على العلم بشيءٍ واحدٍ، ونهجٍ واحدٍ،
وفكرٍ واحدٍ، وحزبٍ واحدٍ، ولونٍ واحدٍ، وزعيمٍ واحدٍ، ومرجعيةٍ واحدةٍ؟ هل هذا التغيير
فيَّ يفسره تغييرُ اختصاصي الأكاديمي من العلوم التجريبية (بيولوجيا وجيولوجيا)
إلى العلوم الإنسانية (إبستمولوجيا وتعلّمية)؟ هل أصبحتُ أخشى على الدولةِ من
الثورةِ؟ هل فقدتُ ثقتي في أفيون المثقفين: الماركسية والبروليتاريا والثورة؟ هل أصبحت
عنديَ دولة القانون والمؤسسات أفضلَ من الثورةِ ومآلاتِها المجهولةِ؟ هل أصبحتُ رجعيًّا
ومحافظًا بعد ما كنتُ ثوريًّا وتقدميًّا؟ أم هي الثوراتُ التي فجرها الثوار، مثل
لينين وماو وغيفارا وكاسترو، هي نفسها التي
شاخت وأصبحت رجعيةً؟ ومتى كانت الثوراتُ ليست كذلك؟ تراجعتُ حتى عن إعجابِي بالثورةِ
الفرنسيةِ، " أمّ الثورات"، خاصة مذ سمعتُ الفيلسوفَ الفرنسيَّ
اليساريَّ التحرّريَّ (Gauche libertaire)، ميشيل أونفري،
"يُدَكَنْسْتَرْوِزُها"، أي يُفكِّكُ أسطورتَها!
إمضائي
"الأساتذةُ لا يَفهَمونَ أن
تلامذتَهم لا يَفهَمونَ" باشلار
و"إذا كانت
كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
تاريخ ثاني نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الجمعة 30 نوفمبر
2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire