مقدمة: موقفٌ لا يُلزِمُ
أحدًا غيري وليست لي نيّةُ إقناعُ أحدٍ. عزيزي
القارئ، عزيزتي القارئة، أنا لستُ داعيةً، لا فكريٍّ ولا سياسيٍّ ولا دينيٍّ.
أعرضُ عليكم وجهةَ نظري المتواضعةَ والمختلفةَ عن السائدِ، إذا تبنيتُموها أكون
سعيدًا جدًّا، إذا نقدتُموها أكونُ أسعدَ لأنكم ستُثرُونها بإضافة ما عجزتُ أنا عن
إدراكِه، وإذا عارضتُموها فيشرّفني أن يصبحَ لفكرتي معارضون. أما البديلُ فيُصنعُ بيني وبينكم، البديلُ لا يُهدَى، لا يُستورَد ولا
يَنزِلُ من السماءِ (قال تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم"). واهِمٌ أو غيرُ ديمقراطيٍّ من يتصورُ أنه يملكُ البديلَ جاهزًا.
كغير
مختص في القانون ولا في الفقه ولا في الفلسفة، أعرضُ عليكم حُجَجِي التاليةِ، وإذا
لم تعجبكم ارموها في البحر:
1.
موقفي الديني كعربيٍّ مسلمٍ:
القرآن الكريم، خيرُ ما
أبدأ به أطروحتي المقتضبة: منهجيًّا وليس انتقائيًّا، سأكتفي في هذا المختصَر
بنهايات السوَرِ المتعلقة بعقوبةِ الإعدامِ: قال تعالى في سورة البقرة: ".. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ
أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ
تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" (178)، في سورة النساء: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ
يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" (17) (...) وَأَن تَصْبِرُواْ
خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (25)، في سورة المائدة: "إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ
عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (34) (...) "فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ" (45).
في كلام الله، ألهمني
هو ولا ملهمَ غيرَه، ألهمني أن لا أحتفظ في مخي الصغير إلا
بِصِفتين من صفاتِه وهما الغفرانُ والرحمةُ في تطبيق
أحكامه سبحانه المتعلقة بعقوبةِ الإعدامِ... ومَن اجتهدَ ولم يُصِبْ فله أجرٌ
واحدٌ!
2.
موقفي العَلماني كيساريٍّ طوباوِيٍّ غير
ماركسِيٍّ:
هو ليس
موقفًا ذاتيًّا لأنني وككل بشرٍ سويٍّ عاقلٍ عندِيَ رغبةٌ غريزيةٌ في الانتقام
الشخصي، ودرجة الأنسنة تُقاسُ حسب رأيي بمدى تحكُّمنا في غرائزنا الحيوانية
والابتعاد عنها بفضلِ التعلّمِ والتثقُّفِ والتحضُّرِ. من حسن حظنا أن المشرّعَان،
الديني والعَلماني، الاثنان أوكلا للقضاءِ مهمة تسليط عقوبةِ الإعدامِ،
والقضاءُ - خِلافًا للفرد المعزولِ - متعالٍ على الرغبةِ الغريزيةِ في الانتقامِ. لكن هل
القاضي التونسيُّ الحاليُّ هو قاضٍ مستقلٌّ؟ أشكّ في ذلك كثيرًا استنادًا لتصريحات
القاضية التونسية المناضلة كلثوم كَنّو! وإذا كان غير مستقِلٍّ فهل يحقّ له سلبُ
حياةِ متّهَمٍ؟ تصوّروا معي هَولَ الكارثةِ لو نُفِّذتْ كل أحكام الإعدام التي
أصدرها قُضاةُ بن علِي ضدّ
المناضلين الإسلاميين. "الإعدامُ العادلُ"
(Un
oxymore)! ومَن
أدراكَ أنه عادلٌ في أي عهدٍ كان، باستثناءِ عهدِ الرسولِ صلى الله عليه وسلّم؟ أضِفْ إلى هذه
الحجة السابقة حجة إمكانية وقوع القاضي في الخطأ القانوني، وإن وقعَ فهو خطأ لا
يمكنُ إصلاحَه.
في
الفقرة الموالية سأستعين برأي أبِي النضالِ ضد عقوبة الإعدام، الكاتب الفرنسي
العظيم فيكتور هوڤو، قال في هذه المسألةِ ما يلي:
-
طالبَ بالعفو لعديد المحكومين في عصره ونالَه في فرنسا
والخارج. سنة 1879، وكعضو مجلس شيوخ اقترح سَنَّ قانون العفو التشريعي العام
لفائدة ثوّار "كومونة باريس"، صُودِقَ عليه سنة 1888.
-
ساهم بكتاباته في صدور قانون إلغاء عقوبة الإعدام في
البرتغال سنة 1867.
-
المِقصلة
(L`échafaud, la potence, le
gibet ou la guillotine)،
اسمها وحده يَفْجَعُ،
يُفزِع ويُرهِبُ. المِقصلة، هي الشجرة الوحيدة التي لم يقتلعها
رجال الثورة الفرنسية (1789). رجاءً، اقتلعوها أيها الحُكّام الحاليون، على الأقل بعامل
الأنانية لو لم يتوفّر لديكم عامل الإنسانية، اقتلعوها عاجلاً وإلا اقتلعت رقابَكم
قبل رِقابِنا نحن المحكومين، فأنتم قد تكونون أقرب وأوّل ضحاياها.
-
حَدَثُ نصبِ المشانق من قِبل روبيس بيير إبان الثورة
الفرنسية (1789)، حَدَثٌ رهيبٌ فظيعٌ مرعِبٌ مريعٌ، حَدَثٌ يدلّل على أن عصرَ
الأنوارِ (القرن الثامن عشر) لم ينتصر بعدُ على عصورِ الظلُماتِ: لا وجود لتقدُّمٍ
حقيقيٍّ ولا لإنسانيّةٍ حرّةٍ ما لم يتخلى
المجتمعٍ نهائيًّا على عقوبة
الإعدام، أي على الجريمة القضائية البغيضة، أي على الانتقام المجتمعي المنتصِبِ
للفُرْجَةِ القبيحةِ بحضور غوغاء متعطِّشة ومبهورة بِسفك الدماء وصَلبِ فردٍ من
أفرادِها.
-
ما هي حُجَجُ الذين
يقفون ضد إلغاء عقوبة الإعدام:
حجة 1: ضرورة إبعاد
المجرم عن المجتمع لأنه أساء للمجتمع مرّة وقد يُعيد الكرّة مرّة أو مرّات أخرى.
ردّ 1: إذا كان هذا هو المشكل فلا حاجة لنا لجلاّد حيث
سجّان يكفي.
حجة 2: يجب على المجتمع أن ينتقم ويعاقب.
ردّ 2: لا هذا ولا ذاك فالانتقام لا يكون إلا فرديًّا،
أما سَلبُ الحياة فمن اختصاص واهب الحياة وحده لا شريك له. بقي هذا "المجتمع"
إذن في منزلة بين المنزلتين، العفو فوقه والانتقام تحته.
حجة 3 والأخيرة: يجب إعطاء الشعب مثالاً للعِبرة.
ردّ 3: العبرة من تنفيذ عقوبة الإعدام مشكوك فيها وتخويف
المنحرفين أيضًا، لكن العكس صحيح، الإعدام يُحبط الشعب ويقتل فيه العواطف النبيلة.
خاتمة: أنا أقف
مبدئيًّا وفكريًّا ضد عقوبةِ الإعدامِ مهما
كان هول الجريمة ومهما كان المستوى الاجتماعي للمجرم. ضميري مرتاح ولا أرى نفسي
مخالفًا للقِيم الإنسانية ولا للتعاليم الإلهية، فيما عدى ذلك فالله غفور رحيم. أنهِي
مرافعتي ببيتٍ من قصيدة البردة للإمام البصيري:
يا نفسُ لا تَقْنَطِي
من زَلّةٍ عَظُمَتْ ... إن الكبائرَ في
الغفرانِ كاللَّمَمِ
إمضائي
و"إذا كانت
كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
"أحَبَّ، أي فَعَلَ" (Aimer, c`est agir)، آخر سطر كتبه فيكتور هوڤو ثلاثة أيام قبل وفاته يوم
22 ماي 1885.
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الخميس 11 أكتوبر
2018.
Source bibliographique:
Le dernier jour d`un condamné, Victor Hugo, Éd. Gallimard, 2000, Paris, 279 pages
ملاحظة:
المؤسِفُ والمُخزِي لي كمثقفٍ عربيٍّ عمره 66، أنني لم أقرأ هذا الكتاب القيّم إلا
اليوم (2018)، وهو متوفّرٌ في المكتبات قبل ولادتي بِقرنٍ ونَيفٍ (صدرَ لأوّلِ
مرّةٍ سنة 1829).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire