الجمنية
الضريرة المستنيرة. مواطن العالَم أصيل جمنة ولادةً و تربيةً د. محمد كشكار
تاريخ
أول نشر على النت: 15حمام الشط في 15
أفريل 2010.
اسمها على اسم أعز مخلوقة على قلب خير خلق الله
كلّهِمِ. وُلِدت سنة 1941
بقرية جمنة بالجنوب الغربي التونسي. كانت ثانية أخواتها, طفلة رقيقة و ذكية تنعم
بجميع حواسها, تجري و تقفز و تلهو في المنزل و الحي مثل أندادها. أضفت الفرحة و
البهجة على والديها و جيرانها. عندما بلغت 6 سنوات من عمرها, أصابها مرض الرمد في
عينيها, مرض بسيط, لو عُولجت طبيا بسرعة لشُفيت منه تماما. لم يكن بالقرية طبيب و
لا ممرض. كان أبوها غائبا بتونس العاصمة لظروف العمل. أشار الجيران على أمها
بمعالجتها بـ"الدواء العربي" و يا ليتها ما استشارت و لا نفذت لكن من
فرط عطفها على ابنتها طبقت الوصفة التي تتمثل في ضمادة محشوّة, أصرّ المتطبّبون أن
تبيت على عين المريضة ليلة كاملة. ضمادة فيها ما فيها لا أريد ذكر ما فيها لهول
ما فيها. نامت الملاك المبصرة بنت الست سنوات و الضمادة على عينيها فأصبحت في
الغد بنتا ضريرة لا تميّز بالنظر بين أمها و أختها و لا ترى من الدنيا إلا هالة من
نور و بقيت على هذه الحالة طوال حياتها.
رجع أبوها من السفر و عرف بالمصيبة فحملها فورا إلى تونس
العاصمة و عرضها على الأطباء لكن لا علاج لما أفسده الجهل و التخلف و العادات
البالية. عادت إلى حضن أمها الحنون و رضيت بما كتبه الله لها و لم تنقم على أمها و
لا على المشعوذين الجهلة اللذين نصحوها. فقدت البصر و لم تفقد البصيرة. كبرت على
الرضا بالمكتوب و التسليم بالقضاء و القدر حتى القاسي منه. لم تشك لحظة في حب أمها
و عاشت تحت جناح أرق و أجمل أم في الدنيا. غمرتها أمها بحب لا يوصف لكن لم تميزها
على إخوتها و أخواتها لكثرة ما لهذه الأم
من حنان و عطف لو وزعته على أمة محمد لكفاهم جميعا. لم تستسلم لقدرها رغم إيمانها القوي
بما كتبه الله لها. كانت تقوم بكل شؤون المنزل من طبخ و كنس و خياطة رغم فقدان
البصر. لا تكلّ و لا تملّ و لا تمنّ على إخوتها الصغار. كانت محترمة من الجار و القريب
لفطنتها و ذكائها.
لم يُرض هذا
العيش الكريم طموحها فالتحقت و هي في سن الثلاثين بمعهد سيدي ثابت للمكفوفين أين
تعلمت القراءة و حرفة النسيج. بعد التخرج, استقرت مع زميلاتها بمبيت معمل النسيج
للمكفوفين بسوسة و اشتغلت فيه سنوات تأكل من عرق جبينها. كانت تعمل ثمان ساعات و كانت تتقاضى أجرا زهيدا
يساوي خمسون دينارا في الشهر. يخصم مدير المعمل من أجرها 10 دنانير للأكل و عشرة
للسكن. كانت راضية و قنوعة و سعيدة و فخورة بعملها الذي ضمن لها الاستقلالية و
الكرامة. كان أصحاب الخير يتبرعون لها و لزميلاتها بين الفينة و الأخرى ببعض المال. يمتاز شهر
رمضان في المبيت بطابع خاص, تُنصب فيه موائد الرحمان من عند الرحمان, فواكه و رمان
و عسل و "بنان" و أصناف لذيذة من الطعام من صنع أهل سوسة الخيّرين. كان
المشرفون المتطوعون يشاركونهن يوميا فطورهن و يعدّون لهن سحورهن. لكنهن كن يرفضن
بأنفة و يحرِّمن شرعا تناول ما تجلبه لهن الشرطة البلدية من محجوزات غذائية
افتكتها عنوة و ظلما من البياعة المتجولين.
في يوم من الأيام المفجعة اندلع حريق هائل في مخزن معملهن
فاشتعل القطن الاصطناعي, المادة الأولية التي تُصنعن منها المماسح (serpillières Les). حريق من نوع خاص, لا تطفئه خراطيم المياه, يحترق
القطن الاصطناعي ببطء شديد دون انقطاع. لم تستطع الحماية المدنية إطفاءه. كان مرقد
البنات يقع بجوار المخزن المحترق. دام الحريق أياما و الحماية المدنية حاضرة نهارا
غائبة ليلا و من "فرط حرصها" على سلامة المكفوفين فقد أوصتهن بتبليغها
هاتفيا لو زاد اشتعال الحريق ليلا. كيف يتأتى لكفيف أن يراقب حريقا عجزت عن إطفائه
مؤسسة مبصرة مختصة في الحرائق؟ و رغم ذلك راقبت الكفيفات الحريق بكل كفاءة. كان
المخزن "قِبلتهم" في الليل و بخشوع المؤمن و قدسية الإيمان، كن مائة أذن
ينصتن بصمت رهيب لصوت احتراق القطن الاصطناعي دون غمضة عين طوال الليل. تعرفون أن
الأعمى يتمتع بحاسة سمع مرهفة تفوق بكثير مثيلتها عند المبصر لأن مرونة مخه تحوّل
وجهة الخلايا العصبية السليمة و غير المستعملة المكونة للمركز العصبي للإبصار و توظفها
و تستعملها لخدمة حاسة السمع و اللمس. عندما يرتفع هذا الصوت المتربص بحياتهن, يهرعن
إلى سماعة الهاتف الموجودة في ساحة المعمل و يبلغن الحماية المدنية فتأتي سيارة
الإطفاء لنجدتهن مؤقتا ثم يرجع العمال المبصرون إلى ديارهم تاركين البنات الكفيفات
تحت رحمة قنبلة قد تنفجر فيهن في أي لحظة من الليل المظلم. ظلام تعوّدن عليه طوال
حياتهن و حولنه بإيمانهن بالحياة إلى نور داخلي يضئ بصيرتهن لكن لم يتعودن على مجابهة
نور الحريق الكيميائي المستمر الذي قد يقضي على حياتهن جميعا.
لم تكن ظروف العيش في المعمل سيئة كما يتخيل المبصرون,
كن معا يكوّنّ مجتمعا مغلقا على الخارج منفتحا على الداخل. يحتوي المعمل على مشغل
فيه آلات للنسيج و مشرب يستقبلن فيه ضيوفهن و مطعما يتناولن فيه وجباتهن. تزوج
بعضهن و بنين أُسَرا و أنجبن أطفالا كالزهور مبصرين لأن فقدان البصر ليس مرضا
وراثيا بل هو مرض مكتسب في أغلبه نتيجة سوء الظروف الصحية و المعيشية و ناتج عن
إهمال مجال الطب الوقائي عندنا في العالم العربي.
كنت أزورهن عند مروري بسوسة و كن يرحبن بي بحفاوة كبيرة
و كرم حاتمي. كانت بينهن ضريرة جميلة تمنيت صداقتها, عيناها سليمتان و خضراوان [قد
يكون الخلل في المركز العصبي المخي للإبصار أو في العصب البصري الذي يربط العين بالمخ],
قوامها رشيق و فكرها متقد و كبرياؤها في السماء. كنت أحاول مجاملتها و التخفيف
عليها بذكر عبقرية طه حسين الأعمى و كانت ترد علىّ بكل سخرية لاذعة قائلة: طه حسين
هو الشجرة التي حجبت الغابة, غابة معاناة العميان المصريين و التونسيين. فعلا، طه
حسين يمثل حالة محضوضة و معزولة و لا يحق لنا تعميمها لخصوصية ظروفها و ملابساتها,
وجد في طريقه جامعة الأزهر أين تُقدم الدروس شفاهيا فقط و بعدها احتضنته جامعة
السريون و عشقته و أعانته في دراسته زوجة فرنسية متفهمة، عوضت عينيه و تفرغت
لقراءة الكتب له وحده.
لقد كنّ قنوعات بما يسّرت لهن الدولة التونسية من مؤسسات بما فيها من
ايجابيات و سلبيات. كان همهن الوحيد هو ضمان جراية التقاعد بعد ما يبلغن الستين من
العمر و لا يقدرن على العمل و لا يجدن من يعيلهن في كبرهن.
لقد ناضلن من أجل هذا المطلب. قمن بمظاهرات و مسيرات
بتونس العاصمة أمام الوزارة الأولى و أمام قصر قرطاج للمطالبة بتحسين ظروف العمل و
ضمان جراية التقاعد. فرّقهن البوليس أمام الوزارة الأولى. استقبلهن ممثل الرئيس في
القصر و وعدهن بتبليغ مطالبهن المشروعة لسيادة الرئيس. كن ينسّقن فيما بينهن في
سوسة قبل السفر إلى التظاهر بتونس العاصمة و يلتقين في دار اتحاد المكفوفين
بالعاصمة. حضرت مرة لممثلتين منهن يدافعن عن مطالبهن في منظمة حقوق الإنسان
المستقلة بتونس العاصمة و قد صفق لهن الحضور لفصاحتهن و شجاعتهن.
بعد نضال مرير دام سنوات تحصلن على حق ضمان جراية التقاعد
لكن السلطات أغلقت المعمل لأسباب واهية و رجعت كل بنت إلى أهلها.
كان أجر التقاعد يساوي مرتين أجرهن أثناء العمل و قد وفر
لهن نسبيا عيشا كريما يغنيهن على ذل السؤال وفقدان الاستقلال.