أنزَلت وزارة التربية والتعليم التونسية أخيرا منشورا
يحث مدرسي الابتدائي والإعدادي والثانوي على التكوّن في مجال الإعلامية واستعمال
الحاسوب والبرمجيات والسبورة التفاعلية لأغراض التدريس في القسم (.Les T.I.C.E). احتج المدرسون
النقابيون على الوزارة وعارضوا كعادتهم التكوين في العطل المدرسية وطالبوا بأجر
مناسب للمدرّس المكوِّن.
سبق لي أن عملت مكوّنا لأساتذة علوم الحياة والأرض لمدة
عامين. يستغرق إعداد حصة التكوين نصف شهر تقريبا. أعرضها وأناقشها مع الزملاء خلال
أربع ساعات. أتقاضى على كل ساعة دينارين ونصف (ما يقابل دولار تقريبا). هل أجرُ
عشرة دنانير يقابل جهد نصف شهر من البحث والتنقيب ؟ لكن عندما تستدعي الوزارة
محاضرا جامعيا لتكوين أساتذة الثانوي أو معلمي الابتدائي تغدق عليه في الحصة
الواحدة من 100 إلى 200 دينار. أنا أحترم العلم والعلماء والأساتذة الجامعيين
والناس أجمعين وأطالب بمساواة المكوّنين في الأجر خاصة أن الكثير من المكوّنين من
أساتذة الثانوي حاصلون على شهائد مرحلة ثالثة مثل الماجستير والدكتورا.
أعود الآن إلى موضوعي الأصلي الذي من أجله أكتب هذا
المقال والذي يتمثل في تذكير الزملاء والوزارة أن التكوين في الإعلامية مهم ولكن
الأهم منه هو التكوين في العلوم الضرورية لأداء وظيفة المدرس على أحسن وجه. ما هي
هذه العلوم الضرورية ؟: هي التعلّمية أو إبستمولوجيا التعليم (La Didactique) وعلم التقييم (L'Évaluation) وعلم نفس الطفل (La psychologie de l'enfant) والإبستومولوجيا (L'Épistémologie) وتاريخ العلوم (Histoire des
sciences) وإدراك عملية الإدراك (La Métacognition) والسيميائية (La Sémiologie) بالنسبة لمدرّسي
اللغة بجميع ألسنتها وعلوم التواصل والتقنيات الرقمية المستعملة في التعليم (Les TICE).
الإعلامية (L`informatique) ليست علما بل هي أداة
يوظفها العلم. أداة عاجزة بمفردها عن تحقيق أي هدف تعلمي ولا يمكن الاستفادة منها
دون استعمال علوم التربية الضرورية والمنسية في التكوين. تحرص الوزارة على التكوين
في الإعلامية فقط وتهمل العلوم الأخرى فهي كمن يهدي نظارات طبية إلى ضرير.
أذكّر زملائي أولا والوزارة ثانيا بأهمية العلوم المذكورة أعلاه لعل الذكرى
تنفع المدرّسين:
-
تهتم التعلّمية (La Didactique) بالمعرفة وعلاقتها بالتلميذ
والمدرس أكثر من اهتمامها بطرق التدريس (البيداغوجيا). تركّز هذا الفلسفة على
كيفية تعلم المتلقي وتعلّمه كيف يتعلّم. عدم إلمام المدرسين بهذه الفلسفة قد يفسر
مقولة العالم الابستومولوجي الفرنسي ﭬاستون باشلار " المدرّسون لا يفهمون
أن تلامذتهم لا يفهمون".
-
علم التقييم (L'Évaluation) هو علم قائم الذات يَدرَّس
في الجامعات. تسمح آليات هذا العلم بتقييم مكتسبات التلميذ قبل وأثناء وبعد الدرس.
تساعد نتائجه على تحسين مردود المعلم والمتعلم. المدرس الذي لم يدرس أكاديميا
التقييم مثله كمثل تاجر يزن سلعة دون ميزان.
-
عِلم نفس الطفل (La psychologie de l'enfant) هو علم يفتح عيون
المدرسين على عالم الطفولة والمراهقة ويكشف لهم ما خفي من جبل الجليد النفسي عند
التلميذ لعل الرؤيا تتوضّح لديهم ويظهر لهم أن اللامعقول في تصرفات التلميذ هو من
صلب المعقول النفسي, وربما يعذرون حينئذ ويفهمون أسباب وعمق بعض السلوكات التلمذية
العنيفة أو الخارجة عن المألوف ويكفّون عن التعامل مع التلميذ كما يتعامل عالم
النفس السلوكي مع فأر التجارب عندما يحدد له مدخل المتاهة ومخرجها (Le labyrinthe).
-
الإبستومولوجيا (L'Épistémologie) هي "مبحث نقدي في مبادئ
العلوم وفي أصولها المنطقية" وتهدف إلى الكشف عن الآليات والمفاهيم التي
تعتمدها الثقافة في إنتاج المعرفة ونقدها. هي "معرفة المعرفة أو نظرية
المعرفة العلمية". يحتاج لهذا العلم كل من يدرّس العلوم معلما كان أو أستاذا. عندما يعرف المدرس أن العلم لا يولد كاملا بل يتكوّن
على مراحل وبعد أخطاء جسيمة يرتكبها العلماء العظام, حينئذ قد يعذر ويتسامح ويفهم
أخطاء التلميذ ولا يحمّله ما لم يقدر عليه كبار العلماء، أعني به الفهم المباشر
والسريع للمسائل المعقدة في الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة و الأرض وغيرها...
-
أما "إدراك عملية الإدراك" (La Métacognition) فهو علم
ينظر "في التفكير في آليات التفكير وفي معرفة أننا نعرف وفي اختيار الطريقة
الأنسب لحل المشاكل" وكما قال بيار ﭬريكو: " لو أن الإنسان الذي يقول لا
أعرف, عرف لماذا يقول لا, لكان قادرا على تحديد نعم المستقبلية" أو كما يقول
المثل الصيني المشهور " لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد" والسمكة في التعليم هي المعلومة وتعلّم الصيد
هو "إدراك عملية الإدراك". أثناء إدراك عملية الإدراك "ينشط
التلميذ ذهنيا وليس تطبيقيا وقد ثبت أن هذا النوع من النشاط الذهني البحت يسمح
بالوعي بالإجراءات والشعور بالطرق والسيرورات الذهنية الموظفة لحل المشاكل ويرسّخ
اكتسابها".
- السيميائية
(La Sémiologie )
وهي حسب تعريف فردناند دو سوسور (1857-1913)، مؤسس علم
الألسنية (La Linguistique ): "السيميائية
هي علم دراسة العلامات (Les signes) داخل الحياة
الاجتماعية". يحتاجها جدا مدرسو اللغات في التعليم الابتدائي والإعدادي
والثانوي وللأسف لم يتلق أكثرهم تكوينا جامعيا في هذا الاختصاص الضروري لتحليل
النصوص (أنا لم أدرُسها).
خلاصة القول:
جل الأساتذة لم يدرسوا هذه العلوم في الجامعة أما أنا
فقد اكتشفتها متأخرا أي بعد أربعة وعشرين عاما في التدريس. يبدو لي أن الأستاذ كان
أقل حظا من المعلم في هذا المجال. وحتى من علم وتعلم فلن يستطيع أن يطبق النظريات
الجديدة في نظام تعليمي يَعتبر فيه الارتقاء الآلي ديمقراطية والتقشف في استعمال
الطباشير حكمة. مدرسة ابتدائية دون ميزانية وميزانية المعهد تُنفَق في تسخين مكاتب
الإداريين وطباعة الامتحانات والمناشير.
السبورة التفاعلية (Le tableau interactif) ليست عصا سحرية سوف تُخرِج
تعليمَنا من المحلية إلى العالمية ولن تغير بين عشية وضحاها وضعا متخلفا وتسيبا
عاما وتجهيزات مهترئة وأجورا زهيدة وبيروقراطية متكلسة وقرارات فوقية وإملاءات
خارجية وخرّيجين عاطلين عن العمل لمدة سنوات.
لديّ تجربة بسيطة مع توظيف التكنولوجيا الحديثة في
التعليم: منذ ثمان سنوات وبضربة حظ, جهّز لي وزير التربية التونسي السابق منصر
رويسي مخبرا بعشرة حواسيب لتدريس علوم الحياة والأرض في معهد برج السدرية
ومنذ تاريخ مغادرة الوزير للوزارة في 2001
نسوني وتركوني أتخبط وحدي دون فأرة ودون برمجيات ودون صيانة ودون تجديد الحواسيب
حتى هرمت ولم تعد صالحة للاستعمال.
في فرنسا لا تَدرَّس الإعلامية كمادة مستقلة بل تُستعمَل
كأداة تدريس في كل المواد منذ عام 2000.
المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك
وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 82-86).
إلى المنشغلين والمنشغلات
بمضامين التعليم:
نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام
التربوي التونسي" على شرط التسلم في مقهى الشيحي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire