jeudi 22 janvier 2015

جمنة الخمسينات تعطي درسا في تطبيق البيداغوجيا النشيطة و التربية الحديثة في مرحلة ما قبل المدرسة. مواطن العالم أصيل جمنة ولادةً و تربيةً د. محمد كشكار

جمنة الخمسينات تعطي درسا في تطبيق البيداغوجيا النشيطة و التربية الحديثة في مرحلة ما قبل المدرسة. مواطن العالم أصيل جمنة ولادةً و تربيةً د. محمد كشكار
تاريخ أول نشر على النات: حمام الشط في 30 جانفي 2010.
حسب مقاربته "البنائية" (Le constructivisme) في اكتساب المعرفة لدى الطفل, يقول "بياجي"، عالم معرفة نمو الطفل السويسري (suisse Épistémologue génétique de l’enfant)، أن الطفل يتملك المعرفة عندما يتفاعل مع محيطه المادي. و يقول "فيقوتسكي" عالم البيداغوجيا الروسي, حسب مقاربته "البنائية الاجتماعية" ( Le socioconstructivisme )، أن عامل التفاعل مع المحيط المادي غير كاف لاكتساب المعرفة و يضيف عاملا ثانيا يتمثل في التفاعل البشري مع الآخرين أندادا و بالغين. أما الإيطالية ماريا مونتيسوري فتقول: "يجب تهيئة وسط خاص يُوضع فيه الطفل مع السماح له بالتفاعل مع محيطه التربوي المجهز بأدوات التعلم المونيتسورية و تحريره من وصاية المربي حتى يتمكن من التعلم الذاتي (observer et non juger)".
لم يقرأ سكان قرية "جمنة الخمسينات" بيداغوجيا "مونتيسوري" (ساعدني على أن أفعل و أكتشف بنفسي) و لا بنائية "بياجي" (اتركني أعرف و أكتشف بنفسي) و لا سوسيوبنائية "فيڤوتسكي" (اجذبني قليلا فوق حتى أعرف و أكتشف بنفسي) و لا يعرفون شيئا عن نظريات علوم التربية الحديثة لكنهم طبقوا ما جاء فيها أحسن تطبيق دون الادعاء الواعي بتملك النظرية البيداغوجية العلمية: كنا أبناء حي واحد، أطفالا ذكورا صغارا لم نتجاوز سنّ السادسة. نغادر بيوتنا صباحا دون مرافق كهل. نتجمع بكل حرية في مكان فسيح غير بعيد عن أهالينا. بستان فيه نخل و ظل دون زرع. نبقى فيه بالساعات, نلعب و نلهو كما يحلو لنا دون رقيب كهل. نتشاجر بعض الأحيان لكن سرعان ما نتصالح لكي يستمر اللعب. نصنع لعبنا بأنفسنا من معلبات سمك "السردين" و معجون الطماطم, سيارات و شاحنات مصغرة تنقل الرمل و تفرغه آليا. نتقمص أدوارا متنوعة بالتداول, البائع و الشاري, السارق و الحرس, الأب و الابن, الفائز و الخاسر, الغالب و المغلوب. لباسنا خفيف و أقدامنا حافية و أرضنا حنون و مناخنا حار. لمجتنا تنزل دون سابق إعلام من السماء تَمْرًا أخضرا أو أصفرا أو ذهبيا أو "نرمي من كان عن الأحقاد مرتفعا فتساقط علينا رطبا جنيا" و عندما نجوع فعلا, نعود إلى ديارنا فنجد أما حنونا في انتظارنا لا تلومنا و لا تنهرنا بل تقدم لنا ما جنت و طحنت و طبخت بأيديها الربانيتين, وجبة بيولوجية صحية خالية من الأغذية المصنعة المغشوشة باهظة الثمن. في المساء, نعيد الكرّة مع تغيير "وضعيات التعلم" التي نختارها بأنفسنا مثل صيد الطيور أو الجري وراء إطار حديدي لعجلة دراجة أو القفز داخل مربعات أو الاحتفاء بسحابة أمطرت في غير موضعها. عرفت بعد خمسين عاما و أنا أدرس دكتورا علوم تربية في جامعة كلود برنار بفرنسا أن هذه الطريقة من اكتساب المعرفة و المهارات و الكفاءات تسمى "البنائية الاجتماعية". كبرنا قليلا, أخذونا للكتّاب "الخلوة" لتعلم القرآن الكريم في الجامع الكبير. كان الفناء مظلما في النهار و المؤدب - المعلم جالس و عصاه تتنقل فوق رؤوسنا برأفة و حنان. نردّد وراءه لساعات ما ينشد من كلام حلو و موزون. نحفظه عن ظهر قلب دون شرح أو تفسير و نستوعب حسن نطقه و بلاغته و نطرب لموسيقاه. عرفت بعد خمسين سنة أن هذا النوع من التلقين يسمى: "حمّاما لغويا" (Bain de langue)، هذا الحمّام يطهّرك من الداخل و يغمرك بالمفاهيم و يكسبك في مرحلة الاستيعاب زادا لغويا ثمينا و نطقا سليما تستثمره في مرحلة الفهم في شرح و تفسير أي أثر مكتوب, قرآنا كان أو نثرا أو شعرا.
هبّت علينا في التسعينات ريح التحضر و التمدن المشوه فانبطحنا لها دون مقاومة و فتحنا دكاكين، تبيع تربية مشوهة للملائكة، تربية ليست علمية و ليست تقليدية، و سميناها رياضا للأطفال و سجنا فيها فلذات أكبادنا داخل فضاء ضيق و حرمناهم متعة حرية اللعب و التعلم مجانا في مساحات شاسعة. هل صادفت في حياتك مَن يغش أو يتاجر بالملائكة؟ فهل مَن يغتصب حقوق الأطفال، طيور الجنة، يدخل يا تُرى الجنة؟ تخلى الأولياء عن دورهم التربوي و أوكلوه لـمربين غير مختصين في التربية, لعدة أسباب انقطع أغلب المنشطين مبكرا عن مواصلة تعليمهم العالي أو فيهم مَن ينتظر وظيفة عمومية, كلهم يتقاضون أجورا زهيدة, فهم إذن ناقمون على أنفسهم و على ظروف عملهم, يصبّون جام نقمتهم على أبرياء رضّع أو أكبر قليلا. لا يعلّمونهم شيئا و لا يتركونهم يتعلمون بأنفسهم أو بمعية أترابهم. يفرضون عليهم نوعا من الانضباط المحبِط للإبداع ليتجنبوا حركيتهم التلقائية. قتلوا فيهم الخلق و التخيل و زرعوا في قلوبهم الخوف و الجبن و الامتثال للأوامر حتى و لو كانت نابعة من ظالم. يعلّمونهم لغة ركيكة فلا يستوعبها الأطفال في صغرهم و لا تنفعهم في كبرهم. يجهّزون روضاتهم بالرديء و الرخيص و المضرّ صحيا من اللعب و الأدوات المدرسية و يطعمونهم وجبة غير متوازنة مطهية على نار الربح الحرام. يدرّسون البرنامج الدراسي الرسمي للسنة الأولى أساسي و هم يظنون أنهم أحسنوا فعلا و قد صح عليهم قول "يفعل المربي غير المختص بتلامذته ما يفعل العدو بعدوه". في حمام الشط، أردت مرة مكرها (كانت زوجتي حينها تعمل 14 ساعة في اليوم، تقضيها بين المهنة و شؤون البيت) ترسيم ابني في روضة, سألت المروضة و ما أوحش هذه الصفة التي توحي بترويض الوحوش في "السرك"، سألتها: هل تلقنون قرآنا؟ هل تتركون الأولاد يلعبون بحرية؟ أجابتني بالنفي بكل فخر و اعتزاز كأنها تتبرأ من تراثها و ثقافتها و دينها. أبشّركم أنه من حسن حظنا و من محاسن التخلف الاقتصادي في تونس أن الروضات لم تنجح و لم تتكاثر حتى الآن و هي لا تستوعب إلا القليل من أبنائنا.
خلاصة القول
أنا لا أدعو لرفض العلم الحديث بل أدعو إلى إحياء عاداتنا الجيدة و إعادة صقلها من جديد و غربلة تراثنا علّنا نجد فيه ما يتلاءم مع التطور الحقيقي لا المزيف. لم يأت عِلم الغرب من فراغ أو نزل من السماء و لم يكتشفوه صدفة بل صنعوه بعقولهم و تجاربهم حسب حاجتهم و وفق ثقافتهم و تراثهم و دينهم فأصابوا و أخطؤوا. وصل "بياجي" إلى نظرياته في "البنائية" عبر دراسة نمو أبنائه الحقيقيين البيولوجيين و توصّل "فيقوتسكي" إلى "البنائية الاجتماعية" بعد تجارب عديدة في المدرسة السوفياتية، أما الطبيبة ماريا مونتيسوري فقد أسست نظريتها البيداغوجية النشيطة للأطفال العاديين بعد دراسات ميدانية أجرتها على الأطفال المعاقين ذهنيا.
هبوا أيها التونسيون و تعالوا نفعل مثلهم و ننفض التراب عن تراثنا و تقاليدنا لنحيِّنها و نطورها و نستنبط منها نظريات في التربية السليمة تتناسب مع واقعنا الاقتصادي و مبادئنا و تتلاءم مع مناخنا الاجتماعي و الطبيعي و لا تتناقض مع ديننا و تراثنا.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire