samedi 24 novembre 2018

لماذا أكرهُ الربيعَ الطبيعيَّ والربيعَ العربيَّ؟ مواطن العالَم



مالي أرى قِلّةَ الحيلة بالمواطن العربي أعْلَقُ، وبطموحاتِه ألْصَقُ!
شعور انطباعي ذاتي وقتي، لا يلزم أحدا غيري من النفزاويين (سكّان ولاية ڤبلي بالجمهورية التونسية). انطلاقا من شعوري بالإحباط واليأس ممّا يحدث أمام عينيَّ في الشارع وفي التلفزة، أحس بالتقيئ والدوران وأنا أرى في عالمنا العربي، ملايين ساعات علم وعمل تَضيع يوميا بسبب انشغالنا في مظاهرات مليونية موالية أو معارضة، طاقات رهيبة تُهدَر يوميا بعد الربيع العربي، ربيع دون زهور كربيعِ مسقط رأسي "جمنة" بولاية ڤبلي بالجنوب الغربي التونسي. ربيعٌ لا يأتي إلا بالرياح الرملية المزعجة. ربيعٌ نكرهه، لا نحبه، لا ننتظره، وعندما يأتي نتمنى قرب نهايته، ولا نأسف البتة على رحيله. ربيعٌ لا يُفلِحُ إلا في تحريك الرمال الصحراوية السلفية المتراكمة، يدفعها دفعًا في اتجاه العمران والاخضرار. ربيعٌ يوسّع مساحة الصحراء، ويقلص مساحة الزراعة والمدنية.  ربيعٌ، حبّاتُ رملِه تدخل عنوةً تجاويف آذاننا وأنوفنا، تسكن شعرنا، تختلط مع عَرَقنا، تحسّسنا بالقرف إلى درجة أننا أصبحنا  نكره أجسامنا  ولا نطيق ثيابنا. ربيعٌ جعلنا نلعن ظرفيا جدودنا الذين، من فرط ذكائهم أو من قلة حيلتهم أو من جور سلطانهم عليهم، لم يجدوا مكانا يكون فيه الربيع أفضلَ، أي ربيعٌ تزهر فيه الأرض فتلبس أجمل حللها المزركشة بألوان قوس قزح، ربيعٌ يُخرج أحلى ما في الأرض وليس ربيعا يهاجمك بصلف ووقاحة في وجهك بحبات رمل أصلب من الفولاذ، حبات مذببة راكمتها الرياح على مر القرون على شكل كثبان رملية تحاصر مسقط رأسي جمنة وكأنها جيوش غازية تنتظر الفرصة لكي تنقضّ علينا بِغِلِّ وحقدٍ. نعرف متى تهجم، خبِرناها ولم نألَفها. يحركها كل عام ربيعٌ جديدٌ، تهجم  ولا تفرّق بين الصباح وبين المساء ولا قبل الصباح ولا بعد المساء، تنغص راحتنا، تفسد عطلنا وسفَرَنا وأعيادنا خاصة عندما تتزامن مع العيد الكبير فتختلط بالكسكسي  وتدخل في مسامّ اللحم النيئ واللحم و المشوي على قلته وندرته. أنا أكره الربيع الطبيعي منذ طفولتي وكرهته أكثر عندما أطل علينا ربيعا ثوريا عربيا يشبهه.
أعلمكم أيها القرّاء الكرام غير النفزاويين أن الريح الربيعي لا يلقّح أزهار نخيلنا وأخص بالذكر منها صنف "دڤلة النور"، المنتوج الاقتصادي الأساسي والحياتي في نفزاوة. أزهار النخيل الأنثى المنتجة للتمور الذهبية العسلية، نلقّحها نحن بأنفسنا بأزهار النخيل الذكر. أعلمكم أيضا أنه ليس لنا إنتاج يُذكر من القمح أو الشعير أو الأشجار المثمرة أو الخضر، لا نربي نحلا، لا نرعى غنما أو بقرا، ونتطاير حتى من نزول الغيث - خاصة عند اصفرار عراجين "الدڤلة" - لأن هذا الأخير عادة ما يكون غير نافع وقد يُفسد صابة التمور أو يقلّل من جودتها ويخفّض سعرَها في السوق!

على سبيل الذكر لا الحصر، أسوق لكم بعض الأمثلة من الطاقات العربية المهدورة في دول الربيع العربي:
1.     بعد نجاح الثورة، ملايين من العرب تخرج يوميا إلى الشارع للتظاهر والتجمع والاحتجاج والاعتصام والإضراب وقطع الطريق، يساريون، نهضاويون، سلفيون، ليبراليون، قوميون، مواطنون غير مسيسين أو غير مأدلجين أو غير منتمين، موالون، معارضون، حكومة وأحزاب، كهول وشباب، أطفال وشيوخ، نساء ورجال، أميون ومثقفون، حضريون وريفيون، عمال ومعطلون، كلهم في إهدار الطاقة مشتركون لأنهم بفعلهم هذا لم يغيروا من الواقع الردئ شيئا يُذكر بغض النظر عن الأسباب المعطِّلة الأخرى، خارجية كانت أم داخلية.
كنتُ من أول المشاركين في المظاهرات قبل الثورة وقد أتت أكلها وأسقطت قمة النظام ومن أول المشاركين أيضا في المظاهرات بعد الثورة رغم إيماني بعدم جدواها. فبعد تكرر التجربة يصبح من المفروض أن يتعظ البشر ولا يعيدوا الخطأ مرتين وثلاثة وألف مرة دون تفكير حول الممارسة الخاطئة وغير المجدية. حسب رأيي البسيط غير العلمي وغير العارف بخبايا الظواهر الاجتماعية المعقدة: أنا أرى أنّه لو اقتنع كل هؤلاء مثلي بعدم جدوى التظاهر وانصرفوا مثلي للعمل (القراءة والكتابة) أو غَرَسَ كل واحد منهم شجرة أو علّم حرفا لأميٍّ أو قرأ كتابا أو حرث أرضا أو زرع قمحا وشعيرا أو جنى ثمارا لأصبح عالمنا العربي جنةً فوق الأرض. جنةٌ عامرةٌ بالأشجار وخالية من الأشرار، لو... لَحققنا اكتفاءَنا الذاتي من الغذاء، ولَشغّلنا الملايين من العاطلين ولَما احتجنا لقروض بنك النهب الدولي. يحضرني هنا أحسن دليل تونسي على وجاهة ما أقول: لو اشتغل الحوض المنجمي في ڤفصة بأقصى طاقته ولو لم تتعطل الصناعة الكيميائية في ڤابس لكسبنا ملايين الدولارات من بيع الفوسفاط ومشتقاته خاصة وهو في ذروة غلاء سعره العالمي ولَما مددنا أيدينا نقترض من "اللِييَسْوَى واللِيمايَسْوَاشْ".
2.     أهدرنا ملايين الساعات الدراسية التلمذية والطلابية في التغيب الإرادي عن حصص التكوين والتحصيل العلمي، أعتبر هذا الإهدار أكبر خسارة علمية مُنِيت بها تونس ما بعد الثورة وأصنفها كجريمة في حق الإنسانية، جريمة لا تموت بالتقادم.
3.     أهدرنا في المجال العلمي أيضا ملايين الساعات البحثية التي كان من المفروض إنجازَها من قِبل مئات الآلاف من المجازين المتخرجين منذ عشر سنوات، درّسناهم وصرفنا على تكوينهم العلمي الأكاديمي ملايين الدينارات من أموال دافعي الضرائب أمثالي وأمثالك ثم أبقيناهم في ديارهم عاطلين عن العمل، فمثلنا إذن كمثل مَن يشتري محركات كهربائية لإنتاج الطاقة وعوض أن يشغِّلها، يتركها في المخزن حتى يأكلها الصدأ.
4.     قبل وبعد الثورة، هاجر من العرب إلى الغرب مئات الآلاف من العلماء والباحثين والأساتذة الجامعيين والأطباء والمهندسين المكوَّنين في القطاع العمومي في بلدانهم، فأصبح مثلنا كمثل فلاح يغرس ويرعى الشجرة، يسقيها، يغذيها، يقلّمها، وعندما تزهر وتثمر، يأتي السارق ويقطفها فيموت الفلاح بحسرته خاصة عندما يكون السارق أجنبيًّا-أمريكيًّا-أوروبيًّا إرهابيا مدججا بالصواريخ والطيران والنووي والكيميائي المزدوج.
5.     بعد الثورة، انتشر الفسادُ في بلادي واستفحل الداء فينا فانتعشت الرشوة بعد ما وفرنا لها مناخا "ثوريا" مناسبا كما لم يتوفر لها مناخا مماثلا طيلة ستين عاما من الاستبداد البورقيبي والبنعليّ.
6.     بعد الثورة، طغت علينا حرية الإعلام والنشر فتفوقنا على أكثر البلدان ديمقراطية وأهدرنا ملايين الساعات في النقاشات البيزنطية والحوارات في قضايا ثانوية (تجاذبات سياسية، فضائح شخصية لمسؤولين مباشرين، هوية إسلامية أو عَلمانية أو لائكية، سب وشتم وثلب لرموز في السلطة وخارج السلطة، إلخ.). لم نطرح الإشكاليات المجتمعية الهامة كإصلاح التعليم والصحة، ولم نحل بالتوافق ولو مشكل فعلي واحد وعجزنا حتى عن إيجاد حل لمعضلة تكدس القمامة في شوارع مدننا وقرانا.
7.     بعد الثورة، أنجزنا انتخابات ديمقراطية، حَسَدَنَا العالم الغربي علي شفافيتها، لكننا، وللأسف الشديد، زدنا بعدها فُرقة وتشرذما وقبلية وطائفية وتخلفا وعصبية وعنصرية وإقصاء وفقدت مؤسساتنا كل تراتبية ضرورية وصحية. حرّفنا قِيم الديمقراطية حتى أصبحنا نرى في المظاهرات "ندائيّين" جنب نقابيين بعد ما كانوا قبل الثورة "تجمعيّين" وللمعارضين قاهرين.

الخلاصة: بعد الربيع العربي لم يعدْ ينفع أي تحليل سياسي (نصف الاقتصاد التونسي موازٍ يسيطر عليه المهرّبون والنصف الآخر من وراء البحارِ يُدارُ) ولم أعدْ أفهم أي شيء ولم أعد واثقا من أي شيء إلا من وثوقي التام أنني لا أفقه في السياسة شيئًا، واعتراف الجاهل بجهله طريقٌ إلى التعلم، وهذا ما أحاول فعله بكل جدية وجهد، لكنني أتراجعُ وأقول أن سياسيينا التونسيينَ، سلطة ومعارضة، ما زالوا يرتكبون أخطاء وحماقات كبيرة لا يراها إلا أعمى البصيرة، ولست كذلك على ما أظن والحمد لله.

تاريخ أول نشر على مدونتي وصفحاتي الفيسبوكية الثلاث: حمام الشط في 25 فيفري 2013.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire