jeudi 3 décembre 2020

إن نقد الحقيقة يجعلها أقل حقيقة. نقلٌ أعجز أمامه عن التعليق، مواطن العالم

 


نص علي حرب:

صفحة 1: فهي تخفي بالضبط ما تشير إليه وتتكلم عليه. ذلك أن ما تضمره هذه الكلمة وتسكت عنه، فيما هي تعلنه وتنطق به، هو أن الحقيقة متعالية مطلقة نهائية ثابتة أحادية.. وفي ذلك تأليه للحقيقة. و في التأليه حجب وتغييب.. من هنا ليس نقد الحقيقة نفيا لها بقدر ما هو تعرية آليات وكشف أقنعة. إنه تفكيك متعاليات تفعل فعلها في طمس الكائن والحدث.. إنها ليست ما نراه وننظر إليه بقدر ما هي ما به نرى أو ما منه ننظر. وليست الحقيقة نهائية، بل قراءة وإعادة قراءة أي سلسلة من التأويلات المتلاحقة للعالم والأشياء. وهي ليست ثابتة بقدر ما هي بناء متواصل وسيرورة لا تنتهي ولا تكتمل. إنها ليست مطلبا بقدر ما هي أفق نسير باتجاهه. وهي ليست يقينا جازما بقدر ما هي انفتاح على الاحتمال وعلى الخطأ نفسه.

إنها ليست ما نسعى إلى إقراره بقدر ما هي اعتراف الكل بإمكان الغلط والوهم. وهي ليست معطى ولا هي نتيجة بقدر ما هي مجموعة إجراءات ووسائل وأدوات منهجية. وهي ليست تطابقا، أي لا تعني الحق والصدق والصحة مقابل البطلان والكذب والخطأ، وإنما هي معيار للتصنيف والتفريق، أو آلية استبعاد للتهميش، أو تعبير عن إرادة القوة والرغبة في الهيمنة. فلا تطابق في النهاية بين شيء وشيء، لا بين الذات والموضوع، ولا بين الموضوع والموضوع، بل كل شيء يخترق كل شيء ويسهم في تشكيله وتعيينه.

وأخيرا لا آخرا، ليست الحقيقة أحادية، بل هي هذا الشيء الذي لا يكف عن التعدد والتنوع والاختلاف عن نفسه باختلاف الصور والنماذج أو الأنماط والمناهج أو اللغات والاستعارات أو المعالجات والقراءات أو التوظيفات والاستثمارات أو الخطط والإستراتيجيات.. ولهذا ليست الحقيقة سوى الاعتراف بحق الآخر. إنها إقرار متبادل بالحقوق، ما دام ليس بإمكان الواحد أن يعمم رأيه على الكل.

هكذا فالحقيقة هي منهج ومعيار، أو آلة ووسيلة، أو منظور وأفق، أو احتمال وتأول، أو تصحيح واعتراف، أو اختلاف وتعدد.. إنها ما لا يمكن تعريفه إلا على حسابه. وحده مثل المفهوم للحقيقة يتيح إمكانات جديدة للفكر والعمل و التبادل.

وقصارى القول إن نقد الحقيقة يجعلها أقل حقيقة لأنه يزعزع الثقة بالمفهوم اللاهوتي للحقيقة لصالح الحقائق المفردة. فلا توجد حقيقة مع أل التعريف وبالخط العريض أو الحرف الكبير. وإنما توجد أحداث ووقائع تقابلها خطابات ونصوص. وأما الحقيقة فهي في منزلة بين المنزلتين. إنها فجوة يتعذر ردمها، ومسافة يصعب اجتيازها أيا كانت المجازات والاستعارات.

 

صفحة 5: ولذا فإن القارئ، إذ يقرأ، إنما يعيد إنتاج المقروء بمعنى من المعاني، وعلى صورة من الصور.. إذ النص يحتمل بذاته أكثر من قراءة، وأنه لا قراءة منزهة، مجردة، إذ كل قراءة، في نص ما، هي حَرْفٌ لألفاظه، وإزاحة لمعانيه.

صفحة 141: إن الحقيقة ليست شيئا قائما في ذاته نبحث عنه لكي نقبض عليه، بل هي شيء نمارسه ونصنعه أو ننتجه. إنها ما يخلقه النص أو الفكر ولا وجود لها يسبق الممارسات الفكرية والخطابية.

كيف نقترب منها ؟ البديل ؟

أقول لك ليست هي موجودة لكي نقترب منها، بل هي نتاج يُنتج في الخطاب والقول. لا انفصال للحقيقة عن القول والكلام.

حسنا. كيف لا نتناقض معها ؟

بقدر ما لا نتحزب لها وبقدر ما نبتعد عن تحويلها إلى عقيدة تحتاج إلى حراسة. فالتعصب للحقيقة هو ضد الحقيقة. وبعبارة صريحة: نقترب من الحقيقة بقدر ما ننفتح على الخطأ. فالحقيقة التي لا تخطئ ليست بحقيقة. وإذا شئت عبارة أصرح أقول: نتناقض مع الحقيقة عندما نعتقد بوجود حقيقة تخلو من التناقض. ونقترب من مفهومها عندما نعتقد بأن الحقيقة أقل حقيقة مما ينبغي.

 

المصدر: نقد الحقيقة، علي حرب، الطبعة الأولى 1993، المركز الثقافي العربي، بيروت لبنان، 148 صفحة.

 

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 18 ماي 2012.

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire