تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 2 أكتوبر 2011
عندما
طالبتُ في مقالاتي الفيسبوكية السابقة بتطبيق النموذج التعليمي الفنلندي - النموذج
الحالي المجاني والأفضل والأنجع في العالم -
في تونس 2011 بعد ثورة 14 جانفي 2011، ردَّ عليّ أصدقائي وقرائي، المثقفون
منهم والمتعلمون، ووصفوني بأبشع الصفات، أذكر منها - على سبيل الذكر لا الحصر - الخرف
العمري، المثالية الأفلاطونية، الخبل، الجنون، الفوضوية السياسية، الحماقة،
السخافة، القصور الفكري، الجهل المطبق، الاستشهاد بالنماذج التربوية الخارجية، إهمال
الخصوصية التونسية، استيراد البرامج المسقطة وغيرها من التهم الجاهزة مثل
"هذا على الحساب قبل أن أقرأ الكتاب".
أرجوكم
وأتوسل إليكم وأبوس الأرض تحت نعالكم أن تقرؤوا المقال إلى الآخر لِما فيه - حسب
وجهة نظري المتواضعة والمحدودة بطبيعتها الذاتية - من خيرٍ لتونس المستقبل ولِما
يحويه من إجراءات عملية قد تحقق المنشود بما هو موجود لو تغيرت عقلية "رزق
البيليك" وتكلمنا بعقلية "رزق الشعب يعود بالخير على الشعب".
وُلدت
في 16 نوفمبر 1952 بجمنة من أب تونسي وأم تونسية وأتممتُ دراستي الابتدائية
والإعدادية والثانوية والمرحلة أولى جامعية بتونس. لم أُولَد ولم أعش ولم أدرس
يوما واحدا بفنلندا، نموذج المقارنة. أرجوكم، اقرئوا ردي وإجابتي وقصتي الذاتية
إلى الآخر وتمعّنوا في حججي قبل أن تحكموا لي أو عليّ:
1.
الابتدائي من 1958 إلى 1965:
درستُ
سبع سنوات ابتدائي (رسبتُ بالسنة الرابعة)
بالمدرسة الابتدائية بجمنة التي بناها الاستعمار الفرنسي منذ بداية الخمسينيات من
القرن الماضي وما زالت مربعات أرضية قاعاتها سليمة في حين انهارت جدران قاعات
بُنيت بعدها بـ 50 سنة وبـ"كفاءات" تونسية. كانت المدرسة أجمل ألف مرة
من منازلنا، منحتنا مجانا أقلاما وكتبا وكراريس. أرضعتنا كل صباح في سن السادسة كأسا
من الحليب المجفف الممزوج بالماء وأطعمَتنا عند الغداء وجبة غير متوازنة تتمثل في مقرونة
جارية لذيذة في صحن من "لألومينيوم"، وكنا بصدق ممتنين جدا لعم صالح
محمود الطباخ غير الماهر، كنا جوعانين لا نملك مثلها في منازلنا وقديما قالوا
"الجوع أمهر الطباخين". كانت المدرسة قريبة من ديارنا ولم نكن في حاجة
إلى وسيلة نقل. كنا نستعمل كيسا من القماش الأبيض لنحفظ داخله أدواتنا القليلة،
كيس ورثناه عن عمنا الأمريكاني سام. كيسٌ كان مملوءًا قمحًا، كيسٌ أهدته لنا أمريكا
وكتبت عليه باللون الأزرق "ليس للبيع ولا للمبادلة" وختمته بصورة عَلم
أمريكا.
2.
الإعدادي بڤابس من 1965 إلى 1968 والثانوي بصفاقس وتونس من
1968 إلى 1972:
في أول غربة وسفرة لي خارج
جمنة في آخر سبتمبر 1965، أعطتني أمي دينارا تونسيا واحدا، مصروف الثلاثية الأولى،
وأوصتني أن أقتصد في المصروف ولا أبذّر! ركبتُ إلى مدينة ڤابس في الحافلة العمومية
بـ 600 مليم. وصلتُ بسلام، دخلتُ المبيت المجاني، وبقيتُ أصرف كنز أمي المتبقي
بحكمة كما أوصتني، كنا نحن "البَيّاتَ" (التلامذة المقيمين بالمبيت) لا
نخرج من المبيت إلى المدينة إلا يوم الأحد: دورو (5 مليمات) كل أحد لشراء قطعة
"غْرَيْبَة" (نوع من الحلويات التقليدية) أو كأس "لاڤمي"
(النسغ المحضّر المستخرج طبيعيا من النخلة) أو 20 مليما ثمن قطعة
"هريسة" (نوع ثان من الحلويات التقليدية). لم أكن قادرا ماديا على قطع
تذكرة سينما بـ40 مليما ولم تدخل التلفزة تونسنا بعدُ.
قبل تاريخ العودة إلى مسقط
رأسي جمنة الحبيبة في نهاية الثلاثية، ترسل لي أمي 600 مليم ثمن تذكرة الرجوع في الحافلة
العمومية أو أركب "لوّاج" (سيارة أجرة خاصة) وهي تدفع الثمن المطلوب إلى
السائق الجمني عند الوصول.
كنت تلميذا مقيما مجّانا
بمبيت إعدادية "سيدي مرزوڤ" بڤابس المدينة ثم بمبيت المعهد الفلاحي
ببوغرارة بصفاقس.
2 (1). كنا نأكل مجانا أربع وجبات صحية ومتوازنة وبيولوجية في
اليوم:
فطور الصباح: قهوة حليب مع خبز ومعجون أو زبدة أو حلوى شامية.
الغداء أو العشاء: سَلَطَة خضراء طازجة، طبق رئيسي باللحم
مثل الكسكسي أو اللوبيا (كانت من أحب الوجبات الدسمة إلى قلوبنا جميعا) أو
الجلبانة أو المقرونة أو الملوخية أو الأرز الأبيض أو مرڤة الڤناوية أو مرڤة
البطاطا أو غيرها من الأطعمة التي لم نكن نحلم بها أو لم نكن نعرف البعض منها في بيوتنا
الريفية، أنا لم نكن أعرف الملوخية والأرز الأبيض ومرڤة القناوية. كنا نعرف الكسكسي والمقرونة الجارية ومرڤة البطاطا فقط. الفاكهة
التي كان يُختم بها الطعام: برتقال أو موز أو خوخ أو برڤوڤ أو تين أو دلاع أو
بطيخ أو هندي أو رمان أو حلوى شامية أو 4 تمرات دڤلة (كنا نحن النفزاويون نضحك ونسخر
من كميّة هذه "الفاكهة" الأخيرة لسببين اثنين لا ثالث لهما وهما: أولا نضحك
من اعتبار الدڤلة في مصاف الفاكهة يُختم بها الطعام وثانيا نسخر من الحط من شأن شهيتنا
المفتوحة ونهمنا النفزاوي خاصة للدڤلة بإعطائنا
أربع تمرات فقط ونحن متعودون على أكل كيلو دڤلة أو اثنين في الأكلة العرضية
الواحدة بين الوجبات الرسمية).
لمجة السادسة مساء: قطعة شكلاطة بُنية لذيذة جدا مع قطعة خبز.
حادثة غذائية طريفة رقم 1: قد تبدو لكم الحادثة التالية ولأول وهلة وكأنها مركبة منهجيا
أو مبرمجة للهزل لكنها والله واقعية وذات دلالة لأهل الذِّكر والاختصاصيين في
دراسة حاسة تذوق الأطعمة المتنوعة عند البشر وعلاقتها بحاسة الشم وبالمكتسبات
الأنتروبولوجية الحضارية والثقافية أكثر من علاقتها بالوراثة والجينات: في مبيتات ڤابس
وصفاقس وتونس، ثانوي وجامعي، لم أكن آكل البتة الملوخية ولا مرڤة الڤناوية ولا الأرز
ولا الحوت ولا الموز، لا لشيء - حسب اجتهادي - إلا لأنني لم أكن أعرف هذه الأنواع
من الأطعمة والأغذية ولم تصادفني في حياتي قبل سن الثالثة عشرة. من حسن حظي، بدأت
آكل كل هذه الروائع الغذائية بعد الزواج وأنا في سن الثلاثين لأن زوجتي - بنت تونس
العاصمة - تعرف طريقة طبخها وبصفة جيدة.
حادثة غذائية طريفة رقم 2: في عطلة من عطل عيد الأضحى المبارك، عاد جل التلامذة
المقيمين بالمعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس إلى مدنهم وقراهم إلا قلة من المعوزين
وكنت واحدا منهم. وحتى لا يشعرنا بالفقر والغربة، أقام المدير مأدبة غداء على
شرفنا وأمر طباخ المبيت بالحضور يوم العيد صباحا ليذبح نعجة بالمناسبة. كان المدير
حاضرا معنا، شَوينا اللحم وأكلنا وضحكنا وعيّدنا على بعضنا وكأننا بين أهالينا
وأقاربنا.
2 (2). كنا نتمتع برعاية صحية كاملة مجانية، وقائية وعلاجية في
المبيت.
2 (3). كانت إدارة المبيت تتكفل مجانا بتنظيف ملابسنا الداخلية
والخارجية وأغطيتنا وكانت كلها مرقّمة لهذا الغرض.
2 (4).
كنا نستمتع بحمام تركي أسبوعي مجاني خارج المبيت
وكان النقل من بوغرارة كلم 35 إلى صفاقس مجانيا أيضا.
2 (5).
يوجد بكل مؤسسة التربوية قاعة مراجعة نهارية خاصة بمراجعة الدروس ومطالعة القصص، يشرف
عليها قيم كفء يساعدنا على أداء واجبنا المدرسي عند الطلب.
2 (6).
كل قاعات الدرس نهارا تصبح قاعات مراجعة ليلا، يشرف عليها تلامذة قيمون متطوعون
يختارونهم من نجباء الأقسام النهائية، يساعدوننا على أداء واجبنا المدرسي عند
الحاجة.
2 (7).
يوجد بكل مؤسسة تربوية قاعة رياضة مغطاة
ومجهزة بمعدات رياضية عصرية.
2 (8).
كان جل أساتذتنا الكرام أجانب (فرنسيين، بلجيكيين، كنديين، أمريكيين) ما عدى
أساتذة العربية والتقنية والتصوير الفني والتربية الوطنية (المدنية والإسلامية حاليا).
2
(9). كنا نقوم برحلات دراسية مجانا تحت إشراف أساتذتنا
الأجانب.
2(10).
كان الانضباط الحديدي يسود النظام الداخلي
في كل المؤسسات التربوية.
3. التعليم العالي من 1972 إلى 1974:
3 (1). كنا نقيم مجانا أو بمقابل رمزي في مبيتات جامعية محترمة،
غرفتين لاثنين من الطلبة في مبيت حي الزهور بتونس العاصمة.
3 (2).
كنا ندفع 100 مليم لا غير، ثمن وجبة غذائية صحية متوازنة في الغداء والعشاء.
3 (3). كانت إدارة المبيت الجامعي بحي الزهور تتكفل بتنظيف
ملابسنا الداخلية والخارجية وأغطيتنا مجانا وكانت كلها مرقّمة لهذا الغرض.
3 (4). كانت
الحافلة الخاصة تنقلنا مجانا، ذهابا و إيابا،
من المبيت الجامعي بحي الزهور إلى مدرسة الترشيح العليا للتعليم التقني
بباب عليوة.
3 (5). كنا
نتمتع بمنحة جامعية قدرها 35 دينارا تونسيا (كان مرتب معلم الابتدائي أو مرتب موظف
بنكي - في ذلك الزمن الرومنطيقي الجميل في الذاكرة - لا يفوقنا إلا ببعض الدنانير).
كنت أرسل من منحتي حوالة شهرية بـ10 دينارات تونسية مصروف أمي بجمنة (حيث لا وجود في
جمنة وقتها لفاتورة ماء أو ضو ولا وجود لتلفزة في البيت ولا وجود لمشروبات غازية
أو ياغورت أو حليب أو مرطبات في الحانوت ولا وجود للحم أو دجاج في الطعام ولا وجود
لجزار من أصله لو لم تخني ذاكرتي المتعبة). كان أحد زملائي في نفس القسم طالب
صفاقسي وكان مشتركا في الصندوق الوطني للسكن (CNEL) بمبلغ خمس دنانير تونسية في
الشهر وتسلّم منزلا محترما بصفاقس عند التخرج سنة 1974 وكان صديقي الآخر يصرف من
منحته الجامعية على تعلم السياقة أما الأكثرية الغالبة من الشباب الجامعي فكانت
تدخل الملاعب وقاعات المسرح والسينما أو تشتري كتبا ومجلات مثيرة غرائزيا أو تحتسي
قهوة أو جعة أو تتسكع دون قصد أو نية فاسدة في بعض أنهج الأولياء الصالحين وأزقتها
الحادة وتسجد تقديسا لأيقوناتها العارية الباردة - الجميلة في أعينهم - عيون
مراهقين حيارى عطاشى مساكين، عيون لا ترى إلا ما تريد أن ترى من جمالٍ في مدينة
تونس العاصمة.
خلاصة القول: هل تونس 2011 كانت أفقر من تونس الستينات؟
نعم كانت أفقر ألف مرة، أفقر
في القيم العلمية والإنسانية والدينية وأضعف في الإرادة السياسية وأقل استقلالية
في اتخاذ القرار الداخلي وأكثر ارتباطا بالبنك العالمي والدول الرأسمالية والشركات
متعددة الجنسيات وأضعف إيمانا بالله وأقل حبا في الوطن وأسهل كذبا في القول وأكثر
تنافسا على الكسل.
كانت تونس الستينات تراهن على
التعليم وتعتبره أساس التقدم والرقي ولو لم تتدخل القوى الأجنبية الامبريالية في
شؤوننا لوصلنا إلى نفس ما وصلت إليه كوريا الجنوبية من ديمقراطية ورفاهية بحسن
تدبير مسئوليها ووطنية مواطنيها وعبقرية مفكريها وأدبائها ومسرحيّيها وسينمائيّيها
وأساتذتها ومعلميها.
ملاحظة أخيرة: قبل نشرها على النت، من عادتي أن أطرح مواضيع مقالاتي
للنقاش في الجلسات الثقافية بمقهى الويفي بحمام الشط الغربية صباحًا وبمقهى
البلميرا بحمام الشط الشرقية مساءً.
قال لي أستاذ فلسفة سابق -
كاتب عام نقابة أساسية سابق - مدير معهد حاليا (بعد الثورة)، نقابي نُصِّب بالوفاق
من قِبل زملائه: "الستينات من القرن الماضي مرحلة، و2011 مرحلة أخرى، لقد ساد
في الستينات وفي كل العالم تقريبا نمط تنموي وطني أما اليوم فيسود العكس، يسود
تونس نمط اقتصادي تابع مائة بالمائة للدوائر الامبريالية وبصفاقة تامة. زِدْ على
ذلك، نظام التعليم، نظام غير معزول عن بقية الأنظمة الإدارية في الدولة، يوجد نظام
التعليم داخل نظام سياسي تنموي أشمل فلا تستطيع إذن - حتى ولو أردت - أن تصلح قطعة
واحدة فاسدة في سيارة كل قِطَعِها بالية
وتطلب من السيارة أن تنطلق بسرعة
وتأخذك إلى موطنك العزيز جمنة،
وحتى وإن حدثت المعجزة وسارت السيارة دون بنزين فلن تجد جمنتَكَ كما تركتها في
الستينات.
رددتُ عليه بكل لطفٍ وقلت له:
"لقد حدثت مثل هذه المعجزات في النصف الثاني من القرن الماضي، في كوريا
الجنوبية وتركيا وإيران وماليزيا، صمّمتْ هذه البلدان الثلاثة على النهوض والإقلاع
الاقتصادي واللحاق بركب الدول المتقدمة فبدأت أولا بتطوير نظام التعليم معتمدة على
إرادة سياسية وطنية صلبة ووُفقت في مسعاها، على الأقل نسبيا وبالمقارنة مع الدول
العربية التعيسة والمتخلفة.
قال متدخل آخر متوجهًا بالخطاب
إليّ مباشرة: "تمتعتَ أنت بالمجانية لأنك فقير". أجبته: وهل طلبتُ
الحق والعدل لغير المعوزين من الفقراء
والموظفين أمثالي وأمثالك؟ أما الأغنياء فلا حاجة لهم لنظام تعليمي متطور في تونس
لأنهم يستطيعون تدريس أبناءهم في أفضل النظم التعليمية الجامعية في فنلندا أو
فرنسا أو أمريكا.
وقلت له أيضا: "يكمن
العدل يا سيدي الكريم في عدم العدل في توزيع الثروات الوطنية على طبقات المواطنين
وأنا أؤمن بالمبدأ الإنساني السامي والنبيل القائل بالحكمة الأبدية العادلة
التالية "مِن كلٍّ حسب جهده ولكلٍّ حسب حاجته". ستتحقق أحلامي لو كان
هذا الـ"كلٍّ" إنسانًا يأتم معنى الكلمة للإنسانية التي أتصورها في
مخيلتي وأتمنى حدوثها في المستقبل القريب ولو بطفرة جينية نوعية ونادرة كالطفرة الجينية
التي وقعت في الحمض النووي لأسلافنا ونقلتنا من شبه شبه إنسان إلى شبه إنسان.
Conclusion
optimiste : Et pourtant je ne dirais jamais que « C`était mieux
avant », titre d`un livre récent de Michel Serres, lui a dit dans le
contenu de ce livre que c`était bien pire avant
إمضائي
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و
يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما
أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم
بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا
بالعنف اللفظي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire