المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة"، طبعة حرة، 2016،
224 صفحة (ص.ص. 52-59).
ملاحظة: كتابٌ ألّفته تطوعًا لفائدة "جمعية حماية
واحات جمنة" وهي التي دفعت مصارف الطباعة (3400 د). صدر في ألف نسخة: 900
نسخة أخذتْها الجمعية دون مقابل وَوَزّعتْها مجاناً على مساندي قضية جمنة في كامل
أنحاء الجمهورية، و100 نسخة أخذتُها أنا وَوَزّعتُها بمعرفتي.
النص:
كان
الإطار الذي نشأتُ فيه في طفولتي هو إطار الجيرة الممتدة وليس إطار الأسرة الممتدة
كما هو سائد في مثل هذه الأطُرِ الريفية القديمة والمعاصرة. كانت أسرتي نووية
بالمعنى الحديث للكلمة يعني تقتصر على الأب والأم والإخوة والأخوات وعمة وحيدة
حنون في جمنة اسمها "عمتي اِرْڤيَّة" وخالة وحيدة في العاصمة لا ولد لها
لذلك كنا ندعوها "أمي برنية"، لا عم ولا خال. أما جاراتي اللواتي تربيتُ
في أحضانهن -بالمعني الحرفي وليس بالمعنى المجازي للكلمة- وجيراني فهم ليسوا من
عرشي ولا من أقاربي، هم من "عرش الحَوامِد أو الڤصَارَى" أولاد
"سيدي حامد الحشّاني" (عرشي الوراثي يُدْعَى "عرش الشتاوَى"
الذي أعتز به)، هؤلاء الخيّرون
كانوا أقرب لي من أقاربي ولم أعرف لي في صِبايَ عرشا غير عرشهم، حُضنٌ أشعَرني
وأنا صغير بِدِفء الانتماء الإنساني السامي غير القبَلي وجنّبني العنصرية العروشية
السخيفة وهيأني في شبابي لتبني المواطنة العالمية عن اقتناع.
كان
الوقت الذي أقضيه في الشارع ليس مجرد لعب كما يعتقد التقليديون وإنما كان وقتٌا
مخصصا للتعلم البنائي الذاتي-الاجتماعي (L`auto-socio-constructivisme de Montessori, Vygotsky et Piaget).
كان
كبار حيّنا يراقبون الأطفال وكأنهم أولياء أمورهم. كنت مُحاطا بأفراد كثيرين أكبر
مني، شبابا وكهولا وشيوخا، وكان كل واحد
منهم أو كل واحدة منهن يمثل أو تمثل بالنسبة
لي نموذجا مختلفا، مما أتاح لي فرصة الاختيار فاصطفيت من هؤلاء اثنين، أفضلهن
وأفضلهم في نظري وأحَبهن وأحبهم إلى قلبي،
"أمي يامنة" الغالية وجارنا المرحوم "عمي نصر بالهاني".
لا
توجد في قريتنا آنذاك سلطة "برّانية" ولا مؤسسات، كانت تربطنا شبكة من
العلاقات العائلية وعلاقات الجيرة لذالك لا يتعامل الفرد إلا مع مَن يعرفهم
ويعرفونه. كان بهوُ منزلنا الواسع المسقف الظليل مكانا تحلو فيه القيلولة لجميع
نساء وأطفال الحي الصغير (أو الزنڤة الحادة) وكان حبل غسيلنا المغلف ببكرات
الخياطة الفارغة المكان المفضل لتجفيف ملابس الحي كله وكان أبي يجمع حول مائدته
يوم العيد الكبير جميع الجيران الذكور، كلّ عائلة محمّلة بما طبخته بُرْمَتُهُا
(القِدْر)، عادة ورثها عنه عمي نصر ثم انقرضت بعد موت هذا الأخير، رحمه الله.
كنا
نرفق بالصغير (نتركه يتعلم بنفسه دون رقابة) وكذلك نفعل بالشيخ والعجوز (نحترمهما
ونسمع كلامهما) ونحب الحيوانات الأليفة (قِطَطُنا تعيش معنا وتأكل من قصعتنا،
ماعِزنا لا نذبحها إلا في عيد الأضحى وحمارُنا لا نحمل عليه أكثر مما يتحمل) ولا
نبذّر الماء لندرته (لا نستعمله إلا للوضوء وغسل الوجه واستحمام النساء أما الرجال
فيستحمّون في جابية الماء الجاري الصالح للرَّي والشراب) ونحِنّ على الأرض (لا
نثقل كاهلها ولا نشيد فوقها إلا ما نقطعه من أديمها) ونحافظ على الغطاء النباتي
القليل (لا نقطع منه إلا القليل لِـقوتِ حيواناتنا أو لنستعمله طاقة للطبخ
والتدفئة).
كنا
مجتمعا مغلقا صغيرا، لا غنيَّ فيه ولا فقيرا. مجتمع غير إقطاعي وغير طبقي. مِلكية
مفتتة لم تمكّن أحدا من الغطرسة أو التكبّر. وضع اجتماعي ريفي فقير يضمن الكرامة
لكل أفراده لكنه لا يوفر لهم العيش الكريم لذلك هاجر معظم شبابه المعطل إلى فرنسا.
أتحدث
عن جمنتي، جمنة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. فهل لا زالتِ يا ربِّي كذلك؟
لا
أستطيع أن أسرد سيرتي الفكرية وخطابي في الهوية دون أن أبدأ بذكر قريتي الجميلة
ومسقط رأسي جمنة، قرية تقع بالجنوب الغربي الصحراوي التونسي، حيث ولِدت ونشأت
وترعرعت إلى سن الثالثة عشرة، سنة نجاحي في السيزيام (شهادة ختم الدروس
الابتدائية) وهي أيضا سنة انتقالي للدراسة في إعدادية سيدي مرزوق بڤابس المدينة.
ومنذ ذلك العهد، عام 1963، انقطعت علاقتي اليومية المعيشية بجمنة ما عدى العودة في
العطل المدرسية التي أصر على قضائها جنب أمي.
عام 1990،
انقطعت العلاقة تقريبا نهائيا (ما عدا الزيارة أو "المرواح" في مناسبات
نادرة لتقديم التعازي للجيران والأقارب والأصدقاء عند فقدان أحد ذويهم) واستقررت
بموطني الجديد حمام الشط، مدينة جميلة أيضا تقع بالأحواز الجنوبية لتونس العاصمة.
جمنة،
قرية عاش ويعيش معظم سكانها على فلاحة النخيل والأموال التي يرسلها عمالها
المهاجرون بفرنسا. سكان جمنة كأغلب التونسيين مسلمون يؤدون الفرائض ويقدسون
الأولياء الصالحين ويذبحون لهم الذبائح وينذرون لهم القرابين ويقيمون لهم الولائم
ويحيون لهم الحفلات الطقوسية (الحضرة العيساوية أو الحامدية أو المياحية) حيث
يولِم الناس لغيرهم فيجتمع أهل القرية على
الشطحات الصوفية والاستمتاع بالإنشاد
الصوفي ذي الإيقاع المطرب في مدح الرسول و"سيدي عبد القادر
الجيلاني" و"سيدي بن عيسى" و"سيدي حامد الحشاني،
بوڤبرين". ولا جدال في أن موطني الأصلي قد صنع مخيلتي وصبغها بترابه ومائه
وهوائه وشمسه وريحه ونخله وعنبه وخوخه ورمانه. قريتي تركت على هويتي بصمات لم و لن
تُمحَى أبدا، بصمة اللهجة الجمنية (أنِي، مِي، مِشِي، جِي...إلخ) وبصمة التمدن
الجمني (حب العلم والحث الجاد على تحصيله، واحترام الأكبر منّا سنا، وتعايش
الانتماءات القبلية المتعددة بسلام وقد نجحوا حتى الآن في إدارة صراعاتهم حول
ملكية الأراضي الفلاحية باستبعاد العنف باستثناء ما حصل أخيرا مع جارتنا قرية
"الڤُلعة" وهم بدؤوا بالاعتداء بالعنف والبادئ دائما أظلم، والحمد لله
تدخل عقلاء القريتين وهدأت النفوس). سكّان بلادي، سكّان ونصف، أعشقهم كلهم ولي
ذِكرى طيبة عنهم جميعا دون استثناء وكنت أراهم في الخمسينيات والستينيات بمنظار الطفولة والرومنطقية والشاعرية، أراهم
سكّانا تغلب عليهم البداوة، ولو قارناهم مجازا مع سكان المدن لوجدناهم يعيشون على
الشظف لا على الترف، لذلك ترى أبدانهم أصحّ، وأخلاقهم أسلم، وشرفهم أعلى، وأذهانهم
أثقب، وحريتهم أرحب، وطوِيّتهم أسلم، وخُلقهم أنقى، وحكمتهم أصوب، وكرمهم بالموجود
أكثر، وبالُهُم أوسع، وإيمانهم الفطري أقوى، وعنفهم أقل، وتسامحهم أكثر، ونيتهم
أطيب، وطيبتهم أصدق، وخبثهم إن وُجد يكون عادة خبثا ساذجا غير مؤذٍ.
عشت
طفولتي في قبيلة غير قبيلتي ولم أكن أعرف أنها ليست قبيلتي. تربيتُ على المحبة بين
الجيران مهما كان انتماؤهم القبلي ومهما اختلف لون بشرتهم.
عشت
في هذه البيئة منذ ولادتي ثلاث عشرة سنة من الطفولة دون انقطاع، تنشقت هواءها
ولفحتني شمسها وتبرّدت في مائها ونِمت مرتاح البال في ظل "كالاتوسة بن جبير".
فعلتْ فيَّ جمنة فعلها الجميل ونحتت شخصيتي بأنامل فنان عاشق، ولم أردّ لها الجميل
بعدُ. وكما قال علي حرب حرفيا: "والمرء يأتي من أمكنته وأزمنته، ويحمل أثر
أسمائه ورموزه". بلغتُ فيها أشُدّي ودرجتُ على عادات إسلامية منفتحة ومتسامحة
جدا وتطبّعت بأخلاق ريفية جمنية نبيلة وعالية، وتشكلتْ فيها رغباتي الأولى وأنا
الآن أرغب وأتخيل السعادة وفقا لما نشأتُ عليه في جمنة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
أول
من عيّن هويتي، هو لساني فأنا عربي اللسان منذ ولادتي. بفضل اللغة العربية الدارجة
في تونس، تعلمتُ كيف أُعْرِب عن طلباتي المادية وأعبّر عن أحاسيسي وأترجم
انفعالاتي الداخلية، وبها كنت أتكلم وأرمز وأحلم وأتوهّم. كبرتُ وبها أصبحت أنظر
وأفكر. وهي اليوم جزء لا يتجزأ من هويتي. كيف لا، وقد صارت الكتابة بالعربية في
شباب شيخوختي هوايتي المفضلة ومتعتي الفكرية التي لا متعة لي غيرها ولا أقدر ماديا
على غيرها حتى ولو ضعفت نفسي وهفّت إلى غيرها.
نظرتُ
إلى طفولتي فوجدتُ أن ثقافتي الأصلية إسلامية وأنّ رؤيتي للعالم عربية. لقد تربيتُ
على سماع وحفظ القرآن في كتّاب الجامع (نسميها نحن في مسقط رأسي جمنة، الخَلوة)
واختتمت جزء "عمَّ" وأنا بعدُ طفل صغير، وحملتُ لوحي الخشبي المكتوب
وقرعتُ أبواب حيّنا منزلا منزلا، والأمهات المهنئات يمنحنني هدايا متواضعة على شكل
فول مطبوخ وبيض مسلوق. ما زالت ترانيم "البردة" ترن في أذني حتى الآن
وما زالت أدعية القائمين على زوايا الأولياء الصالحين تتردد في داخلي: "اللهم
ارجع الغائب سالما غانما"، "اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، يا رب
العالمين"، "اللهم لا تخيب رجاءنا يا أرحم الراحمين"، "اللهم
اغفر ذنوبنا وضاعف حسناتنا بجاه حبيبك وعبدك محمد أشرف المرسلين".
إيمان
العجائز في الطفولة، حل إثره الشك العلمي الديكارتي في المراهقة وتلته بالضرورة
جميع الثنائيات الديكارتية: ثنائية الخالق والمخلوق، ثنائية الأرض والسماء، ثنائية
الجسد والروح، ثنائية المقدس والزمني، ثنائية الصواب والخطأ، ثنائية الغث والثمين،
ثنائية الموروث الديني والمكتسب الثقافي، ثنائية اليقين والشك، ثنائية التقاليد
والعصرنة، ثنائية الرضوخ والثورة، ثنائية الحرية والمسؤولية، ثنائية الحرام
والحلال، ثنائية اللذة والامتناع، ثنائية الواجبات والحقوق، ثنائية الجنس والحب،
ثنائية الانتماء والانبتات، ثنائية الانتماء الأيديولوجي والاستقلالية، ثنائية
الوطنية والأممية، ثنائية الاغتراب والهوية، ثنائية الوعي والاستلاب، ثنائية
التديّن والتحرّر، ثنائية الأصولية والبحث المتواصل، ثنائية التيولوجيا والإبستمولوجيا،
ثنائية الظلامية والتنوير، ثنائية الإسلام والشيوعية، ثنائية الإنسان والحيوان،
ثنائية الإنسانية والمادية، ثنائية العقلانية والميتافيزيقا، ثنائية الجهل والعلم،
ثنائية الأصالة والحداثة، ثنائية المحدود واللامحدود، ثنائية الذكر والأنثى،
ثنائية النسبي والأزلي، ثنائية المطلق والنسبي، ثنائية الريف والمدينة، ثنائية
جمنة وحمام الشط. كلها في داخلي ثنائيات تتفاعل ولا تتصارع، ومن خلال تفاعلها
تُثري الواحدة منها الأخرى، ولا أعرف متى يحل التوازن الداخلي وأتمنى أن لا يحل
أبدا لأن في حلوله الموت أو نهاية التاريخ.
كنت
أعي أنني أنتمي إلى عائلة فقيرة، يُقال أنها كانت متوسطة أو غنية نسبيا في السابق
بالمقارنة مع سكان القرية. ومن سوء طالعي أنني عشتُ فقرها ولم أذق يومًا غناها.
مات أبي وأنا في سن الخامسة عشرة من عمري، كان قاسيا في تربيتنا كباقي رجال عصره،
لا يشاطرني الحديث ولا يشاطر أحدا من العائلة، كنت أخافه ولا أقترب منه، كان
يتجاهلني ولا يعيرني أي اهتمام بينما كان يدلل أخي الأصغر. ولعل هذه هي طبيعة العلاقة بين الأب والابن في ذلك العصر.
بصراحة أحببتُ أمي أكثر منه.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire