dimanche 21 octobre 2018

جمنة الخمسينيات "تعطي درسًا" في التربية الحديثة: التربية البنائية للأطفال. مواطن العالم د. محمد كشكار



تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في  30 جانفي 2010.

حسب مقاربته "البنائية"  (Le constructivisme)   في اكتساب المعرفة لدى الطفل, يقول "بياجي" عالِم معرفة نمو الطفل السويسري 
(Épistémologue génétique de l’enfant suisse, génétique de développement)
 أن الطفل يتملك المعرفة عندما يتفاعل مع محيطه المادي.
أما "فيڤوتسكي" عالِم البيداغوجيا الروسي فيقول حسب مقاربته "البنائية الاجتماعية" (Le socio-constructivisme) أنّ عامل التفاعل مع المحيط المادي غير كاف لاكتساب المعرفة فيضيف عاملا ثانيا يتمثل في التفاعل البشري مع الآخرين أندادا وبالغين.

سكان قرية "جمنة" الخمسينيات لم يقرأوا "بياجي" ولا "فيڤوتسكي" ولا يعرفون شيئا عن نظريات علوم التربية الحديثة لكنهم طبقوا ما جاء فيها أحسن تطبيق: كنا أبناء الحي الواحد، أطفالا ذكورا صغارا لم نتجاوز سنّ السادسة. نغادر بيوتنا صباحا دون مرافق كهل. نتجمع بكل حرية في مكان فسيح غير بعيد عن أهالينا. بستان فيه نخل وظل دون زرع. نبقى فيه بالساعات, نلعب ونلهو كما يحلو لنا دون رقيب كهل. نتشاجر بعض الأحيان لكن سرعان ما نتصالح حتى يستمر اللعب. نصنع لعبنا بأنفسنا من معلبات سمك "السردين" ومعجون الطماطم, سيارات وشاحنات مصغّرة تنقل الرمل وتفرغه آليًّا. نتقمص أدوارًا متنوعة بالتداول, البائع والشاري, السائق والحرس, الأب والابن, الفائز والخاسر, الغالب والمغلوب. لباسنا خفيف وأقدامنا حافية وأرضنا حنون ومناخنا حار. لمجتنا تنزل دون سابق إعلام من السماء بلحا أخضرا وأصفرا أو "نرمي من كان عن الأحقاد مرتفعا فيتساقط علينا رطبا جنيا" وعندما نجوع فعلا, نعود إلى ديارنا. نجد أمًّا حنونا في انتظارنا، لا تلومنا ولا تنهرنا بل تقدم لنا ما جنت وطحنت وطبخت بأيديها الربانيتين, وجبة بيولوجية صحية خالية من الأغذية المصنعة المغشوشة باهظة الثمن. في المساء, نعيد الكرّة مع تغيير "وضعيات التعلم" التي نختارها بأنفسنا مثل صيد الطيور أو الجري وراء إطار حديدي لعجلة دراجة أو القفز داخل مربعات أو الاحتفاء بسحابة أمطرت في غير موضعها. بعد خمسين عاما، عرفتُ وأنا أدرُس دكتورا علوم التربية في جامعة كلود برنار بفرنسا أن هذه الطريقة  في اكتساب المعرفة والمهارات والكفاءات تسمى "البنائية الاجتماعية". كبرنا قليلا, أخذونا للكتّاب (الخلوة) لتعلم القرآن الكريم في الجامع الكبير. كان الفناء مظلما في النهار والمؤدب جالس وعصاه تتنقل فوق رؤوسنا برأفة وحنان. نردّد وراءه لساعات ما ينشد من كلام حلو وموزون. نحفظه عن ظهر قلب دون شرح أو تفسير ونستوعب حسن نطقه وبلاغته ونطرب لموسيقاه. بعد خمسين سنة، عرفتُ أن هذا النوع من التلقين يسمى"حمّاما لغويا" (Bain de langue)، حمّام يطهّرك من الداخل و يغمرك بمفاهيم غير مألوفة ويكسبك في مرحلة الاستيعاب زادا لغويا ثمينا ونطقا سليما تستثمره في مرحلة الفهم في شرح وتفسير أي أثر مكتوب, قرآنا كان أو نثرا أو شعرا.

في التسعينيات، هبّت علينا ريح التحضر والتمدن المشوه فانبطحنا لها دون مقاومة وفتحنا دكاكين تبيع تربية مسمومة للملائكة وسميناها رياضا للأطفال وسجننا فيها فلذات أكبادنا داخل فضاء ضيق وحرمناهم متعة حرية اللعب والتعلم مجانا في مساحات شاسعة هبة من رب العالمين. هل صادفتَ في حياتك مَن يغش الملائكة أو يتاجر بهم؟ مَن يغتصب حقوق الأطفال، طيور الجنة، فهل يا ترى يدخل الجنة؟ تخلى الأولياء عن دورهم التربوي وأوكلوه لـمربين غير مختصين في التربية, أغلبهم انقطعوا مبكرا عن مواصلة تعليمهم العالي لأسباب متعددة أو ينتظرون وظيفة عمومية, يتقاضون أجورا زهيدة, ناقمين على أنفسهم وعلى ظروف عملهم, يصبّون جام نقمتهم على أبرياء رضّع أو أكبر قليلا.  لا يعلّمونهم شيئا ولا يتركونهم يتعلمون بأنفسهم أو بمعية أترابهم. يفرضون عليهم نوعًا من الانضباط المحبط للإبداع ليتجنبوا حركيتهم التلقائية. قتلوا فيهم الخلق والتخيل وزرعوا في قلوبهم الخوف والجبن والامتثال للأوامر حتى ولو كانت نابعة من ظالم. يعلّمونهم لغة ركيكة لا يستوعبونها في صغرهم ولا تنفعهم في كبرهم. يجهّزون روضاتهم بالرديء والرخيص والمضرّ صحيا من اللعب  والأدوات المدرسية ويطعمونهم وجبة غير متوازنة مطهية على نار الربح الحرام. يدرّسون البرنامج الدراسي الرسمي للسنة الأولى أساسي وهم يظنون أنهم أحسنوا فعلا وقد صح عليهم قول " يفعل المربي غير المختص بتلامذته ما يفعل العدو بعدوه". مرّة، أردتُ مكرها  إدخال ابني للروضة (أمه تعمل 14 ساعة في اليوم), سألتُ  المروضة وما أوحش هذه الصفة التي توحي بترويض الوحوش في "السيرك": هل تلقنون قرآنا؟ هل تتركون الأولاد يلعبون بحرية؟ أجابتني بالنفي بكل فخر واعتزاز وكأنها تتبرأ من تراثها وثقافتها ودينها. أبشّركم أنه من حسن حظنا ومن محاسن التخلف الاقتصادي في تونس أن الروضات لم تنجح ولم تتكاثر حتى الآن وهي لا تستوعب إلا القليل من أبنائنا (8%).

خلاصة القول
أنا لا أدعو لرفض العلم الحديث بل أدعو إلى إحياء عاداتنا الجيدة وإعادة صقلها من جديد وغربلة تراثنا علّنا نجد فيه ما يتلاءم مع التطور الحقيقي لا المزيف. لم يأت علم الغرب من فراغ أو نزل من السماء ولم يكتشفوه صدفة بل صنعوه بعقولهم وتجاربهم حسب حاجتهم ووفق ثقافتهم وتراثهم ودينهم فأصابوا وأخطئوا. وصل "بياجي" إلى نظرياته في "البنائية" عبر دراسة النمو الذهني لدى أبنائه البيولوجيين، وتوصّل "فيڤوتسكي" إلى "البنائية الاجتماعية" بعد تجارب عديدة في المدرسة السوفياتية. هبّوا وهيّا تعالوا نفعل مثلهم وننبش التراب عن تراثنا وتقاليدنا لنطورها ونستنبط منها نظريات في التربية السليمة تتناسب مع واقعنا الاقتصادي ولا تتناقض مع مبادئنا وتراثنا وديننا وجغرافيتنا ومناخنا الاجتماعي والطبيعي.

ملاحظات:
- جمنة: "مدينة - قرية" جميلة مزروعة في الجنوب الغربي التونسي. أعشقها. وُلِدتُ فيها سنة 1952. ترعرعتُ في مائها وترابها وكبرتُ تحت شمسها وظلها ودرستُ في جامعها ومدرستها الابتدائية. تنشقتُ عطرها وتحمّمتُ بتراثها وتنشفتُ بنورها وما زالت تلاوة البردة في الجامع القديم ترنُّ في أذني وتسكنُ قلبي حتى الآن.
- لا أرغبُ في الرد على بعض تعليقات القراء المستفِزّة تجنبا للنقاش البيزنطي خاصة في المواضيع العامة التي ليس لي فيها ما أضيف لكن أنا مستعد تمام الاستعداد للرد لو ناقشني أحدهم في اختصاصي العلمي وهو التعلّمية. هذا العلم الفتيّ هو الأخ الأصغر غير الشقيق لـ"البيداغوجيا"، أخَوان من أمّ واحدة تُدعى علوم التربية ومن أبوين مختلفين. ينتسب أب البيداغوجيا إلى العلوم الإنسانية وينتسب أب التعلّمية إلى العلوم الإنسانية أو العلوم الصحيحة أو العلوم التجريبية. يُعتبر العالِم أو الباحث البيداغوجي بمثابة الطبيب العام ويُعتبر العالِم أو الباحث التعلّمي بمثابة الطبيب المختص.
- ما قلتُه عن جمنة قد نجده زمن الخمسينيات في كل القرى والأرياف التونسية وحتى المدن حسب ما سمعت من الأصدقاء، اطمئنوا فجمنة إذن لا تعطي دروسًا ولا هم يحزنون!

إمضائي
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران
Aimer, c`est agir. Victor Hugo

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire