تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط، 29 سبتمبر 2011.
من عادتي أُمضِي مقالاتي بالجملة التالية: "لا
أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر
أخرى". أما اليوم - وعلى غير عادتي - فسأحاول بكل ما أوتيتُ من حجج
علمية ومنطقية وعاطفية ووطنية وأخلاقية ودينية أن أحاول فرض رأيي عليكم
بالأمثلة والبراهين بل سأدعوكم بكل مسؤولية إلى تبنِّي وجهة نظري التالية التي
تخدم عاجلا وآجلا تربية تلامذتنا وتضمن لهم وللأجيال القادمة مستقبلا أفضل مما
ينتظرهم لو واصلنا في نفس الطريق الخطأ.
الحجة الأولى: حجة منطقية وعاطفية وأخلاقية ودينية، قصة
واقعية شخصية
سنة 1967، وصلني الخبر وأنا في السنة الثالثة إعدادي بڤابس:
مات أبِي، كان غنيّا في كهولته وفقيرا في شيخوخته، أبِي علي بن صالح بن علي كشكار
وما أدراك! لم أبكِه وقتها وكتمتُ دمعي مدة، وعند رجوعي إلى جمنة في عطلة الربيع، وفي
حضن أمي انهمرَ الدّمعُ المُخزّنُ أنهارًا. فارقنا الأبُ، أبٌ جافٌّ وقاسٍ قسوة
جيله. مات الفاخرُ الأنيقُ، الذي لا يصلي إلا يوم الجمعة في الجامع، غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما
تأخر وأسكنه الرحمان فراديس الجنان. لا أعرف حتى اليوم مصدر غياب حنيني إليه، قد
تكون قسوته الظاهرة، ولا أعرف أيضا مصدر ثروته في كهولته بالمقارنة مع الحالة المتواضعة
لباقي سكان القرية في ذلك الزمن القاسي اجتماعيا، وسوف أخصّه يوما بمقالٍ يروي
قصصه البطولية وكرمه الحاتمي. ورّثنا، جينيًّا وتربويًّا، إحساسًا جامحًا بعزة
النفس وكرم الخُلُقِ. فقِرَ في شيخوخته ولم نرث عنه إلا النزر القليل، فأصبحنا
نعيش في داخلنا تناقضا بين فضيلة الكرم الساكنة في جيناتنا وقلة ذات اليد السائدة
في حياتنا! ترك لنا منزلا متواضعا لكنه محترمٌ بالمقارنة مع باقي المنازل في القرية
الجنوبية الفقيرة، مسقط رأسي جمنة العزيزة، وترك لنا أيضا بعض النخيل، نوع دڤلة-نور
وحمارًا عتيًّا وبعض الماعز، نضع شيئا من حليبها في الشاي الأحمر الصباحي.
كانت أمي الأرملة الكهلة حينذاك تشتغل ليلا نهارا في
المنزل في حياكة الحولي (البرنس الليبي) وكانت تكسب من عملها الشاق ثلاثة دنانير
في الشهر (للمقارنة، لقد كان الطالب في الجامعة والمعلم في الابتدائي في ذلك الوقت
يتقاضي تقريبا كل واحد منهما مرتبا أو منحة شهرية بثلاثين دينارا تونسيا).
كنا ثلاثة أبناء تلامذة، يدرس أكبرنا في الثانوي بتونس
وأنا في الثانوي بڤابس والأصغر في الابتدائي بجمنة. كنت الوحيدَ بين إخوتي الذي
يتمتع بالسكن والأكل المجاني في مبيت تابع إلى وزارة التربية "البورڤيبية"
طيلة سبع سنوات مقسمة بين 3 تعليم إعدادي بڤابس و2 ثانوي بصفاقس و2 ثانوي بتونس.
لم تتبرم أمي يوما واحدا من وضعنا المادي الكائن تحت خط
الفقر ولم تفكر ولم تُشِرْ ولو مجرد إشارة إلى إمكانية الضغط على الابن الكبير حتى
ينقطع عن مواصلة دراسته ويلتفت لإعالتنا. كانت توفّر لي في أول كل سنة دراسية
طلبات المبيت الرسمية من ألبسة داخلية وجوارب بالعدد الكافي ومناشف وفرشاة ومعجون
أسنان "سينيال" (لم أعرف أن للأسنان معجونًا إلا في ڤابس في سنّ 13 سنة
1965) وميدعة رمادية (أو بلوزة) ومحفظة وملابس رياضية مع حذاء رياضي ضروري (كان
ثمن الحذاء الرياضي 600 مليم في الستينات ويُسمّى "سبيدري غزالة". لقد سترنا
ربي وقتها لأن اليوم ارتفع شأن هذا الحذاء وغلا ثمنه وأصبح اسمه
"كنفارس"). كانت أمي الصبورة تسعى، تارةً للتداين من الجيران، وتارةً
أخرى لبيع شيء من الأثاث المنزلي القديم الموروث عن والدي الفارس المشهدي (بندقية
حرب، مسدس حقيقي، سيفان كبيران في غمديهما، آلات حرث وحصاد تقليدية، أواني طبخ
نحاسية، بعض الحلي الذهبي الخالص وغيره من الأثاث القديم)، أو بيع قطعة أرض من
"سانيتنا" (واحتنا الصغيرة المشجّرة نخلا وخوخا وتفاحا وزيتونا
ورمانا) . وإذا ضاقت بها السبل وأعوزتها الحيل، تشدّ الرحال إلى ڤبلي وتقصد حَلاّلَ
المشاكل، حاتم الطائي بشحمه ولحمه، قريبنا الفاضل، سيدي "المبروك
بالريش"، أبو التلامذة الفقراء والمعوزين. ووفاء لهذا الرجل الكريم الطيب رغم
تواضع دخله الشهري كموظف بشركة نقل بڤبلي، أعدكم أنني سأخص هذا العظيم بمقالٍ أعدّد
فيه مناقبه وكرمه وبشاشته عند العطاء وتستّره الكامل عند إتيان الحسنة وعدم ذكرِ
المستفيدِ منها حتى لزوجته وأبنائه.
يوم 11 مارس 1993، ماتت الغاليةُ ولم نكافئها المكافأة
التي تليق بها (كتمكينها مثلاً من حجةٍ كانت تشتهيها) على الكثير من مزاياها
وتضحياتها، لكنني حاولتُ بكل جهدي أن أحفظ لها كرامتها في حياتها منذ أن تسلمتُ
أول منحة جامعية ترشيحية في أكتوبر 1974 (105 دينار تونسي، منحة ثلاثة أشهر
مجمّعة وكانت منحتنا الشهرية تقارب في ذلك الوقت مرتب معلم أو موظف في بنك، يعني
لو حينّاها اليوم تصبح المنحة الجامعية تساوي ألف دينار شهريا تقريبا). من أجل
عيونها العسلية، أعدتُ بناء منزلنا بجمنة وأدخلتُ الماء والضوء واشتريتُ لها تلفزة
بالألوان وموقد غاز عصري، أثثتُ لها بيتنا المتواضع أين أنهتْ عمرها المحفوف بالحب
والعشق والاحترام من قِبل جيرانها وأندادها ونديداتها وصديقاتها وأبنائها وبناتها
وأحفادها، هؤلاء الأخيرين أنهكوها حبًّا وعَدْوًا ولهوًا في المنزل وفي أزقة
الحي. لم ولن أعشقَ أحدًا سواها، كنتُ وأنا طالبٌ، أقتَطِع بكل حب حوالة بريدية بعشرة
دنانير من منحتي الجامعية المرتفعة نسبيا. حوالة أمي كانت تساوي أو تفوق الحوالة
التي تصل لجارتها من زوجها بفرنسا، ورغم فقرها كانت عند رجوعي للبلاد أثناء العطل
المدرسية، تفاجئني ببطّانية (غطاء صوفي)، صنعتها لي خصيصا بيديها الذهبيتين، غزلتْها
من فضلاتِ الصوفِ التي تشتغل عليه.
أكملنا ثلاثتُنا تعليمَنا بدرجات متفاوتة، أستاذ مساعد في
التعليم الإعدادي، معلم في التعليم الابتدائي ووكيل في الجيش "الوطني" التونسي. ضحّت أمي الأرملة
الفقيرة بنفسها وعزفتْ عن الزواج حفاظًا على شعورنا وزهدتْ في الدنيا حتى توفّرَ
لنا ثمن التنقل للدراسة من جمنة إلى ڤابس وتونس وتضمن لنا ثمن اللباس المدرسي
المتواضع.
هل الدولة التونسية بثرواتها الطبيعية وأغنيائها
ومتوسِّطيها، أقل حكمة من أمي وأعجزُ منها على التضحية في سبيل أن توفّر لأبنائها
ومواطنيها نظامًا تعليميًّا راقيًا يوازي أو يفوق النظام التعليمي في الدول
الأسكندنافية؟
هذا النوع والمستوى العظيم من التضحية ونكران الذات الذي تَجَلَّى في والدتي
وفي جل والدات وآباء جل التلامذة التونسيين الفقراء في الستينيات. أطالبُ أن يتوفّرَ
مثله أو أحسن منه الآن في الدولة التونسية الفقيرة نسبيًّا، وأطالبُ هذه
الدولة الوطنية التي ستنبثق من انتخابات 23 أكتوبر 2011 أن تضحّي من أجل
أبنائها وتضمن لهم تعليمًا راقيًا كنظام التعليم في الدول الأسكندنافية رغم أنني
أعلم جيدا ولست غافلاً عن الفرق الهائل بيننا وبين حالة الإمكانات المادية للدول
الأسكندنافية التي لا يمكن مقارنتها بالظروف المادية لبلدنا تونس خاصة في الظرف
الراهن بعد الثورة (اليومُ وأنا أحيّنُ هذا المقال، 6 أكتوبر 2018، مرّت على تونس سبعٌ
عِجافٍ 2011-2018 ولم يتغيّر في التعليم العمومي شيءٌ بل ازدادَ سوءًا).
الحجة الثانية: حجة وطنية وديمقراطية وعلمية
فقرة، أريد أن تُكتب حرفيا في الدستور الجديد: تعليمٌ
ديمقراطيٌّ متساوٍ لأولاد التونسيين جميعا أغنياء وفقراء ومتوسطين، أجانب وعرب
مقيمين، تعليمٌ "قائم الهرم" وليس تعليمًا "مقلوب الهرم"، تعليمٌ تكون الميزانية فيه
نسبيا تصاعدية من الأساسي إلى الثانوي إلى العالي. يضمن الحقوق التالية لكل أبناء
التونسيين دون تمييز: ترسيم مجاني، أدوات وكتب مدرسية مجانية، نقل مجاني من
المدرسة إلى البيت ومن البيت إلى المدرسة، وجبة يومية صحية متوازنة مجانية، منحة
جامعية لكل طالب وليس قرضا. تعليمٌ أساسيٌّ وثانويٌّ دون تفقدٍ بيداغوجيٍّ بائدٍ
مع تكوين أكاديمي مستمر للمدرّسين. في نهاية المرحلة الأساسية (15 سنة)، أطالب
بتوجيه 70 في المائة من التلاميذ إلى تعليم مهني طويل وجيّد قد يفضي إلى الجامعة (مثل
ما هو الحال الآن في الدولة الألمانية المصنّعة جدا) حسب رغبة واجتهاد التلميذ و30
في المائة فقط إلى تعليم نظري رياضي (رياضيات وليس رياضة) وتجريبي ينتهي بشهادة
التبريز للتدريس في الثانوي أو بشهادة الدكتوراه للتدريس بالجامعة أو بشهادة مهندس
أو بشهادة طبيب عام أو مختص أو غيرها من الشهائد العلمية المعتبرة. أطالب بتعيين مقتصد
وممرّض واستشاري نفسي في كل مؤسسة تربوية. أطالب برَصْدِ ميزانية تسيير محترمة
للمدارس الابتدائية فورا و"توّا" وأطالب بتجهيز كل المدارس الابتدائية
بمجموعات صحية للمعلمين والتلاميذ "توّا". الآن.. الآن.. وليس غدا على
حد تغريدِ فيروز.
يوجد هذا النظام التربوي المجاني في بعض البلدان
الأسكندنافية كفنلندا والنورفاج وأبناءهم ليسوا أفضل من أبنائنا. نستطيع توفير كل
هذا لهم لو تقشفنا قليلا، ضحّينا من أجلهم كثيرا، لو صرفنا عليهم ما كان يُصرف على
الحزب الحاكم في العهد البائد، لو حوّلنا لفائدتهم ما سرقه بن على والطرابلسية، لو
خفّظنا قليلا من تبذير المال العام في السكن الوظيفي والسيارة الخاصة والبنزين
المجاني، لو سرّحنا أغلبية الجيش البيروقراطي من موظفي الدولة الذين يعطلون عمل
الإدارات العمومية، لو ألغينا التفرغ للنقابيين البيروقراطيين الانتهازيين، ولو سوغنا
في عطلة الصيف قاعات وملاعب الرياضة لمؤسسات الخاصة مقابل مساهمة مادية محترمة تُضافُ
إلى ميزانية كل مؤسسة تربوية عمومية.
زِدْ على ما سبق من تبذيرٍ في غير محله، ما نستورده في
رمضان الكريم من أطنان من البيض واللحوم والبطاطا لسد حاجات غير أساسية تبعدنا عن
المقصد الحقيقي من وراء فريضة الصيام ونجلب معها من حيث لا ندري أمراض القلب
والشرايين والسكري. نستورد أيضا في الصيف والشتاء أنهارًا من المشروبات الكحولية،
نضعف بها إيماننا وميزانيتنا وصحتنا ونفكّك بواسطتها أواصر أسرنا. نستورد بالعملة
الصعبة أنواعا فاخرة من السيارات والماكياج، نتجمل بها وننسى أن نِصفَ التونسيين
أميّين ولن تغطي عيوبهم المساحيق، ونستورد ملايين اللترات من العطورات الغالية
وننسى أن عددا كبيرا من التونسيين فاسدين راشين ومرتشين، منهم إعلاميين وصحافيين
وحزبيين معارضين وموالين ومحامين وقضاة وأمنيين، إداريين وسفراء ووزراء ونواب
ومستشارين وولاة ومعتمدين ورؤساء بلديات وعُمَد، لن تمنع العطورات المستوردة الغالية
تَسَرُّبَ روائحهم النتنة إلى أنوفنا وأنوف العالم، حتى ولو استحموا بها ليلاً
نهارًا، صباحًا مساءً ويوم الأحد. نشتري سيارات غير اقتصادية بمئات الملايين ولا
توجد في مؤسساتنا التربوية سيارة وظيفية واحدة لخدمة أبنائنا وبناتنا ومدرّسينا
الأفاضل.
ملاحظة حازمة:
كل من سيتجرّأ عليّ ويقول لي مثل هذه العبارات السخيفة التالية: "هذا
خطابٌ مثاليٌّ.. ليس في الإمكان أحسن مما كان.. لا تطلب نصف النهار في الثانية بعد
الزوال .. كن واقعيا.. وغيرها من القوالب الرجعية المتكلسة، سوف أجيبُه
بـ"عنفٍ" غير معتادٍ مِنِّي، وأقول له على لسان شاعرنا العظيم، أبو
القاسم الشابي: "ومَن يتهيّبُ صعودَ الجبالِ ... يعشْ أبدَ الدهرِ بين الحفرْ".
إمضائي
لا أحد مُجبر على
التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم
بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه.
عبد الله العروي.
يطلب الداعية السياسي أو
الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي -
أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم
بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى وعلى
كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire