الفقراء لا يهاجرون، لا لأنهم
لا يبغون بل لأنهم لا يقدرون على دفع مصاريف الهجرة الباهظة (جيبه فارغ أصلا وإلا
لَما سُمِّيَ فقيرًا)، مثل ثمن الفيزا ومقابل التنقل العادي أو السرّي (الحَرقة)، وعكس
ما يعتقد الكثيرون، لا يهاجر إلا الأغنياء ومتوسّطي الحال القادرون على تغطية
مصاريف هجرتهم.
"تزيد الهجرة كلما انتقل البلد الأصلي من مستوى الفقر إلى مستوى النمو الاقتصادي: تتمثل الأسباب أولاً في انخفاض نسبة الوفاة خاصة لدى الأطفال نتيجة ارتفاع مستوى الصحة، وثانيًا في ازدياد نسبة الشباب في المجتمع وهؤلاء الأخيرين هم الشريحة الأكثر تَوقًا للهجرة. أما إذا وصل هذا المجتمع إلى مستوى عالٍ من الثراء، فالهجرة تنقص ويصبح البلدُ مستقبِلاً لمهاجرين وافِدين من دولٍ أقل ثراءً، إلا في حالات استثنائية قد تقلب الموازين رأسًا على عَقِبٍ (حرب، انهيار اقتصادي، أزمة سياسية). (...) بين 1960 و2010، زادت الهجرة في 67 بلد عندما انتقل مواطنوهم من مستوى دخلٍ ضعيفٍ إلى مستوى دخلٍ متوسط. (...) الفيلسوف الفرنسي فرنكيلكروت، قال: كنّا نظن أن الإعانات التي نمنحها للدول الإفريقية سوف تساهم في إبقاء الأفارقة في أوطانهم فاكتشفنا أن السهم ارتدّ إلى نُحورِنا. (لوموند ديبلوماتيك، نوفمبر 2018).
أسوق لكم أمثلة تأكد وجاهة التحليل أعلاه:
-
هجرة الأدمغة التونسية الأخيرة إلى أوروبا وبعشرات الآلاف:
أطباء، مهندسون، 3000 أستاذ جامعي، آلاف الطلبة من عائلات غنية ومتوسطة (كُلفة
الواحد لا تقل عن 30 ألف دينار. مرة طلبت مني ابنتي الطالبة حقوق تسفيرَها للدراسة
بفرنسا. قلتُ لها: لا أقدر لأنني العائل الوحيد بأجر أستاذ ثانوي. حصلت على
الإجازة في تونس وشاءت الأقدار أن تتزوج من جمني كندي ثم تنفصل عنه وتستقر في كندا
كمقيمة وترجع تدرس المحاماة في أرقى الجامعات الكندية بفضل كرم الدولة الكندية،
الله يرحم والدين والديها).
-
المليون سوري الذين هاجروا أخيرًا إلى ألمانيا، جلهم
ينتمون إلى طبقات متوسطة استطاعت أن توفّر بعض آلاف الدولارات ثمن العبور غير
القانوني (الحَرقة بالتونسي) الذي دفعوه صاغرين لِمهرّبي البشر والمتاجرين بآلام
الناس أغنياء الحرب الفاسدين الفاسقين، وليس صدفة أن ترحّب بهم ألمانيا بارك الله
فيها. يوجد بينهم آلاف الأطباء والمهندسين والفنانين والحِرفيين.
-
حتى الهجرة الداخلية في تونس خضعت جزئيًّا لهذا المنطق:
بعض العائلات المتوسطة هاجرت من الجنوب إلى الشمال من أجل مرافقة أبنائهم الطلبة،
امتيازٌ لا تقدر عليه العائلات الفقيرة. وإن حدث وانتقل الفقراء من الريف إلى
العاصمة فبحثًا على لقمة العيش ويستقرون عادة في الأحياء القصديرية التي تحولت مع
النمو الاقتصادي إلى أحياء شعبية والحمد لله مثل الملاسين وحي التضامن، والخوف
الكبير أن تَنْبُتَ من جديد أحياءٌ قصديريةٌ أخرى جراء الاتفاقات التجارية مع
أوروبا (Alena) التي ستفتح أسواقنا الداخلية لمنافسة غير شريفة تُفقِّرُ فلاحينا
في الشمال الغربي فيهجرون أوطانهم بحثًا عن لقمة العيش كما فعل أجدادهم في بداية
الاستقلال وربّي يستر.
مصدر الإيحاء:
Référence: Le Monde diplomatique, novembre 2018, «Le mythe de la
ruée vers l`Europe. Immigration, un débat biaisé», par Benoît Bréville, pp. 1 et 16
إمضائي
أجتهدُ فإذا أصبتُ فلي الأجرُ الموعودُ، وإذا أخطأتُ فلي بعضُه!
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الجمعة 9 نوفمبر 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire