lundi 15 octobre 2018

شهادة على العصر: تجربتي كأستاذ تونسي متعاون في الجزائر (جزء 1: عام إقامة في شمال الجزائر بمدينة زيروت يوسف ولاية قسنطينة). بقلم مواطن العالم د. محمد كشكار



تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 7 ماي 2010.

التحقتُ عام  1980 بــ"إعدادية زيروت يوسف" ولاية سكيكدة وكان عمري 28. وصلتُ القرية مساء. لا يوجد بها نُزْلٌ. قضيتُ ليلتي في الحمام التركي بالقرية ونمتُ على حصيرة. توجهتُ باكرا إلى المدرسة الإعدادية وقابلتُ المدير. كان جزائريا بربريا (أي أمازيغيا أو قبائليا) يتكلمُ الفرنسية فقط في زمن تعريب التعليم الجزائري. كان دعاة التعريب من الوزراء والمسؤولين الكبار يبعثون أبناءهم يدرسون التغريب بالخارج حفاظا على عقول فلذات أكبادهم من التخريب الوطني المبرمج مع سبق الإصرار والترصد بلغة القانون.
انتدبوني لتدريس العلوم الطبيعية بالفرنسية لآخر دفعة نجت من نظام التعريب. نعم أقول نجت لأن التعريب يساوي تجهيلا وتفقيرا لثقافة الأستاذ والتلميذ  وخاصة عنما لا نوفّرُ له مراجع علمية بالعربية ولا نحضِّر له أساتذة متكونين بالعربية ولا نطبع له مجلات علمية عربية مختصة يُنشر فيها إنتاجُنا العلمي وإنتاج غيرنا مترجم. كان أستاذ العلوم الجزائري المعرّب أستاذًا غير قادر على مطالعة الكتب المدرسية والمراجع المكتوبة بالفرنسية وغير قادر أيضا على قراءة المجلات العلمية الفرنسية المختصة مثل (La Recherche) أو شبه المختصة مثل (Sciences & Vie) فكان زميلي الجزائري أو الشرقي المتعاون (مصري، سوري، عراقي، أردني) يعتمد في إعداد دروسه على كتاب التلميذ فقط. أما التلميذ الجزائري المعرّب (يدرس الفرنسية كمادة مستقلة ويدرس باللغة العربية كل العلوم الصحيحة والتجريبية والإنسانية) الحاصل على باكلوريا علوم بالعربية والموجّه إلى سنة أولى طب، فيجد صعوبة كبيرة في مواصلة تعليمه الجامعي الطبي المفرنس تماما لأنه غير مؤهل لغويًّا للبحث في المراجع الطبية الفرنسية أو الأنڤليزية. لا توجد في الجزائر مراجع طبية حديثة بالعربية ولا مجلات علمية عربية مختصة أو شبه مختصة.
مبدئيا، أنا من دعاة التعريب ولكن ضد تطبيقه العاجل. علينا, حسب وجهة نظري المحدودة, أن نبدأ بتوفير مراجع معرّبة في كل المجالات والاختصاصات في المكتبات المدرسية والعامة والتجارية وبيع مجلات علمية مختصة معرّبة في حينها في الأكشاك قبل أن نعرّب التعليم. عُرِّبَ التعليم الأساسي والإعدادي والثانوي في الجزائر فخُرِّبَ ولم يُنتِج إلا أجيالا مثقفة بالعربية فقط وهذا غير كاف، أجيالا لا تستطيع أن تبدع وتنتج إلا في مجال الدين, المجال الوحيد المعرّب بالكامل. عُرِّبَ التعليم الأساسي في تونس بفرعيه, الابتدائي والإعدادي, فأصبح في طريقه إلى التخريب أيضا مثل الجزائر.  كنا نظن أننا في تونس أذكى منهم فأبقينا على الثانوي مفرنسا لكن  نسينا أن من يكون أساسه هشّا لا يستطيع أن يُعلّى بنيانه.
كان زملائي الجزائريون المعرّبون المتخرجون حديثا عاطلين بالفعل في اللغة لفرنسية. كانوا يلجئون إليّ مضطرين, يعلو وجوهم الحياء وأنا أيضًا، طالبين منّي كتاية جملة برقية بالفرنسية  أو قراءة مختصر شروط استعمال آلة غسيل أو دواء (notice d'emploi)  . كنتُ أترجم لهم مقالات (le Monde diplomatique) و(La Recherche) و(Sciences & Vie) وكانوا يستمعون إليّ بانبهار وإعجاب شديد لا أستحقّه (أنا ناقل) وكأنني بابلو نيرودا  يلقي شعرا في ثوار اسبانيا الشيوعيين.
أسكَنوني مع أستاذ عراقي وآخر سوري. كان العراقي شيوعيا هاربا من صدام ومحكومًا عليه غيابيًّا بالإعدام ككل الشيوعيين العراقيين الفارين الممنوعين من العودة إلى وطنهم الأم. أنا مَدينٌ له فهو أول مَن علّمني كره طاغية بلاده، صدّام حسين، منذ اغتصابه السلطة سنة 1980. أما السوري فكان يخرج من الدار عند إثارة أي نقاش سياسي حول الأنظمة العربية لثقته المرَضية في مخابرات بلاده وقدرتها الفائقة على التصنت دون استخدام تكنولوجيا التصنت.
قسّمنا الأدوار في المطبخ وبدأتُ أنا بمقرونة تونسية حارّة فقال لي العراقي: أنت يا "أبو جاسم" عيّنّاك منذ اليوم غاسلا للأواني ولا شأن لك بالطبخ وبقيتُ على تلك الحال كامل السنة. كان العراقي شاطرا جدا في إعداد الأكل وفي تقديمه أيضا. كان يعزف العود ويدرّس الأنڤليزية. دَرَسَ التصوير الفني بألمانيا الشرقية ودرّسه لاحقًا بمدينة بسكرة بالجزائر. كان قارئا نهما لأمهات الكتب وقد تعلّمت منه الكثير وأوّل مرة في حياتي أشعر بعقدة نقص حضارية إزاء عربي مثلي. كان محروما من الدخول للعراق إثر صدور حكم إعدام غيابي ضد كل الشيوعيين العراقيين في المهجر. كان يذهب إلى سوريا ليقابل أمه القادمة من العراق. كنا في الدار أربعة عزاب, ثلاثة أساتذة  وعراقي صغير, أخ الكبير, لم يتشيّع بعد، وكان وسيمًا كيوسف وكان يدرس في الإعدادي في الجزائر.
رغم كثرة ما حدثني معلّمي العراقي الشيوعي عن الظلم والقهر وكبت الحريات والتعذيب وشرف الإعدام بمسدس القائد, لم يحدثني قط عن الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنة عكس ما تفعله اليوم قناة الجزيرة التي صمّت آذاننا وكأنها تستمتع بالحروب الأهلية العربية. منذ 1980 حكمتُ على تجربة صدام بالإعدام الفكري لأنني ضد الإعدام الجسدي. من يسلب كرامة مواطنيه في بلادهم لا يحق له أن يطالبهم بالدفاع عنها ضد الأعداء الغزاة. بعد عشرين سنة من معاناة الشعب العراقي وعذابه بأياد عراقية صدّامية, وفي 2003، جاء الأمريكان  فوجدوه لقمة سائغة لا قدرة له ولا رغبة في المقاومة. كيف تطلب من مسلوب الإرادة وربيب الذل والقمع لعقدين من الزمن أن ينتفض فجأة ويستبسل في الذود عن دياره وعشيرته وعرضه؟ لا تصدقوا المقولة المشهورة "كر فأنت حر" فعنترة أسطورة نفخ فيها العرب بعد الإسلام كما أكد طه حسين ذلك في كتابه الشهير والمثير للجدل حول الشعر الجاهلي.
ألبَسَ العراقيُّ نوافذنا ستائر فقلت له: أتحداك أن تجد ستائر في بيت عزاب في تونس. كان يحكي لي عن مطاعم دجلة أيام الرئيس البكر وكيف كان يتعشى سمكا ويسكر "عرقا" بـنصف دينار عراقي. كان أبوه يحاكي المنجد ويتحدى أولاده في تفسير أي كلمة أنڤليزية تخطر على بالهم. آمنتُ أن العراقيين شعب متحضر وخاصة بعض العلمانيين البغداديين منهم الذين عرفتهم ولن أنسى أن الحضارة العربية الفارسية الإسلامية في العراق أنجبت وربّت خيرة العلماء في الدين والدنيا.
لم تكن لي علاقات بالجزائريين ولا بالجزائريات إلا للضرورة المهنية أو الحياتية. كنت أقضي أكثر وقتي في المطالعة وذلك بتكليف ودي من قِبل مجموعتي اليسارية الفكرية وليس السياسية بجمنة، تكليف غير إلزامي تنظيميًّا: قرأتُ القرآن وتفسير الجلالين  وصحيحي مسلم والبخاري وظلال القرآن لسيد قطب وشهادة الحق لأبي الأعلى المودودي ونظرات في القرآن للإمام الشهيد حسن البنا وكل أدبيات الإخوان المسلمين بهدف التعرف على الجذور الفكرية لحركة الاتجاه الإسلامي, المولود الجديد فى الساحة الفكرية التونسية بعد ما كانت مرتعا مباحا للشيوعيين والقوميين فقط.
أثناء تواجدي بالجزائر اتصلت بجامعة قسنطينة للتسجيل بقسم الفلسفة حتى أكمل تعليمي العالي. قال لي العميد: ليس لنا أماكن شاغرة في الفلسفة لكن تستطيع التسجيل في الطب على شرط أن تتخلي عن الإعارة أي التدريس. رفضتُ لأنني لا أملك مورد رزق غير التدريس ويا ليتني ما رفضتُ أو ربما أحسن ما فعلتُ لأن الطب يتطلب قلبا كاسحا وأنا قلبي رهيف وحساس. كان الطلبة التونسيون بالجزائر يهرّبون سراويل "دجين" وينفقون من فارق الثمن وفارق العملة في السوق الموازية.
جاءتني برقية عاجلة من فرنسا تعلن وفاة زوج أختي الكبيرة بباريس. ذهبتُ إلى بنكي في مدينة سكيكدة لأسحب مبلغا بالفرنك الفرنسي. قال لي الموظف: لا يوجد عندنا سوى البيزيتاس العملة الاسبانية أو الليرة الإيطالية. التجأتُ إلى حلاّل المشاكل زميلي الحاج الفلسطيني الذي كان يؤجّر سيارته وهو سائقها في الأفراح ويأخذ أولاده الخمسة يأكلون  مجانا في الولائم. اتصل بالموظف البنكي الجزائري وقال له: صديقنا بن علي, و كنت حينذاك أحمل لقب بن علي, ذاهب إلى فرنسا فماذا تريد أن يجلب لك كهدية, قال: دجين. حضرتْ الفرنكات فورًا وسافرتُ. اشتريتُ له دجين بـ80 فرنكا فرنسيًّا أي ما يساوي تقريبا 8 دنانير تونسية فأصبح بعد الرشوة يقوم من كرسيه ويستقبلني بالأحضان وأنا داخل للبنك. ما أرخص قيمة بعض الموظفين الجزائريين في ذلك الوقت وكانت أول رشوة وآخر رشوة أدفعها في حياتي. كان بعض التونسيين يقضون حوائجهم ويرشون بعض الموظفين الجزائريين حتى بقطعة صابون تونسية نوع لوكس.
أسستُ في المدرسة الإعدادية بزيروت يوسف نادي قصة على منوال النادي الذي كنت أنشطه في إعدادية غار الدماء بتونس. بعض زملائي الجزائريين الحزبيين الموالين من  حزب جبهة التحرير الجزائرية اتهموني ظلما بشتم الشعب الجزائري في هذا النادي الناجح فأبعدتني وزارة التربية الجزائرية في نقلة عقاب إلى مدينة جامعة ولاية وادي سوف بالصحراء الجزائرية.
أردتُ زيارة مكان عملي الجديد قبل الرجوع إلى تونس في العطلة الصيفية. ذهبتُ إلى مدينة قسنطينة لأستقل الحافلة إلى مدينة بسكرة حيث توجد الإدارة الجهوية للتعليم بالجنوب. وصلتُ إلى محطة الحافلات فوجدتُ صفا طويلا كالعادة أمام شباك التذاكر. أخذتُ مكاني في الآخر والناس يتدافعون دون سبب ظاهر. بعد ساعة من الانتظار المتحرك أصبحتُ الثاني في الصف. دفعني الثالث بضربة كَتِفٍ وأزاحني من أمامه وأخذ مكاني. لم أرد الفعل وعدتُ بكل برودة دم إلى آخر الصف حتى لا أهدر طاقة في غير محلها. احتج عوضي الجزائري الأول في الصف وحلف بأغلظ الأيمان أن يقتطع لي تذكرة قبل المعتدي وهذا ما حدث فعلا. قال لي منقذي بابتسامة فيها إعجاب واستغراب: "أنتَ, إمّا غير جزائري وإمّا مثقف جدا". أجبتُه: " الصفة الأولى صحيحة وأما الثانية فأحاول الاقتراب منها كل ساعة بكل جهد وعزم مع العلم أنها مستحيلة المنال... والمسلسل يتواصل غدًا في الجزء الثاني وعنوانه "سبع سنوات إقامة في جنوب الجزائر بمدينة جامعة ولاية وادي سوف".

إمضائي
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
Aimer, c`est agir. Victor Hugo

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire