lundi 8 octobre 2018

ماذا جنيتُ بعد ثلاث عشرة سنة تعليم عال علمي باللغة الفرنسية؟ مواطن العالم د. محمد كشكار



تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 15 ماي 2009.

سنة 1952، وُلِدت بجمنة. سنة 1974، بعد دراسة جامعية أولى  دامت سنتين (دون باكلوريا)، تخرّجت أستاذا مساعدا في الاعدادي وأنا عمري 22 عاما، اختصاص علوم الحياة و الأرض. سنة 1980، دخلت في التعلّم الذاتي في سن 28، أعددت نفسي بمساعدة زملائي للترشح الحر لاجتياز الباكلوريا العلمية الجزائرية، تحصلت عليها بملاحظة متوسط. سنة 1982، للمرة الأولى عدت إلى الدراسة الجامعية بالمراسلة، في جامعة "رانس" بفرنسا وأنا في سن 30، درست الفلسفة الإغريقية سنة واحدة ولم أواصل لأسباب مادية. سنة 1990، للمرة الثانية عدت إلى الدراسة الجامعية بالحضور، وأنا في سن   38 و أكملت الإجازة خلال ثلاث سنوات بملاحظة حسن. سنة 1998، للمرة الثالثة عدت إلى الدراسة الجامعية، ، و أنا في سن 46 و بعد عامين بحث علمي تحصلت على "دبلوم الدراسات المعمقة" في  تعلميه البيولوجيا بملاحظة حسن جدا. أضعت عامين بين  الشعور بالإحباط والإحساس بالفشل والتردد في اختيار موضوع أطروحتي.  سنة 2002، للمرة الرابعة عدت إلى الدراسة الجامعية، وأنا في سن 50 وبعد خمس سنوات بحث تحصلت على الدكتورا بملاحظة مشرّف جدا مع الشكر الشفوي للجنة دكتورا ثنائية الإشراف من جامعة تونس وجامعة كلود برنار ليون 1 بفرنسا. مسيرة دراسية خاصة لا تُحتذى لأنها مسيرةٌ متعثرة وبطيئة جدا، لا أنصح الشباب بمحاكاتها.
رغم طول مدة الدراسة وتعثرها لأسباب خارجة عن قدراتي الذهنية، لم أشعر يوما بالملل أو القلق، بل العكس، كانت أيام سعادة ومرح ومتعة فكرية. وددت لو طالت الدراسة الجامعية إلى آخر العمر لأن كل متع الحياة الدنيا - لو كان فيها متع في متناول الفقراء ما عدى متعة التدخين السامة - لا تساوي "جناح بعوضة" جنب المتعة الفكرية.
لم أجْنِ من كل هذا الجهد إلا عمل بسيط أقتاتُ منه متنقلا في الجمهورية التونسية من مدينة مغمورة إلى أخرى ولست نادما لأن ما حققته هو إرضاء لنفس طموحة غير طمّاعة.
جنيتُ ثقافة علمية متشعبة ومعقدة واكتسبت تواضعا فكريا حقيقيا واكتشفت أن كل ما اطلع الإنسان أكثر عرف أن ما يجهله أكبر.

أقدّم لكم في الفقرة الموالية ما جنيته، وهو يتمثل في بعض المفاهيم أو أدوات التحليل والتفكير التي بقيت لي من سنوات الجهاد العلمي، سأقدمها دون تعمق وبصيغة أدبية أكثر منها علمية، لأنني سوف أتعرض لها في مقالات أخرى بالتفصيل العلمي:
1.     مفهوم "التفاعل" (L’Interaction):
يحل هذا المفهوم السحري كل المسائل الملتبسة في النقاش الفكري ويجيب منهجيا على كل الإشكاليات بمنطق مشاركة كل الأطراف في الفعل ورد الفعل.
مثال 1:
السؤال: هل الذكاء وراثي أم مكتسب؟
الجواب: يتفاعل الوراثي مع المكتسب "فينبثق" منهما الذكاء.
مضى زمن الفصل التعسفي بين الوراثي والمكتسب إلى غير رجعة.
مثال 2:
السؤال: ما هي أسباب تخلف العالَم العربي؟ هل هي خارجية (مفهوم المؤامرة) أم داخلية؟ هل هي دينية أم عَلمانية؟ هل هي معاصرة أم تاريخية؟ هل هي نتيجة الاستبداد أم الفساد؟
الجواب: تفاعلت كل هذه الأسباب فيما بينها وخلقت وسطا، عشنا داخله أربعة عشر قرنا و"انبثقنا" منه أفرادا وشعوبا ودولا عربية مسلمة متخلفة.

2.     مفهوم "الانبثاق" أو "الانبجاس" (L’Émergence):
ينتج الانبثاق عن التفاعل بين عناصر الظاهرة الطبيعية أو التفاعل الكيميائي، فهو إذن ليس حتمية وليس معروفا مسبقا.
مثال 1:
يتعاون الآلاف من حشرات النحل لبناء خلية النحل. كل واحدة تقوم بعمل بسيط دون نية مسبقة ودون تصميم ذهني "فينبثق" من مجموع الأعمال المنفردة والبسيطة لجماعة النحل بناءٌ هندسيٌّ دقيقٌ لا يقدر على تصميمه أكفأ المهندسين.
مثال 2:
إذا انتقدت التعليم في تونس, يطالبك محاورك بنبرة المتحدي بالبديل, و من أين لي أنا المواطن الواحد بالبديل؟ البديل ليس شيئا توجد وصفته الجاهزة سلفا بشكل كامل في جيب النقابة أو الوزير، وما على هذا الأخير إلا وضعها موضع التنفيذ.  البديل الإصلاحي للتعليم، هو بناء "ينبثق" منك ومني ومن آلاف الأساتذة والتلامذة والمختصين في علوم التربية والتعليم.

3.     مفهوم "ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي " (L’Épigenèse cérébrale):
يجمع هذا المفهوم بين المفهومين السابقين: "يتفاعل" الموروث والمكتسب داخل خلايا المخ البشري فـ"ينبثق" منهما الذكاء. لا نستطيع أن نعرف مَلَكَة الذكاء البشري مسبقا وإلا لكان كل أولاد العباقرة عباقرة بدورهم. فالذكاء إذن هو 100 %  موروث بيولوجي و100 % مكتسب حضاري. لا يولد الإنسان ذكيا أو غبيا (إلا في بعض حالات التخلف الذهني الوراثي أو الجيني). "قد" يصبح الإنسان ذكيا لو توفر له المحيط المناسب والاستعداد الجيني ولو كدّ واجتهد.

4.     مفهوم "التعقيد" (La Complexité):
 قد يتبادر إلى ذهن جل المدرسين, ابتدائي وثانوي, أن تبسيط المعارف بجميع أنواعها قد يساعد التلميذ على تقبلها بسهولة. لكن يبدو أن مربينا نسوا أو تناسوا أن تبسيط المفاهيم العلمية قد يجر التلميذ إلى الخطأ وهذا الخطأ قد يرسخ في ذهن التلميذ فيصعب علينا إصلاحه لأن التصوّرات غير العلمية لا تتغير ولا تنهزم بسهولة. العلم معقد بطبيعته لكن المدرس المتمكن هو الذي يقدمه في وضعية تعلمية تراعي مستوى التلميذ دون أن تُفقد العلمَ تعقيداته.

5.     مفهوم "المقاربة الشاملة" (Approche systémique):
تركّز هذه المقاربة على التفاعلات بين كل العناصر، وتعتمد على الإدراك الشامل للمشكلة أو القضية فتتناولها من جميع جوانبها وجميع زواياها دون إهمال لأي جانب أو زاوية منها مهما بديا ضعيفين. تتعامل "المقاربة الشاملة" مع عدة مجموعات من المتغيرات في نفس الوقت. هي مقاربة ناجعة في التعليم الحديث تعتمد "بيداغوجيا المشروع"  أو تعّلمات المواد المشتركة: يبحث التلميذ على حل إشكالية علمية،  والحل يتطلب معارف من مادة علوم الحياة والأرض ومادة الفيزياء. يَحضُر التلميذ في المخبر لإتمام مشروعه بنفسه تحت إشراف أستاذ العلوم وأستاذ الفيزياء في نفس القاعة. يُطبَّق هذا المشروع بنجاح في التعليم الثانوي بفرنسا لأن الدولة وفرت له التجهيزات الضرورية، أما في تونس فنحاول تطبيقه بصعوبة كبيرة في الإعدادي لسببين اثنين, أولا عدم توفّر الفضاء اللازم وعدم اقتناع الأساتذة بجدواه، عدم اقتناع ناتج عن نقص في تكوينهم في علوم التربية.

6.     مفهوم "تداول النماذج التعلمية بيسر" (Jongler avec les modèles d’apprentissage):
يَغرق الأستاذ في كثرة النماذج والطرق التربوية ويحاول تطبيق أفضلها. نذكر من بين هذه النماذج, المدرسة البنائية لـ"بياجي" والمدرسة البنائية الاجتماعية لـ"فيڤوتسكي" والمدرسة السلوكية لـ"سكينر" والتلقين والتقليد والمحاضرة المباشرة وغيرها. لا يمكن التفضيل علميا بين كل هذه النماذج لأن كل واحد منها يصلح في وضعية لا يصلح فيها الآخر, مثلا: المحاضرة المباشرة تبلِّغ المعلومة عندما يكون مستوى الباث والمتلقي متقاربين مثل المتفقد والأستاذ. يكتسب المتدرب الجديد لدى الحدّاد أو النجار أو الميكانيكي مهارته بالتقليد. يحفظ الصغير القرآن في الكتّاب بالتلقين. في بعض الوضعيات التعلمية، يتعلم التلميذ في الابتدائي بالمكافأة والحرمان. يرتقي المتلقي إلى مستوى ذهني أعلى عندما يبني معارفه بمشاركة أستاذه وأقرانه. يتملك التلميذ معارفه عندما يراجعها وحده في المنزل.

7.     مفهوم "نفي الحتمية البيولوجية والجينية" (Anti - Déterminisme biologique et génétique):
         هذه النظرية تنفي نظرية "الحتمية البيولوجية" (Déterminisme biologique et génétique ونظرية "الحتمية البيولوجية" تنفي بدورها تأثير المحيط على عمل الجينات أو المورّثات وتقلّل من دور المكتسب خلال التجارب الحياتية والتعليمية. تؤمن نظرية "الحتمية البيولوجية" بتأثير الموروث فقط وتهمل التفاعل الذي يحصل بين المكتسب والموروث. ترفع "الحتمية البيولوجية" من شأن "الموهبة" وتحط من شأن التدرّب والاجتهاد. نحن نعرف أن الاستعدادات البيولوجية الموروثة عند البشر ليست متساوية لكننا نعرف أيضا أن العمل والاجتهاد والمثابرة تشارك في صنع ما يسمّيه عامة الناس "الموهبة". الموهبة هي القدرات الذهنية العالية المتوفرة عند بعض الناس: نقول مثلا أن هذا التلميذ "موهوب" في الرياضيات, ماذا يعني "موهوب"؟ هل وُلد وهو قادر على حل المسائل الرياضية المعقدة! طبعا لا! هل كُتبت في جيناته مبادئ الرياضيات؟ طبعا لا! إذن، أصبح قادرا ولم يولد قادرا, اكتسب القدرة الرياضية أثناء تعلّمه وتدرّبه ولم يرثها عن والديه، لكن قد يكون ورث عنهما استعدادا جينيا غير حتمي الغاية. لو وُلد عالم الرياضيات والفيزياء المشهور "انشتاين" مثلا في الصحراء وعاش مع الرعاة ولم يدخل المدرسة لأصبح في أحسن الحالات راعيا ماهرا للجمال والماعز، لكنه ولحسن حظه ولد في ألمانيا وتعلم في جنيف وبنا علمه بمساعدة فريق من العلماء في أمريكا فأصبح موهوبا ولم يولد موهوبا رغم استعداداته الوراثية الذاتية لتقبل العلم والمعرفة.

خلاصة القول:
بكل حب و لطف أحُث الشباب على مواصلة تعليمهم العالي في المرحلة الثالثة مبكرا حتى يبقى في العمر متسع للبحث والبناء العلمي ولا أقول الاكتشاف لأن العلم ليس جزيرة مهجورة نكتشفها صدفة. العلم كدّ وجدّ وجهد وبحث وتمحيص، نبنيه لبِنَة لبِنَة بمساعدة الآخرين وفوق أساس متين متكوّنٍ من الموروث الحضاري المكتسب عبر تاريخ البشرية. لم يتغير المخ البشري بيولوجيا منذ عهد الفراعنة أو أبعد من ذلك لكن القدرات الذهنية عند الإنسان قفزت قفزة عملاقة بفضل التراكم الحضاري البشري الأممي.

إمضائي
لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه. عبد الله العروي.
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه ويثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي.





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire