المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة"، طبعة حرة، 2016،
224 صفحة (ص.ص. 32-37).
ملاحظة: كتابٌ ألّفته تطوعًا لفائدة "جمعية حماية
واحات جمنة" وهي التي دفعت مصارف الطباعة (3400 د). صدر في ألف نسخة: 900
نسخة أخذتْها الجمعية دون مقابل وَوَزّعتْها مجاناً على مساندي قضية جمنة في كامل
أنحاء الجمهورية، و100 نسخة أخذتُها أنا وَوَزّعتُها بمعرفتي.
النص:
سأضرب لكم عدة أمثلة مما عايشتُ في
طفولتي وشبابي في قرية جمنة وأظن أنه نفس الشيء في كل قرى المغرب العربي-الأمازيغي:
1. في مسقط رأسي، قرية
جمنة بالجنوب الغربي التونسي، "قرية- مدينة" تقع بين مدينتي ﭬبلي ودوز، وتتميز حسب رأيي بنمط عيش فيه شيء من الرقة
والجمال والتحضر والثقافة والسياسة والتعايش السلمي بين القبائل والعروش المختلفة.
كان السكان
في الخمسينيات
يبنون بيوتهم بـ"الطُّوبْ"
أو "الفَنْكَر" (مواد محلية للبناء تُستخرج من الأرض، حجر رملي متماسك
قليلا وسهل الانكسار وسهل الاستخراج من مقاطع القشرة الأرضية السطحية) ثم يبنون
بها الجدران ويرصّفونها جنباً إلى جنبٍ باستعمال
مادة رابطة متكونة من الجبس أو "الروبي" (L`argile verte)
عوض الأسمنت الرباط الحالي. كان سُمك الجدار عندنا يبلغ تقريبا 50 صم. كانت بيوتنا
مكيّفة طبيعيا، باردة في الصيف ودافئة في الشتاء لأن سُمك الجدار يمنع دخول حرارة
الشمس في الصيف ويمنع دخول الهواء البارد في الشتاء. كان البيت التقليدي يعيش أكثر
من قرن ولا يكلف صاحبه إلا القليل من المال مقارنة بالبيوت الياجورية الأسمنتية الحديدية
الحالية.
تطورنا
في هذا الحقل ويا ليتنا ما تطورنا، أصبحنا نبني منازل بالياجور والحديد والأسمنت
مثلنا مثل سكان المُدن الكبرى مثل تونس العاصمة وصفاقس وبنزرت، فأصبح البيت لا
يُطاق في الصيف إلا باستعمال المكيف ولا يُتحمَّل في الشتاء إلا باستعمال السخّان
الغازي أو الكهربائي. انظرْ وتمعّنْ واحسبْ ماذا ربحنا وماذا خسرنا من مال وراحة
وطاقة ! والأخطر من كل ما سبق هو أن السقف المسلح "الدالّة" لا يصمد
طويلا تحت ضربات الشمس الجنوبية الحارة، فتتشقق "الدالّة"، ويصبح السكان
في خطر، ويصبح البيت المكلِف الغالي الجديد آيلا للسقوط بعد بضع سنوات من تشييده.
هذا ما جناه علينا البِناء "حسب المواصفات العالمية"، ولم نجن على أحد.
ما بال المواصفات العالمية وما بالنا، فلترحلْ كما رحل بن علي وتتركنا في حالنا
متعايشين سعداء آمنين مع "مواصفاتنا الجمنية" في البناء والتشييد
الملائم لبيئتنا وقدرتنا الشرائية المتوسطة !
معلومة:
عدوّتنا إسرائيل تعيد الآن إحياء واستعمال البناء السكني التقليدي
بـ"الطوب" لتعمير صحراء النقب المحتلة حسب "مواصفات
إسرائيلية" وليست عالمية (حديث: "اطلب العِلمَ ولو في الصين").
2.
في مسقط رأسي ثانيا، وخلافا للمواثيق الدولية
و"مواصفات حقوق الإنسان العالمية" التي تحرّم تشغيل الأطفال حتى من قِبل
أوليائهم، يشغّل الوالدان الجمنيان أبناءَهم في الواحة، لكن بكل عطف وحب وحنان،
عملٌ تطوّعي دون أجر، أسمّيه أنا مدرسة تكوين تربية وتدريب: طفلٌ يجمع التمور بيسر
من تحت جذع النخلة، وأخوه الثاني يقطع الحشائش الخضراء علفا للماعز والحمار، والأخ
الثالث يوزّع كؤوس الشاي على العمال، الأطفال يشتغلون وهم يضحكون ويلعبون دون قهر
أو عناء كبير، يشتغلون "حسب المواصفات الجمنية" التي لا تتنافى في روحها
مع "المواصفات العالمية" وتحترم حقوق الطفل في الصحة والتعليم والترفيه.
3. في مسقط رأسي ثالثا،
وفي الخمسينيات من القرن 20، أيام انعدام وجود الروضات أو "سجون
الأطفال الحديثة الناعمة"، كنا نلعب ونلهو وحدنا دون كهل رقيب، نصنع لعبنا
بأيدينا ونطبق من حيث لا ندري نظرية العلِماء مونتيسوري وبياجي وفيڤوتسكي في
المدرسة البنائية: نبني معرفتنا بأنفسنا بالتفاعل مع محيطنا وأقراننا دون الحاجة
لشراء لُعبِ باهظة الثمن، ودون أن نتقوقع داخل روضة مُحكمة التسييج الأسمنتي
المسلح تحت إشراف منشط غير مختص في تنشيط الأطفال، منشط لم يتخرج من أي كلية
تنشيط.
يا
ليتنا لم نتطور هذا التطور السلبي ويا ليتنا لم نضع أولادنا في "جنات
أطفال" أشبه بسجن وأبعد ما يكون عن تربية الأطفال ويا ليتنا حافظنا وطبقنا
"مواصفاتنا الجمنية" في التربية، مواصفات أيّدتها النظريات التربوية
الحديثة وخاصة نظرية مونتيسوري وبياجي وفيڤوتسكي التي تقول أن الطفل قادر على بناء
معرفته بنفسه لو هيأنا له الظروف المناسبة ومن حسن حظنا في جمنة أن ظروفنا
الطبيعية مهيأة دون تهيئة مسبقة لكثرة الفضاءات الفارغة والآمنة قرب المنازل،
امتيازٌ ريفي تفتقده المدن الكبرى.
4. في مسقط رأسي رابعا،
وفي الخمسينيات أيام انعدام وجود الروضات، كنا ندخل الكتّاب في سن
الثالثة أو الرابعة لحفظ القرآن وكنا نحفظ منه جزء "عمّ" دون فهم معاني الألفاظ
والسور أو إدراك المجاز القرآني الغني بالحِكمِ والعِبرِ والقِيم الكونية. نتخرج
من هذه الجامعة الصغيرة بِزادٍ لغوي ونطق سليم، زادٌ نستوعبه في الصغر وسوف
نستعمله ونوظفه أحسن توظيف عند مرحلة الفهم. وهذا آخر ما توصلتْ إليه النظريات
العلمية الحديثة وسمّوه "الحمام اللغوي" وسميناه نحن "حسب
المواصفات الجمنية" "تلقين القرآن الكريم منذ الصغر".
5.
في مسقط رأسي خامسا، وفي الخمسينيات أيام
انعدام وجود الفضائيات العربية الرجعية المتخلفة، كانت حقوق المرأة الجمنية مضمونة
"حسب مواصفات جمنية محلية" وليس "حسب مواصفات عالمية
مستوردة". كانت المرأة تعمل في الحقل جنبا إلى جنب مع الرجل، تُحيّي الجيران
نساء ورجالا وتَرد التحية بأحسن منها على جيران الحقل من النساء والرجال. تخرج المرأة
الريفية يوميا إلى العمل باكرا بعلم زوجها أو دون علمه إذا كان غائبا في فرنسا.
تستقبل في حوشها الضيوف من أقاربها وجيرانها ومعارفها، نساءً ورجالاً، في حضور
زوجها أو في غيابه، تقوم بأصول الضيافة التونسية الريفية على أكمل وجه وتقدم لهم
الشاي أو الطعام وتتحدث معهم في شؤون الحياة وتعقد معهم -إن لزم الأمر- الصفقات في
مجالات الفلاحة والبناء. يستشيرها زوجها في الصغيرة والكبيرة، في خطبة البنت
والولد وفي دراستهم الجامعية. لنا نساء معروفات بالحكمة وأخريات بالشدة والصرامة
وأخريات بالطب التقليدي العربي وأخريات بالتجارة وإدارة الأعمال الصغرى. لنا
طبيبات ومحاميات ومهندسات وأستاذات ومعلمات وممرضات وزوجات محصنات وبنات عازبات
يعملن جنبا إلى جنب مع الرجال ويتنقلن في وسائل النقل المختلط إلى فرنسا وألمانيا
وإيطاليا وتونس ودوز وڤبلي في سيارات
الأجرة وحافلات النقل العمومي وشاحنات النقل الريفي المزدوج. يصافحن الرجال
الأقارب والجيران والمعارف باليد، أما صاحبات وجارات وقريبات أمي وأندادها، فكنّ
يحضنّني ويحضن أولاد الجيران الشباب العائدين من غربة الدراسة تماماً كما تحضنني
أمي أو بأكثر حِنِّيّة. نساؤنا يتجولن سافرات بين المنازل في حينا الصغير المغلق
(زنڤة حادة). يجلسن في الأعراس غير بعيد عن جمع الرجال وفي نفس ساحة المنزل
ويزغردن بالصوت العالي. في عيد الأضحى والعيد الصغير، كنا أطفالا وشبابا، نطوف نصف
البلاد نعيّد بالمصافحة باليد والكتف أو الخد على نديدات أمهاتنا، قريباتنا
وجاراتنا ومعارفنا. تنوب الأم زوجها الغائب في فرنسا في كل ما يخص أولادها ولا
تحجب نفسها ولا تُهمل تربيهم، وعند الضرورة تَخرج إلى الشارع غاضبة صائحة لنجدتهم
وحمايتهم من الاعتداءات الجسدية التي قد يتعرّضون إليها من قِبل مَن يكبرهم سنا.
مات أبي وأنا في سن الخامسة عشرة وكان لي في المنزل أخوان وأخت ضريرة، ربتْنا أمي
يامنة أحسن تربية -على ما أعتقد- وتعبتْ في خدمة شؤوننا أكثر مما قد يبذله أعتى الرجال، وكان العُرف السائد في جمنة أن لا
تتزوج الأرامل، ويتنازلن بإرادتهن عن حقهن المشروع في ذلك، حفاظاً على مشاعر
الأبناء وتماسك الأسرة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire