jeudi 4 février 2021

جمنة الخمسينيات تعطي درسا في الجيرة الطيبة: كلمة حق في جارٍ حق. مواطن العالم، أصيل جمنة ولادة وتربية

 


المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة"، طبعة حرة، 2016، 224 صفحة (ص.ص. 39-41).

ملاحظة: كتابٌ ألّفته تطوعًا لفائدة "جمعية حماية واحات جمنة" وهي التي دفعت مصارف الطباعة (3400 د). صدر في ألف نسخة: 900 نسخة أخذتْها الجمعية دون مقابل وَوَزّعتْها مجاناً على مساندي قضية جمنة في كامل أنحاء الجمهورية، و100 نسخة أخذتُها أنا وَوَزّعتُها بمعرفتي.

النص:

جارُ "السَّاسْ"، جارٌ جارَ عليه الزمان، تُوفي ابنُه البِكر ذو الخمسة وعشرين ربيعا. بعد الفاجعة الأولى منحه الزمن مهلة فسيحة عاش فيها حياة كريمة سعيدة، ثم غدره الزمن مرة ثانية واختطف منه ابنه الثالث، صديقي وقريني، وهو في فجر الشباب. فجعه الزمان للمرة الثالثة في زوجته المصون وقبل النهاية غَرَسَ فيه الدهر أنيابه حتى اللثة، فَقَدَ البَصَرْ وأقعده الكِبَرْ.

ككل أبطال الملاحم الكبرى هزمه الزمن بعد طول جهاد بحلوه ومرّه لكنه في النهاية انتصر على الزمن بصفاء عقيدته وقوة إيمانه وصلابة التزامه ودوام صلاته وطُهرِ صيامه وورعه وتقواه حتى اليوم الأخير من حياته بفضل الله ومساعدة الملاك الأرضي زوجة ابنه وفي نفس الوقت ابنة أخيه.

كنتُ أدعوه بكل حب ومودة واختصار "عمِّي نصر". لم يكن لي عمٌّ غيره. لا توجد صلة قرابة دموية بيني وبينه لكن توجد جيرة طيبة وقرابة ربّانية بيني وبينه، جيرةٌ ترتقي فوق صلة الرحم بين الابن وأبيه.

مات أبي وأنا في سن الخامسة عشرة فلم أجد أمامي أبا سواه، جميل المحيىَّ، قمحيَّ اللون، قويَّ البنية، باسمُ الثغْرٍ، حُلوُ الكلام، عطوفٌ حنونٌ، ينبثق من وجهه نورٌ كنورِ الملائكة.

لم أسمع منه يوما كلمة قاسية، لا في حقي ولا في حق أقراني الأطفال. فلاحٌ جنوبيٌّ يتمتع بأخلاق رقيقة لا تتوفر عادة في رجال الصحراء القساة، رجال ذاك الزمن القاسي مثلهم.

يزورنا في المناسبات وكل خريفٍ يعطينا من "دَڤلتِه" عدة عراجين رغم أننا نملك سانية صغيرة فيها عشرون دڤلاية.

في عيد الأضحى، يمر باكرًا، يذبح الضحية ويسلخها، يأكل قطعة صغيرة مشوية من كبِدِها ثم يمضي على عجلٍ إلى جارٍ آخر وفي الغداء يجمع كل الجيران حول مائدته، عادة ورثها عن أبي.

التحق البطل باللازَمان. رحل هو وبقيَ الزمان يلاحقه ويقضّ في القبر مضجعه. بعد سنوات معدودات مات ابنه الثاني وبعده ابنه الرابع قبل أن يبلغا الستين. ابنه المسافر قبل الأخير كان يعالج مرضه العُضال بدواء مستورد من السماء، دواءٌ ناجع والوحيد الخالي تماما من التأثيرات الجانبية، كان يقرأ القرآن بصمت لنفسه. بعد سنتين  لحقتْ بقارئ القرآن زوجة  قارئ القرآن، وطارَ الملاك الأرضي إلى الأعلى سبحانه. بقِيَ من البستان زهرة واحدة وحيدة.. والأحفاد والحفيدات.. والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه. 

لو كان لي نصيبٌ في شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لَطلبتُ لعمي نصر نصيبَين، ولو كانت  وازِرَةٌ  تَزِرُ  وِزْرَ أخرى لَحملتُ عن الملاك الأرضي كل أوزاره لو كان للملائكة أوزارٌ !

يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو عِلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". بكل نية طيبة ومع حفظ المقام العالي للرسول، أعمّم المقاصد من الحديث الصحيح وأضيف: "أو جارٌ وفيٌّ يدعو له".

سوف أذكر "عمي نصر" وأتذكّره دوما وأبكيه كما يبكي الشيعة "الحسين بن على" لكن دون مغالاة.

قال جبران: "إن المسافة التي تفصلكم عن جاركم القريب الذي لا تصادقوه أبعد في الحقيقة من تلك التي تفصلكم عمن تحبون، وهو يقيم وراء الأرضين السبع والسماوات السبع. ذلك أن الأبعاد لا وجود لها في التذكار، والمسافة الشاسعة إنما تكون في النسيان، وهي مما لا يستطيع  صوتك ولا عينك اختصاره".

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire