lundi 8 février 2021

أثرٌ على الأثرِ. بقلم رؤوف ساسي، أستاذ السيميائية بكلية الآداب 9 أفريل

 

Sémilogie: Pour Ferdinand de Saussure, science dont l'objet est l'étude de la vie des signes au sein de la vie sociale.

 

المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة"، طبعة حرة، 2016، 224 صفحة (ص.ص. 60-69).

ملاحظة: كتابٌ ألّفته تطوعًا لفائدة "جمعية حماية واحات جمنة" وهي التي دفعت مصارف الطباعة (3400 د). صدر في ألف نسخة: 900 نسخة أخذتْها الجمعية دون مقابل وَوَزّعتْها مجاناً على مساندي قضية جمنة في كامل أنحاء الجمهورية، و100 نسخة أخذتُها أنا وَوَزّعتُها بمعرفتي.

النص:

"جمنة" قرية\مدينة تقع في الجنوب الغربي للبلاد التونسية فيها ولد محمد كشكار (الكاتب) وترعرع طفلا إلى حين انتقاله إلى مدينة ڤابس فإلى حمام الشط المدينة الساحلية بضواحي تونس العاصمة الجنوبية... هناك استقر الرجل زوجا وأبا لأسرة منذ أكثر من ربع قرن... هناك خاض المعارك الفكرية والنقابية وتزودت ثقافته بما أتيح له من أمهات الكتب وأرقاها في شتى مجالات العلم والمعرفة.

بين كشكار الكاتب ومسقط رأسه علاقة حب لا متناهية فكما حضنته صغيرا وساهمت في صقل شخصيته على أكثر من صعيد اجتماعيا وروحيا وسياسيا ففيها تدرب على الصعاب وأدرك المعاني الحقيقية للنضال والمقاومة والصبر والتآزر والتسامح والتحابب، سعى هو الآخر في الجزء الأول من هذا الكتاب إلى رد الاعتبار إلى هذه الحاضنة المعطاء بإزالة الغبار عن العديد من وجوهها المغمورة في شتى مجالات الحياة... عطاء بعطاء وإكرام بإكرام.

ماذا تعني هذه البيئة الريفية القروية التي أراد الكاتب أن يخرجها للناس ويعرّفها على أكثر من صعيد؟ إنها بإيجاز العالم القديم الذي ولى وانقضى أو هو في العديد من وجوهه في طور الانقراض منذ أن أرست دولة الاستقلال بانفتاحها المفرَط على الغرب في الستينيات وخاصة السبعينيات تحديدا نظمها المختلفة في الاقتصاد والتربية والثقافة بشكل عام والكاتب في رد اعتباره لجمنة إنما أراد في واقع الأمر أن يصحح العديد من المفاهيم والمقولات الخاطئة حول العالم الريفي\القروي إلى حدود الخمسينيات وهو بذلك يواجه أفكار العديد من المثقفين "الحداثيين" الذين يرون في ذلك العالم مرادفا للتأخر والتقهقر (عادات وتقاليد لا يمكن أن تساير العصر وأن تنصهر في روحه وفي فلسفته الواعدة بالسعادة الأرضية كما بشر بها روّادها...) ينحو كشكار منحى معكوسا تماما لهؤلاء ويقدم الدليل على أن الريف أو العالم الريفي القروي القديم كان قبل أن تطأه أقدام الحداثة الزاحفة نموذجا ذا قيمة عالية جدا في العديد من المجالات الحيوية الاجتماعية والفكرية والروحية وحتى الصحية والبيئية وغيرها... يكفي حسب الكاتب أن نزيل الغبار عن هذه البيئة وأن ننظر إليها بعين مغايرة بعيدا عن الأفكار المسقطة (préjugées) وأن نتسلح أيضا بمقاربات جديدة تأخذ من شتى أصناف العلوم والمعارف الحديثة حتى ندرك ما لهذا العالم الريفي من درَرَ وجواهرَ أهمِلت أو أقبِرت عمدا لتضاربها رأسا مع "الفكر الحداثي" في أساليبه وغاياته.

 

فحوى الجزء الأول من هذا الكتاب: الطرح والطرح المعكوس: نماذج للاستدلال:

في ثلاث أرباع هذا الجزء تقريبا يقدم كشكار بحكم تكوينه العلمي (التعلّمية Didactique وتعلّمية البيولوجيا بوجه أدق) نماذج يبين من خلالها مدى ثراء البيئة الريفية\القروية في العديد من المجالات وتحديدا تربية الأطفال قبل المدرسة والتغذية البيولوجية وجمنة في البابين مدرسة تحقق -حسب رأيه- للفرد تكوينا تلقائيا طبيعيا يتضارب مع السائد في عالم المدينة من ناحية ويتناغم مع أهم الاكتشافات  الحديثة بل ولعله يفوقها أيضا (منجزات مونتيسوري وبياجي وفيڤوتسكي) من ناحية أخرى.

         في المقال المخصص للتربية الحديثة يشير كشكار إلى المسافة الإبستيمية (المعرفية) الفاصلة بين عالم القرية الريفي وعالم المدينة... في جمنة يتعلم الأطفال بالاختبار والتجربة، يدركون الأشياء ومعانيها من خلال الصعوبات التي تعترضهم دون أي تدخل خارجي مؤطِّر يُبلِّد أذهانهم ويدجنها... فالحياة بكل ضروبها وألوانها بأهوالها ومسراتها، بأزماتها وآلامها وانفراجاتها (بحلوها ومرِّها كما يُذكر في الأمثال الشعبية) هي التي تشحذ العقل وتنميه وتجعل الكهل لاحقا قادرا على البناء والتشييد وخاصة على اجتياز العقبات التي تعترضه أثناء حياته الطويلة.

         إن الطفل المختبر للحياة هو صانع الرجل: "أبوه" بالمعنى الفرويدي وهذا تحديدا ما أراد الكاتب أن يبرزه من خلال نماذج حية استقاها من معيشه الخاص... نماذج ما كان له بدونها أن يكون كما أصبح عليه اليوم.

"تعلمت عن طريق اللعب..."

"تعلمت فلاحة الأرض..."

"تعلمت تربية الماعز..."

"تعلمت الاعتماد على النفس..."

"تعلمت وتحملت مشقة العمل اليدوي..."

"تعلمت التكفل بمصاريف عائلتي..."

"في المقابل" "تعلم البيئة الحضرية" "الذهاب إلى الروضة أو المدرسة" (الترويض كشكل من أشكال التدجين) أو إلى حصص المراجعة حيث يُستهان بالذكاء التجريبي والجسماني وتُقمع المبادرة الفردية ويُركز على الذكاء الذهني... لا يتعلم أطفالنا الأعمال اليدوية ولا النحت ولا الرسم ولا المسرح ولا الموسيقى ولا الطبخ ولا الخياطة..." بل يتحول جلهم إلى كائنات مبرمجة (formatés) مكيفة (acclimatés) تصنع ما يراد منها أن تصنع حسب أهواء السوق وبعيدا عن حاجيات الإنسان الأساسية الطبيعية... والذكاء المبرمج لدى الكاتب لا علاقة له في خلفياته وأهدافه مع الذكاء التجريبي، الاختباري الذي يجعل من الفرد ذاتا حرة، مستقلة، منعتقة، (sujet)، لا آلة بين الآلات التي سخرها النظام الرأسمالي (أي موضوعا objet) لبلوغ أهدافه اللائنسانية.

         في باب آخر من "جمنة" وطبقا لنفس المنطق التحليلي النقدي يشير الكاتب إلى مزايا ومناقب النظام الغذائي التقليدي الطبيعي في الريف وفي القرى الريفية... فإن كان الإنسان في الحاضنة الطبيعية "صانع" نفسه وصانع حاجياته بنفسه فإنه على عكس ذلك تماما في المدينة فهو مهيأ (مروض\مدجن ) منذ صغره بحكم تكوينه المعرفي من المحظنة (Le jardin d`enfants) إلى المدرسة فإلى الجامعة أن يكون عجينة طيعة لما تريده السوق بكل وسائلها وتقنياتها الدعائية الضخمة، فهو لا يتغذى حسب ما تمليه عليه تركيبته البيولوجية بل طبقا لمواصفات المختصين الغذائيين (Les nutritionnistes) في عالم الاستهلاك الرأسمالي المحلي والعالمي على حد سواء.

         وإذا ما نظرنا إلى هذين النظامين التعليمي (نمو الروح والذهن) والغذائي (نمو الجسد) والعلائقي أدركنا حجم الكارثة التي حلت بالإنسان "المتحضر" في عالم المدينة الفاضلة الموهومة منذ بدايات الستينيات وأواسط السبعينيات تحديدا...

يتعلق كتاب "جمنة" بآخر حلقات هذه السلسلة المنظومية ليقدم الكاتب من خلال بلدته القروية الريفية نماذج نيرة ومشرقة من التعامل الإنساني... مشاهد مختلفة من التآزر والتضامن الاجتماعيين... وآيات في التعاطف والتحابب والكرم والإخلاص والتفاني في العمل والصدق والتضحية وحفظ الأمانة إلخ... لم يتعلم ابن جمنة هذه القيم في المدارس والمؤسسات الرسمية للدولة\السلطة وإنما استقاها بوعيه "الفطري" من حاضنته الطبيعية ومن صميم حياته اليومية وما خاضه فيها من تجارب... ولعل أهم قيمة فيما ألح عليه الكاتب في خاتمة الجزء الأول من كتابه حول "جمنة"، الحرية... ففي جمنة يولد الناس أحرارا ويبقوا هكذا إلى مماتهم... فهذه القيمة ليست مكسبا اجتماعيا أو سياسيا مسَنَّى في قولنين معينة ومحصن بالعديد من الضوابط والشروط والآليات التطبيقية كما هو الحال في العديد من الدساتير الوضعية بل هي من وحي الوجود الكوني نفسه والتحام الإنسان به التحاما كليا مطلقا... وليس غريبا أن يفصح ابن الجريد، الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي عن ذلك مغنيا:

خلقت طليقا كطيف النسيم

         وحرّا كنور الضحى في سماه

تغرد كالطير أين اندفعت

         وتشدو بما شاء وحي الإلاه

         إن الحرية في  هذا العالم الريفي حاجة طبيعية تسري في أذهان الناس وأنفاسهم سريان الدم في العروق فلا ضرورة للتذكير بها والاحتفاء بمزاياها ومناقبها كما تفعل الدولة\السلطة في مؤسساتها...ثم ألا نجد في ما ذكره الكاتب عن جمنة الحرية أو جمنة الحرة أثرا لذاك التراث الأمازيغي الضارب في القدم والمتأصل أيضا إلى حد الساعة في عقلية الإنسان الريفي فالأمازيغي اسم على مسمى... حرٌّ أو لا يكون. ومن تلك القيمة المقدسة استمد الريفي والقروي على حد سواء أجلى وأبهى معاني وجوده...

أزمة الحداثة وأزمة الهوية في جمنة

         "جمنة" شجرة تخفي غابة من الطروحات والمقولات حول الحداثة والأصالة... أسئلة عديدة تفرض نفسها بإلحاح منذ بدايات عصر النهضة في أواسط القرن التاسع عشر وتعممت بشكل درامي مع اللبرالية الزاحفة والرأسمالية المتسلطة المتجبرة في خمسينيات وستينيات وأواسط السبعينيات من القرن المنصرم...

         إضافة إلى قيمته الوثائقية الأنتروبولوجية والأكاديمية بشكل عام ينفتح الجزء الأول من هذا الكتاب " في فن العيش قديما جمنة الخمسينيات نموذجا؟" على بعدٍ آخر، إيديولوجي يحيل الكتاب إلى مأزقين متزامنين لا ندري تحديدا كيف يمكن تجاوزهما... مأزق الفكر الحداثيي العولمي المتوسل بالعلم والمعرفة والأخلاق أيضا (حقوق الإنسان وما تبعها) لفرض أنماط من العيش والتعامل بعيدة كل البعد عن عادات وتقاليد العديد من المجتمعات النامية أو في طور النمو... والعولمة في ممارساتها المعروفة في شتى مجالات الحياة برهنت بشكل مفضوح وصارخ على مدى لا إنسانيتها مما دفع بالعديد من المفكرين الغربيين من أمثال شمسكي وإدغار موران وميشال هونفري وألبار جاكار كل في اختصاصه إلى التفكير في بدائل أخرى تعيد للإنسان إنسانيته (بدائل ما بعد الحداثة)... عربيا يقدم كشكار النموذج التقليدي(ما قبل الحداثة) كمسلك من المسالك الممكنة للخروج من الراهن المعفّن، المدنّس، الردي، إلى حياة أخرى تعيد للإنسان حريته المفقودة وبالتالي إنسانيته وكرامته... لكن كيف؟ وبأي وسائل عملية ملموسة يتحقق هذا المطمح النبيل؟ رائع أن نحلم بماضينا وبكل وجوهه النيرة المشرقة لكن أروع أن نجد له السبل الكفيلة لتحقيقه... كيف يمكن لجمنة كمنظومة من "القيم النبيلة" (Valeurs authentiques) على حد قول جورج لوكاتش أن تفرض نفسها مجددا على عالم آخر، نقيضها تماما (وجهها المعكوس)، عالم "القيم المدنّسة" (Valeurs dégradées) إن الصراع القائم اليوم بين هاتين الرؤيتين للعالم (Visions du monde) ومدى التصادم بينهما تحت العديد من المسميات: صراع أجيل، صراع حضارات، صراع ثقافات، صراع جنوب شمال، مستعمِر مستعمَر، طبقة رأس المال العالمي بكل كمبرادورياته وترساناته المالية والعسكرية والملتميديائية وعمال العالم في كل الأقطار، إلخ... يفرض في اعتقادنا وبحكم خطورته نمطا جديدا من التفكير الوسطي البراڤماتي... ولقد ذهب كشكار في هذا المنحى شوطا فكان همه في كل أبواب كتابه أن يوفق بين جيد القديم وجيد الحديث... وما هذا التناغم والتلاقي بين ما قدمت جمنة الأصيلة وأحدث الدراسات العلمية التي ذكرنا إلا دليل قاطع على إمكانية التجاوز دون الوقوع في التطرف تحت أي عنوان باسم الأصالة كان أو باسم الحداثة وهنا تكمن خصوبة هذا العمل وقيمته المعرفية الأكاديمية.

         نعم! يُمْكِنُ كما فعل الكاتب أن نعيد قراءة الماضي لنستفيد منه مستنيرين بالحاضر كما يجوز لنا أيضا أن ننقذ هذا الحاضر من براثن العولمة العمياء الطاغية المستبدة مستفيدين من دروس الماضي. وأية دروس!!

 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire