mardi 16 octobre 2018

شهادة على العصر: تجربتي كأستاذ تونسي متعاون في الجزائر (جزء 2: سبع سنوات إقامة في جنوب الجزائر بمدينة جامعة ولاية وادي سوف). بقلم مواطن العالم د. محمد كشكار


تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 7 ماي 2010.

في السنة الثانية إعارة, سافرتُ عبر الحدود الجنوبية مرورا بتوزر ونفطة وحزوة. اجتزنا الديوانة التونسية بسلام وبعد كيلومترين وجدنا الديوانة الجزائرية في انتظارنا بالورود والطبل والمزمار, ألسنا عربا أشقاء وأجوارا اشتركنا في مقاومة الاستعمار الفرنسي واختلطت دماؤنا في ساقية سيدي يوسف التونسية؟ لا يوجد بيت راحة. ماء في صهريج تحت الشمس يذكرني بالصهريج الفارغ لتهريب الفلسطينيين في قصة غسان كنفاني "رجال تحت الشمس". صفّ طويل وانتظار تحت شمس الجنوب في شهر أوت دام أربع ساعات. موظفون يلعبون الورق وحتسون المشروبات المثلجة ويقهقهون غير مبالين بالمواطنين، وهل نحن مواطنون في هذا الوطن؟ نقلتُ المشهد لزميلي الأستاذ الفلسطيني المتعاون بمدينة جامعة, فقال معلقا: المحتلون الإسرائيليون لا يعاملون الفلسطينيين المارين عبر المعابر مثل ما يعاملكم جيرانكم شرطة حدود الجزائر وديوانتها. كانوا يفتشوننا ويحجزون حتى جريدة الصباح خوفا وحماية للدولة الجزائرية القوية من الانهيار لو دخل عدد واحد من جريدة الصباح ولم يكن يخطر على بالهم ظهور المهدي المنتظر وهو الـ"فايسبوك" الذي نقلنا حقا من الظلمات إلى النور ونصرنا على القوم الظالمين فأصبحنا بقدرته اليوم (2010) ندخل الجزائر صباحا مساء وحتى يوم الأحد دون استشارة شرطي يحمل في جمجمته مخا وهو لا يحتاج أكثر من نخاع شوكي ينظم ذهابه إلى دورة المياه.
وصلتُ مدينة جامعة بالجزائر وللأمانة رحّبتْ بي السلط الحزبية المحلية ترحيبا جيدا. التحقتْ مباشرة للسكن مع أستاذين تونسيين قديمين في المنطقة. كان الحي مخصصا لرجال التعليم وكان السكن مجانيا للجزائريين والأجانب والماء أيضا مجانيا للجزائريين والأجانب والجولان مجانيا لسيارات الجزائريين وسيارات الأجانب, لا ندفع المعلوم السنوي للجولان في الجزائر. هذا من بقايا اشتراكية بومدين ومكاسبها، اشتراكية أنتقدها في جوانب أخرى مثل غياب الديمقراطية وكبت حرية الصحافة والتسرع في التطبيق.
سبق وأن قلتُ أنني انتدِبتُ كمدرس علوم الحياة والأرض بالفرنسية لكن أصبحتُ أغيّر الاختصاص كما تغير الحرباء لونها. بدأتُ عملي في إعدادية مدينة جامعة كمدرس للعلوم التطبيقية الفلاحية. كنا أنا وُ تلامذتي نفلح الأرض وُ نزرع البطاطا وُ الفول وُ نجني ثمارها لكن لا نأكلها. بعد عام بدأتُ أدرّسُ التكنولوجيا وكيفية استعمال سخان الحمام وغيره من الآلات, اعتمدتُ في تحضير دروسي على كتب رسمية تونسية في التقنية لغياب البرنامج والكتب الجزائرية في هذا الاختصاص. انقرضَ تعليم العلوم بالفرنسية في عامي الرابع من الإعارة فاقترح عليّ صديقي المدير تدريس اللغة الفرنسية في نفس الإعدادية فقبلتُ ووافقتْ الوزارة الجزائرية وتجدد عقدي لمدة أربع سنوات أخرى بمجرد تزكية من المدير. المدير وما أدراك ما المدير, أصفه لكم بكل دقة وأمانة وهو داخل صباحا لمدرسته: كان بدينا لحد الإفراط, يرتدي قميصا خارجا من سرواله وينتعل في قدميه "شلاكة نيلون بنصف دينار تونسي" وفي يده "قرطاس فول مدمس" يأكل البذرة ويلفظ القشرة على الأرض مباشرة بقوة دفع رهيبة. لا تغرّكم المظاهر ولا تحكموا بسرعة على البشر فهذا المدير طيب جدا ومتكون جدا, دون مبالغة,  فقد كان قادرا وعن جدارة وتفوق أن يعوض أي أستاذ يتغيب وفي أي اختصاص ويؤدي المهمة أحسن من الأستاذ المتغيب نفسه.
تعلمتُ السياقة في الجزائر وحصلتُ على رخصة في الوزن الخفيف والثقيل وعلّمتُ قانون الطرقات مجانا وبمنزلي للكثيرين من الجزائريين الأمّيين.
في عامي الثاني بمدينة جامعة، اشتريتُ بالحاضر, سيارة مستعملة وثلاجة وموقد طبخ حديث وتلفازا بالألوان وسريرًا كبيرًا وغسالة أوتوماتيكية. أثناء عطلة الشتاء، تزوجتُ بتونس من الجميلة والرقيقة سهام الرحال. وفّرتْ لي المدرسة الجزائرية فيلاّ للسكن تابعة للمؤسسة دون كراء ولا فاتورة ضوء ولا فاتورة ماء، وكما يقول المثل التونسي " اغسل ساقيك وادخل" وفي جانفي 1983 دخلتُ أنا وزوجتي في شهر عسل شتوي ثابت ومتواضع لكنه دافئٌ.
كنتُ مقاطعا الجلوس في المقاهي، أسهرُ مع زملائي الجزائريين والفلسطينيين في ساحة الحي الشبه مجاني السكن ومجاني الماء (كان نصف الحي مجاني السكن ونصفه الآخر شبه مجاني لأن كراء فيلاّ كان بـ200 دينار جزائري (أي 20 ألف مليم جزائري، الدينار الجزائري هو بمثابة  100 مليم عندنا في تونس), يقابلها في السوق السوداء ة 4 دنانير تونسية (أي 4 آلاف مليم تونسي). كنا نفترش الرمل الصحراوي الناعم النظيف الدافئ ونتجاذب أطراف الحديث والنقاش دون تمييز في الجنسية لقرب لهجتي من لهجتهم الجنوبية. كانوا يعشقون رئيسهم السابق الهواري بومدين ولا يقبلون النقد فيه. لا يحبون رئيسهم الشاذلي بن جديد وكنتُ أنا على العكس, لا أوافق  بومدين في ديكتاتوريته ولا في طريقة تطبيق اشتراكيته رغم إيماني الراسخ بوجاهة بعض ما جاءت به النظرية الاشتراكية لو غيرنا فيها الديكتاتورية بالديمقراطية والثورة بالتغيير المتدرج في المفاهيم والتصورات. أحترم بن جديد لشعره الأبيض ولبساطته ولتوفُّرِ مستلزمات الحياة في عهده. كان عهدا ذهبيا بالمعنى النفعي للكلمة, في عهده، تمتع الجزائريون بالأمن والعيش الكريم بعد ما قُمِعوا في العهد الذي سبقه وقُتِلوا في العهد الذي لحقه.
على ضوء القمر وكاس الشاي الأخضر الخفيف و"الحمص المعاود" التونسي الذي يعشقه زملائي الجزائريون, كنا قرابة عشرين أستاذا نناقش خبر تأسيس المغرب العربي خلال اجتماع الرؤساء المغاربة الأربعة في المغرب الأقصى في الثمانينات. كان كل زملائي متفائلين ومصدقين الوعود وكنتُ أقول لهم: لا تصدقوا الأقوال قبل أن تروا الأفعال، فالسوق الأوروبية المشتركة نشأتْ على المستوى الاقتصادي والثقافي قبل أن تنتقل إلى المستوى السياسي أما نحن فبدأنا من القمة وبحول الله ستنكسر رقابنا وسنتدحرج من الأعلى إلى أسفل السافلين. وها قد مر الآن على التأسيس والحفل الضخم قرابة ربع قرن ولم يتحقق لا مغرب عربي كبير ولا صغير بل اشتعلت الحرب الأهلية في الجزائر وحصدت مائتي ألف جزائري بأياد جزائرية وطنية خالصة مائة في المائة.
كان زميلي الفلسطيني الأستاذ المتعاون بالجزائر المذكور أعلاه وهو من سكان غزة يتدخل في النقاش أحيانا وبحرقة شديدة تستشفها من نبرة صوته بدأ يقارن بين عهد الاحتلال المصري المباشر لغزة قبل 67 وعهد الاحتلال الإسرائيلي المباشر بعد هزيمة 67. قبل 67, كانت الفوضى تعم القطاع تحت الحماية المصرية وكان الفدائيون الفلسطينيون, أبطالا في نظر العرب وقطّاع طرق في نظر الغزاويين, كانوا يَقُظّون مضاجعنا نحن المدنيين الأبرياء العزل ويفرضون علينا سيطرتهم بقوة السلاح الذي يحملونه، صوّبوه ضدنا ولم يصوّبوه ضد العدو. قبل 67, لم يكن الأمن مستتبا لا في القطاع ولا في الضفة والقدس الشرقية. بعد 67, جاءت إسرائيل بجيشها وجبروتها ففرضت القانون والأمن ودخل المجاهدون المزيفون جحورهم وأصبح العمال الفلسطينيون يتوافدون على إسرائيل 48 بمئات الآلاف يكسبون لقمة عيشهم من عرق جبينهم في بناء المستوطنات وزراعة الأراضي الفلاحية لصالح اليهود الصهاينة المحتلين القادمين من بولونيا وروسيا وأمريكا والمهجّرين من الدول العربية التي جبنت أمام جيش الهجوم الإسرائيلي واستأسدت ضد رعاياها اليهود الأبرياء العزل وأجبرتهم بالقوة على مغادرة أوطانهم العربية وحولتهم من يهود عرب مسالمين في أغلبيتهم إلى صهاينة معادين لنا نحن الفلسطينيين فقط (حوالي 900 ألف يهودي عربي)، ثم يضيف زميلي الفلسطيني معتذرا عن جلد الذات الفلسطينية العربية: لا تأخذوا كلامي هذا على أنه تجميل للوجه القبيح للاحتلال الإسرائيلي بل هو تقبيح للوجه المجمّل للاحتلال المصري للقطاع والأردني للضفة قبل 67. الإحتلال الإسرائيلي هو تمييز عنصري واضح بين اليهودي والعربي أما الاحتلال العربي فهو تمييز متخف أشد عنصرية لأنه يميز بين عربي وعربي وبين مسلم ومسلم لم يميز الله بينهما إلا بالتقوى. بعد أن أتم زميلي الفلسطيني سرد شهادته على العصر, عصر الانحطاط العربي, ألقيتُ عليه السؤال التالي: لماذا لم تطالبوا قبل  67 بالاستقلال التام والتخلص من الاحتلال المصري لغزة والاحتلال الأردني للضفة والقدس الشرقية وتبنوا دولتكم المضيّقة وعاصمتها القدس الشرقية قبل أن تحتلها إسرائيل في 67؟ نسيتُ أو تناسيت جوابه لأن لا أجرح شعوركم أكثر مما هو مجروح.
معاهد مدينة جامعة جمعت أساتذة متعاونين من 8 جنسيات مختلفة: 5 مصريين و3 فرنسيين وايرلنديا وباكستانيا وفلسطينيين وسوريا و7 تونسيين وعراقيا. استدعتنا مرة مديرية الأمن بولاية وادي سوف في يوم واحد لأمر يهمنا دون ذكر السبب بالتفصيل فتغيبنا كلنا والتحقنا بدار الأمن على بُعد مائة كيلومتر من مدينتنا, وصلنا الثامنة صباحا, دخلنا, سألونا: هل غيرتم محل إقامتكم؟ أجبنا جميعا بلا. قالوا لنا شكرا ومع السلامة. ضاع يوم دراسة على التلامذة الجزائريين بسبب غباء ضابط أمن جزائري كان أجدر به أن يطلب المعلومة هاتفيا.
كانت الجالية التونسية, أكبر جالية أجنبية في مدينة جامعة,  تتكون من ست عائلات, أربعة أساتذة وبائع فطائر مقلية وسائق شاحنة. كنت الوحيد الذي يملك سيارة (R14). كان زملائي الثلاثة يستلفونها لقضاء حوائجهم ولم أكن أمانع. اقترحوا عليّ تحويلها إلى ملكية مشتركة فقبلتُ فورا. قدّرنا ثمنها بمليون مليم تونسي وكل واحد ساهم بربع مليون. بقيتْ البطاقة الرمادية باسمي. حرّرنا شفويا في شأنها كراس الشروط التالية: إصلاح العطب مشترك أيا كان المتسبب فيه ومهما كان مكان وقوعه، في تونس أو في الجزائر. ثمن البنزين مشترك في حدود شعاع 50 كلم من مدينة جامعة ولو تباعدت المسافة يتحمل السائق مقابل الوقود الزائد المستهلك. تبيتُ السيارة أمام منزلي أنا مهما كان توقيت رجوع المسافر وتنطلق من أمامه مهما كانت ساعة الانطلاق. إذا رغب أحدنا في فض الشركة, يسترجعُ مبلغ مائة دينار تونسي بعد بيع السيارة في التوقيت الذي يحدده الباقون. تدرّبَ عليها لنيل رخصة السياقة أربعة تونسيون, زوجتي  وزميلي وزوجته، وزميلتنا، حتى تقطعت أوصالها وهرمتْ. حسدَنا المصريون على اشتراكيتنا وتفاهمنا وقد كانت تجربة فريدة في التاريخ ولو حدث ونسج على منوالنا الكثير من الموظفين في العاصمة التونسية القادمين إلى العمل من الأحواز  لوفرنا الكثير من الطاقة وحمينا بيئة عاصمتنا من التلوث وطبقنا التنمية المستدامة. يذهبُ الموظف التونسي الفقير في بلد العالم الثالث إلى عمله البيروقراطي غير المنتج في أغلب الأحيان وهو راكبٌ عربة تجرّها 4 أحصنة ( voiture populaire de 4 chevaux ) وهو في الواقع حصان واحد خسارة فيه. لماذا لا يتفق 4 أو 5 موظفين جيران, مثلا من حمام الشط، ويشتغلون في العاصمة بالتوقيت الإداري, على  استغلال سيارة أحدهم  أسبوع " أ" وسيارة آخر أسبوع "ب" فيربحون راحتهم ويوفرون ثمن البنزين ويتجاذبون أطراف الحديث في الطريق حول الكرة والمسلسل التركي وتنازلات عباس وعنتريات أردوڤان الفارغة ووعود أوباما بتحرير فلسطين والمقاومة الافتراضية التي يقوم بها يوميا حزب الله وحماس والجبهة الشعبية أو يناقشون وضع العمال المصريين  المسجونين في السعودية الذين بلغ عددهم تقريبا  12 ألف وهو عدد يساوي أو يفوق حسب بعض الإحصائيات عدد السجناء الفلسطينيين في إسرائيل ويجيبون على نكستي وهزيمتي وحيرتي وسؤالي: هل نحرّر السجناء المصريين في السعودية أولا أو الفلسطينيين في إسرائيل أولا؟ وهل نلجأ في تحريرهم إلى الجامعة العربية أو إلى مجلس الأمن أو إلى المؤتمر الإسلامي أو إلى المقاومة الافتراضية لحزب الله وحماس؟
اصطحبتُ زوجتي إلى الجزائر، بعد عامٍ وَلَدَتْ فيها بنتا مثل القمر, سمّيتها عبير من عبير الجنة. دخلتْ زوجتي المستشفى في مدينة جامعة ولم يطلبوها في دفتر العلاج ولا جواز سفر ولا حتى بطاقة تعريف. سألوها عن اسمها فقط. وَلّدَها في ظروف طيبة طبيبٌ مصري متعاون وكفء. لم أدفع مليما واحدا في الدخول و لا في الخروج وهذه تُعَدُّ من مكاسب الاشتراكية التي أتمسك بها وتخلت عنها مع الأسف المر والشديد الدولة الجزائرية واتبعت نصائح البنك الدولي مثلها مثل كل أخواتها التابعات المطيعات المهذبات في تعاملهم مع صندوق النهب الدولي والمخربشات النمرات القامعات النافيات لكل الحريات والكامتات لكل الأصوات والمانعات لكل التجمعات والمحبِطات لكل أملٍ قد ينبثقُ من الشعب العربي الكريم، كريم في سخائه وعطائه وتمسكنه واستقالته وتسليمه السلطة لمدة 14 قرن لأسياده واحتفاظه بالألقاب الرنانة الفارغة كالشعب العظيم  والشعب الكريم ونموت نموت ويحيا الوطن. إذا مات المواطن فبمن ولمن سيحيا الوطن يا ترى؟
تمت دعوتي مرة إلى مديرية الأمن ببسكرة  لاستخراج بطاقة الرعايا الأجانب لزوجتي الوافدة الجديدة وكنتُ قد احتطتُ للمناسبة، حملتُ معي كل الأوراق اللازمة، قدمتُها للموظف فتمعّن فيها جيدا   ثم قال لي: ملفك تنقصه ورقة مهمة. قلتُ: ما هي؟ قال: شهادة معرّفة الإمضاء تشهد فيها أنك تُطعم وتُسكّن زوجتك معك. قلت متعجّبا: وهل يُعقل أن تأكل زوجتي وتبيت عند الجيران؟ أجابني بغلظة وحزم: نحن نطبق القانون. كتبتُ الشهادة الغريبة على ورقة بيضاء، ذهبتُ إلى البلدية طالبا التعريف بالإمضاء فضحكوا عليّ, لكن ختموا عليها بسبعة أختام، حملتُها إلى المركز ورجعت بزوجتي أطعمها وأسكّنها بشهادة ضابط أمن جزائري ثانٍ أغبى من المذكور سابقًا.
كان أهل مدينة جامعة كرماء معنا وأذكرُ منهم خاصة مدير الدائرة الحزبية الذي كان يدعونا لوجه الله كل أسبوع إلى وليمة عربية فاخرة في منزله دون أن ينتظر منا جزاء أو شكورا. بعد عودتي بسنوات سمعتُ أنه أصبح نائبا في مجلس النواب وبلغني أيضًا أن  مصباحا كهربائيا انفجر في وجهه صدفة في بهو المجلس ففقد بصره ومات بعد سنة تقريبا. رحمة الله عليه وجازاه الله خيرا على كرمه الحاتمي الجزائري ويا ليت مسؤولينا يفعلون مثله مع ضيوفنا الأساتذة الأجانب.
كنتُ بين جيراني الأساتذة السوافى (نسبة إلى وادي سوف) كالسمكة في الماء وصدّقتُ بالفعل أننا شعبٌ واحدٌ, أعني السوافى والنفزاوات (نسبة إلى نفزاوة ولاية ڤبلي). لهجتنا واحدة وتقاليدنا مشتركة وتمورنا متشابهة كلون بشرتنا.
كان زمن بن جديد زمن الوفرة والأمن و الأمان. كنا نشتري السكر بالكيس وبسكويت الڤوفرات بالكرتون. كانت البقول رخيصة والخضر والفواكه متوفرة في السوق والسمك المثلج المستورد معروضا بأثمان بخسة في المغازة الكبرى (Les galeries). أما "الموز بالصندوق" فلم أره ولم أشتره إلا مرة واحدة في الثماني سنوات التي قضيتها في الجزائر وكانت "شبعة موز" فريدة من نوعها. وزّعوه علينا في المدرسة حسب الاختصاص وما دمت من العلوم وهي أقرب للموز من الرياضيات فقد كانت حصتي أكبر حصة. الحمد لله, اليوم 2010, أشتري 5 موزات كل أسبوع على عدد أفراد العائلة وموزة واحدة في الأسبوع خير من تخمة واحدة في ثماني سنوات.
مدينة المرّارة مدينة صغيرة تقع قرب مدينة جامعة, تنازع أهلها مرة حول تقسيم الأراضي بين العروش والقبائل ولم يكن لدى البلدية ولا الولاية ولا الرئاسة أي مثال هندسي ينظم عملية التقسيم. فكّر المجلس البلدي المحلي في حل النزاع ودون المرور بالتسلسل الإداري الجزائري, راسل مباشرة الدولة الفرنسية, المستعمر القديم, طالبا مثالا هندسيا يحدد ملكية كل قبيلة وحدودها. أمدّته السلط الفرنسية مشكورة بخريطة مفصلة لكل الأراضي ببلدية المرّارة. أصدر الوالي الجزائري قرارا بحل المجلس البلدي بالمرارة عقابا له على الاستقواء والاستنجاد بالأجنبي لحل نزاع وطني.
نصّبوا مجلسا بلديا جديدا بالمرّارة وجاء الرئيس بن جديد لزيارة المرّارة لتأكيد حضور الدولة الجزائرية. اعترضت المجلس البلدي الجديد معضلة جديدة, ألا وهي و جود آليات ضخمة وعالية على جنب الطريق الذي سيمر منه ركب الرئيس الوطني وهي بقايا مهملة لمشروع فاشل للتنقيب على المياه، تتطلب إزالتها ميزانية ضخمة قد ترهق المجلس الفتي لكن احتمال إمكانية مشاهدتها من قِبل الرئيس عند مروره قد تعرِّض المجلس البلدي الجديد إلى مساءلة قانونية. فكّر المجلس الموقر مليا في حل وطني ولم يلجأ هذه المرة إلى المستعمر الفرنسي بل استنبط حلا وطنيا خالصا يتمثل في ردم كل الآليات التي يُقدَّرُ ثمنها بالملايين، أهالوا عليها الرمال حتى لا يراها الرئيس، مَرّ الرئيس بسلام ودُفِنت أموال الشعب تحت التراب و ما زالت إلى الآن رائحة البيروقراطية النتنة تنبعث من مقبرة المشاريع الكبرى وتزكم الأنوف.
يوم 16 جوان 1988, ولد ابني الثاني في مدينة جامعة في المستشفى في ظروف طبية طيبة ومجانية مثل ولادة ابنتي الأولى عبير. ذهبتُ إلى مقر البلدية لتسجيله وقد اخترنا له, أنا وأمه, اسم "نادر". سألني الكاتب عن الاسم فقلت "نادر". أجابني: هذا الاسم ليس موجودا في كتاب الأسماء وهو اسمٌ غير عربي، لذلك لن  نقبل تسجيله بهذا الاسم، ومن الأفضل لك، وبسرعة، اختيار اسم آخر. لم أصدّق ما سمعتُ، دفع تجاهي  كتاب الأسماء. قرأته، تفحصته فلم أجد "نادر" ولكنني وجدتُ فيه أسماء عربية وأخرى تركية أو فارسية مثل "بهجة" و"شوكة" و"دنيا زاد" و"شهرزاد". حاولتُ إقناعه بأنني لستُ جزائريا ومن حقي اختيار الاسم حسب القانون التونسي وليس حسب كتابكم غير المنزّل. أجابني بلغة البيروقراطي الذي ليس له أدنى استعداد للتفاهم: أنتَ لستَ أجنبيا, أنت عربي. قلت له مستغربا: كيف لا نجد في كتابكم  اسم "نادر" وهي كلمة عربية مشتقة من فعل نَدَرَ ونقول ندر الشيء أيّ قل وجوده. ردّ عليّ مغتاظا: أتريد أن تسجل ابنك أو تتركه في المستشفى دون اسم. لعنتُ الشيطان الرجيم ونظرتُ من النافذة الشفافة وكان المطر ينزل في الصيف فأوحى الطقس إلى ذهني اسم "غيث" فقال لي: موجود في الكتاب. خرجتُ فرحا بابني, نادرا كان أم غيثا وبعد أربعة عشر سنة قدم ابني الثالث وكنت في تونس فأسميته "نادر" وثأرت لنفسي من العبد المأمور كاتب البلدية الجزائري المغمور... والتشويقُ ينتهي غدًا في الجزء الثالث وعنوانه "غايةُ العَقدِ ومشقّةُ العودةِ النهائيةِ إلى تونسَ".


إمضائي
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
Aimer, c`est agir. Victor Hugo

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire