لماذا
لا يعمل التلميذ التونسي ؟ هل هو كسول بطبيعته ؟ لماذا يلجأ التلميذ التونسي إلى
العنف اللفظي وفي بعض الأحيان المادي ؟ لماذا يلجأ التلميذ التونسي إلى الغش ؟ هل
هو عنيف بطبيعته ؟ هل هو غشاش بطبيعته ؟ هل هو المسؤول الوحيد على عنفه وغشه وتردي
مستواه التعليمي ؟ هل الوزير مطّلِعٌ على المستوى العلمي الصحيح للتلميذ ؟ هل
الدولة تستشرف مستقبل التعليم في تونس ؟
هل الأساتذة يفهمون أن تلامذتهم لا
يفهمون؟
أغلب
الأساتذة مجازون في اختصاصاتهم، فهم إذن يملكون معرفة علمية جامعية، لكن أغلبهم
أيضا لم يتكونوا في فلسفة التربية (الديداكتيك، الإبستمولوجيا، تاريخ العلوم) ولا في
علوم التربية، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، أذكّر ببعضها: البيداغوجيا، علم نفس
الطفل، علم التقييم، علوم التواصل، علوم الحاسوب، معالجة الصورة وتفسيرها، إلخ.
تخصّص
الدولة ميزانية ضعيفة جدا للمرحلة الأولى من التعليم الابتدائي، أول مرحلة من
التعليم الأساسي: أقدّم لكم هذا التقرير التقريبي في أكثر المدارس الابتدائية:
أقسام مكتظة, تلامذة لا يلعبون الرياضة, لا يستعينون بالحاسوب, لا توجد مخابر
ووسائل إيضاح ومجسّمات لتدريس العلوم, لا يوجد معلم مختص في مجال معين, لا توجد في
بعض المدارس آلة ناسخة ولا أنترنات ولا قاعة معلمين ولا بيت راحة للمعلمين, ولا
يوجد مقياس علمي للنجاح فالارتقاء أصبح تقريبا آليا. ألغِي امتحان
"السيزيام", الغربال الوحيد في الابتدائي. ينجح التلميذ إلى السابعة
أساسي وهو لم يتملّك بعدُ كفاءات الابتدائي الأساسية الثلاث وهي الحساب والتعبير
الشفوي والتعبير الكتابي بالعربية والفرنسية. يفشل أكبر عدد من التلامذة في السنة
الأولى إعدادي (أو السابعة أساسي) لعدم تأهيلهم في الابتدائي لهذه المرحلة.
ترتفع
ميزانية المدرسة كثيرا في الإعداديات والمعاهد بالمقارنة مع المدرسة الابتدائية
لكن يُصرف أغلبها في استهلاك الإضاءة والماء والطباشير والطباعة وتسخين مكاتب
الإداريين. ألغِي امتحان "النوفيام", الغربال الوحيد في الإعدادي. ينجح
التلميذ إلى الأولى ثانوي فيتعرض لأول عائق تعلمي (Obstacle didactique: obstacle
créé par le système éducatif lui-même)، ألاَ وهو تدريس كل المواد
العلمية بالفرنسية بعد ما كان يدرسها بالعربية طيلة تسع سنوات تعليم أساسي.
في السنة الأولى ثانوي,
ألاحظ أن النجاح الآلي وتدريس العلوم بالعربية في الأساسي (9 سنوات) أوصل إلينا في
المعاهد أكثرية من التلامذة لا يستوعبون الدروس
العلمية باللغة الفرنسية ولا يفهمون منها تقريباً شيئا، وفي هذه الحالة
يلجأ بعضهم إلى تعطيل سير الدرس والتشويش والعنف والغش الواضح والفاضح والوقح حتى يفرضوا
أنفسهم في القسم. هنا يندرج تشكي الأساتذة من عنف وغش تلامذتهم ويتهمونهم بشتى
التهم من غباء وعدم تربية وقلة انضباط واستهتار بالقيم. أنا لا أنزّه التلميذ بل
أحاول فقط تسليط نظرة شاملة على المشكل وقد تبين لي أن التلميذ ضحية ومسؤول في نفس
الوقت. التلميذ هو نتاج ما صنعت أيدينا من سياسة تربوية فاشلة سَنَّها وطبقها كهول
وليسوا مراهقين, فقبل أن نلوم التلميذ والولي, علينا إذن أن ننقد أنفسنا ووزارتنا
والمبرمجين والمتفقدين والإداريين. أنا لا ألوم تلميذا لم يتأقلم مع هذا الوضع
السيئ.
بقي
امتحان "الباكلوريا" شكليا وألغِي فعليا وذلك باحتساب المعدل السنوي بنسبة الـ25%
في معدل النجاح في الباكلوريا. قد يتحصل التلميذ عل شهادة "الباكلوريا"
بـ 8 معدل فقط في الامتحان الرسمي، لكن مع احتساب المعدل السنوي بنسبة الـ25% في المعدل النهائي للنجاح في الباكلوريا، قد
يصل إلى معدل 9 من 20 مما يؤهله للنجاح بالإسعاف. يرتقي التلميذ إلى الجامعة وهو
لم يستعد لها علميا تمام الاستعداد في الثانوي. في باكلوريا 2015، ألغِيَ العمل
بهذا النظام الجيد في أهدافه والسيء في تطبيقاته.
ترتفع،
على حد علمي، ميزانية الجامعة كثيرا بالمقارنة مع الابتدائي والإعدادي والثانوي
لكن للأسف فهي لا تُنفق في البحث العلمي وتجهيز المخابر. رغم بناء عشرات الكليات
والمعاهد العليا في كل الولايات التونسية، ما زالت جامعات السبعينيات تستوعب بنفس
الفضاءات آلاف الطلبة حتى 2010، ككلية
العلوم وكلية الحقوق وكلية الهندسة بالمركب الجامعي وكلية 9 أفريل بتونس العاصمة.
خلاصة القول
حسب
وجهة نظري المحدودة جدا كغير مختص في تقييم أداء وزارة التربية, أرى أن فشل
التلميذ التونسي في الدراسة مسؤولية يتحملها البنك العالمي والوزير والمدير
والأستاذ والمعلم والولي والتلميذ. تهتم الدولة بالتعليم الجامعي أكثر من اهتمامها
بالثانوي والإعدادي والابتدائي. حسب اجتهادي المتواضع, لو عكست لأصابت، أي عليها
أن تهتم أكثر بالمرحلة الأساسية.
سُمّي
التعليم الابتدائي تعليما أساسيا لأنه يمثل قاعدة الهرم ونُقَطَ ارتكازه. توفر
الدولة لتلامذة الثانوي أساتذة أصحاب
شهائد عليا وتجهز القاعات ببعض الحواسيب وبعض السبورات البيضاء وبعض وسائل الإيضاح
وتبخل بكل هذا على تلامذة الابتدائي وهم أحوج الناس لمثل هذه القدرات ولمثل هذه
التجهيزات. في أمريكا يطالَب المعلم بشهائد أعلى من شهائد الأستاذ. إذا أهملنا
التكوين في الابتدائي فلا نستطيع تدارك الخطأ في الثانوي لأن التصورات غير العلمية
التي رسخناها في أذهان التلاميذ لن تزول بسهولة لكن إذا أكسبنا التلميذ مهارات
متعددة وكفاءات علمية في الابتدائي فبإمكاننا أن نظيف ونبني على أساسها المتين في
الثانوي والجامعي وإلا نكون كمن يبني عمارة على الرمال المتحركة.
أذكّر دائما بمثال التعليم في
كوريا الجنوبية أين استقر الهرم التعليمي وثبت على قاعدته العريضة فدولتهم عكس
دولتنا تخصص ميزانية اكبر للتعليم الأساسي. نهضت كوريا الجنوبية وأقلعت في ظرف عشريتين
فقط وأصبحت من الدول المتقدمة بعد ما كانت تصنف في الخمسينيات من القرن 20 كثالث
أفقر دولة في العالم. حققت نجاحا بفضل استثمارها الوطني في التعليم والعبرة لمن
يعتبر.
أريد
أن أوضّح لجل القراء الأعزاء أنني, و إن كنت ضد الارتقاء الآلي وضد توسيع ثقوب
الغرابيل في الامتحانات, لست مع الرسوب المجاني ولا أؤيد سياسة الانتقاء المجحفة.
تابعت أخيرا برنامجا تلفزيا مهمّا, بالفرنسية طبعا, لأن كل البرامج بالعربية
تقريبا تشترك في اللغة واللسان الخشبيين. يتحدث هذا البرنامج عن المدرسة
"الفنلندية" حيث لا يرسب التلاميذ ومع ذلك حققت نجاحا باهرا بفضل الدعم
والتشجيع الفعال للتلاميذ المحتاجين لذلك. أما المدرسة "الفرنسية" حيث
يرسب 50 في المائة من التلامذة خلال مسيرتهم الدراسية, عاما واحدا على الأقل
[والعهدة على الراوي], وهي أسوأ المدارس في أوروبا ورغم ذلك نعتبرها قدوتنا وقبلتنا.
كنا في السبعينيات، نحن الأساتذة النقابيون
نعارض سياسة الانتقاء التي طغت آنذاك في تونس وحَرَمَت العديد من أبنائنا
من مواصلة تعليمهم واليوم نعارض النجاح الآلي الذي أراه سببا للعنف والتسيب في
معاهدنا بجانب أسباب أخرى من بينها تردي القدرة الشرائية لدى المدرس وتدني التمويل
الحكومي في التعليم العمومي. أنا لا أملك البديل التربوي لهذه السياسة الديمقراطية
في ظاهرها والفاشلة في داخلها ولا أملك أيضا البديل البشري لتعويض جمهور الأساتذة
والمعلمين غير المؤهلين للقيام بواجبهم (لا أستثني شخصي طبعا رغم اجتهادي العصامي
لتكوين نفسي علميا وثقافيا) وعلى سبيل الذكر لا الحصر أذكّر ببعض عيوب تكويننا: لم
نتلق تكوينا أكاديميا في علم نفس الطفل ولا في علم التقييم ولا في علوم التواصل
ولا في الإبستمولوجيا (أو فلسفة المعرفة أو معرفة المعرفة أو نقد المعرفة) ولا في
تاريخ العلوم والبيداغوجيا ولا في التعلمية (إبستمولوجيا التعليم أو الديداكتيك)
ولا في المنهجية ولا في إدراك عملية الإدراك, فكيف تطلب منا النجاح في مهمتنا ونحن
لا نفقه منها إلا الجانب المعرفي وهذا لا يكفي. البنك العالمي وزمرة الخبراء
والمبرمجين لا يملكون البديل أيضا ولن يستطيعوا استنباطه لوحدهم مهما استعانوا
بخبراء أجانب مرتزقة مأجورين.
مهما
نقدتُ زملائي ونقدت نفسي فلن نستطيع أن نستغني عن الخبراء الحقيقيين, أعني
الفلاسفة والمختصين في علوم التربية والأولياء والمعلمين والأساتذة والتلامذة وقد
يتعلم الإنسان الوطني الصادق من أخطائه وأخطاء الآخرين ويتطور نحو الأفضل.
أوجه
ملاحظة أخيرة إلى بعض القراء الذين قد يلومونني على إغفال بعض الجوانب أو عدم ذكر
بعض الأسباب: كل علم وكل خطاب هو علم أو خطاب مُختزَل (Réduit) بطبيعته لأنه ينظر إلى المسألة
المعقدة والمتشعبة (التعليم مثلا) من زاويته الدقيقة والضيقة. لذلك أرى أن
المقاربة الشاملة (Approche
systémique) هي أفضل من المقاربة التحليلية (Approche
analytique) في تناول أي مسألة مهما كانت بسيطة. يبدو لي أنه من الأفضل
تضافُرُ كل العلوم مجتمعة وتكاملها لتوضيح أي ظاهرة وتفسيرها. لذلك أطالب بتكوين
شامل للمدرس ولا نقتصر على المعارف فقط (Les connaissances) بدعوى حياد العلم والعلم لم يكن ولن يكون يوما محايدا بل علينا
أن نركز أيضا على القيم (Les
valeurs) والممارسات الاجتماعية المرجعية (Les pratiques sociales de référence).
لم يكن العلم يومًا محايدا ولن
يكون، مثله مثل صانعيه العلماء البشر. تهتم برامج تعليمنا في كل مراحله بالمعرفي
النظري أكثر من اهتمامها بالتطبيقي لأن التكوين النظري لا يكلف الدولة كثيرا وتركز
على تلقين المعارف وتهمل تدريس القيم الإنسانية
ولا تثمن السلوكات الاجتماعية المدنية السليمة.
المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي
التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 49-55).
إلى المنشغلين والمنشغلات
بمضامين التعليم:
نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام
التربوي التونسي" على شرط التسلم في مقهى الشيحي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire