مقارنة طريفة بين الخطاب
المزدوج لدى بعض النهضاويين و الهوية المزدوجة لدى بعض الشيوعيين؟ مواطن العالَم
د. محمد كشكار
يلوم بعض الشيوعيون
على بعض النهضاويين خطابَهم المزدوج و المراوح بين الديمقراطية و السلفية،
و الواقع أن "الجمل لا يرى اعوجاج رقبته".
و يتميز بعض الشيوعيون
بهوية مزدوجة و أنا لا أدين الاثنين بل أتفهم تذبذبهم الشرعي.
كيف و لماذا؟
أخص بالذكر من بين الاثنين
المعنيين، أصدقائي الأعزاء الحميمين المحترمين الذين أعرفهم أكثر و أعتبرهم إليَّ أقرب،
و هم رفاقي الشيوعيين حتى و لو خرجت عن خطهم الأرتودوكسي و انتقدتهم بقسوة، فالاختلاف في الرأي و الإيديولوجية لا
يفسد حسب ظني للود و الاحترام قضية. كنت أردد دائما أن الشيوعيين و أعني بهم بعض المنتمين
إلى الأحزاب الشيوعية التونسية الكبرى الثلاثة (حزب العمّال و حزب الوطنيين الديمقراطيين
الموحّد و الحزب الوطني الاشتراكي الثوري) الذين ينهون عن ممارسة الازدواجية في الخطاب و يأتون مثلَها، و أقول عنهم أنهم يحاولون - على الأقل في خطاباتهم العلنية و
في بياناتهم الرسمية - الظهور بمظهر المواطن اليساري المسالم الاشتراكي الديمقراطي
- من أمثالي و أمثال بعض رفاقي - و لا يعلنون عن "ستالينيتهم" إلا في
الحلقات الحميمية الضيقة و يعترفون علنا بالهوية العربية الإسلامية و يضمرون سرا
الهوية الماركسية اللينينية الستالينية الأممية.
عندما يسمع مني هذا النوع من
الخطاب المشار إليه أعلاه، كان صديقي و جليسي في المقهى يحتج عليَّ قائلا: "الستالينية
موجودة كانْ في مخك أنتَ"، فأجيبه الإجابة التالية لكنه يصرّ و يلحّ و يعيد
على مسامعي نفس الاتهام و كأنني لم أحاججه و كأنه لم يسمعني:
-
قال أحدهم: لو نزعوا صورة من الصور الأربع (ماركس و
أنجلز و لينين و ستالين) لاستقلت من الحزب.
-
قال الثاني غاضبا من انتقادنا جرائم ستالين ضد الإنسانية:
ما العيب في أن يقتل الثلثين لإصلاح الثلث؟
-
أما الثالث و بعد سماع خطابي الهجومي على ستالين، أهداني
مشكورا كتابا حول ستالين، و بعد قراءته لا زلت أحتفظ به حتى الآن في مكتبتي الفقيرة
فقر صاحبها الفكري و المادي
Un
autre regard sur Staline, Ludo Martens, EPO, Belgique, 1994, 350 pages
-
و
أما الرابع و هو أحد أهم منظري الحزب الوطني الاشتراكي الثوري فقد وضع في أعلى
الصفحه الأولى (البروفيل) لحسابه الفيسبوكي، على اليمين صورة ستالين في زي عسكري و
على اليسار صورة لينين في زي مدني و في الوسط صورة ستالين في زي بروليتاري و هو يخطب
أمام مئات الآلاف من الجماهير السوفياتية.
أنا
أتفهم موقف الرفاق و لا أنكر عليهم ازدواجية هويتهم لكن
أذكّرهم فقط بالجملة البليغة للفيلسوف اليساري المغربي العظيم عبد الله العروي:
"لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف
كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه".
و
لا أشك لحضة في حسن نواياهم حتى و لو كانت "ستالينية" الشعارات. و هذا الكلام
لا أعتبره فارغا أو حشوا أو مجاملة أو رمي ورود و لو أنهم أحق الناس بأزهار الربيع
كلها، و إنما العبرة بالوسيلة و ليست بالغاية عكس ما يقول المَثَل البراڤماتي الصلف
الوقح "الغاية تبرّر الوسيلة". يبدو لي أن الغاية لا تبرر الوسيلة، و
العبرة بالوسائل و ليس بالغايات، و الشعار الذي سبق بين ظفرين هو أخطر شعار على
الديمقراطية و الأخلاق الحميدة لأن الغاية و مهما كانت نبيلة - و في الغالب كل
الغايات نبيلة في جميع الأديان و الإيديولوجيات باستثناء غايات الشيطان الجهنمية -
تسقط سقوطا عموديا لو اعتمدنا العنف للبلوغ إليها. هم يتبنون غايات ستالين الشيوعية
النبيلة و لكن إلى حد الآن لم يستعملوا وسائله غير الإنسانية في السعي لتحقيق هذه
الغايات.
و
لا ألومهم لأنني كنت مثلهم - في السبعينات من القرن العشرين - شابا ثوريا، أردد
شعارات لينين و ماو و ستالين الرنانة و الجذابة، و كنت مثلهم أيضا أتمنى أن ألتحق
بالثورة الفيتنامية أو الثورة الشيوعية في ظُفار العُمانية، لكنني تغيرت و عدّلت
مواقفي و تخليت نهائيا عن إيديولوجيتي الشيوعية و اقتربت أكثر من الاشتراكية
الديمقراطية و ابتعدت أكثر عن ديكتاتورية البروليتاريا و تعلقت أخيرا و حديثا بالأنظمة
الأسكندنافية التي زاوجت بنجاح بين مكتسبات الاشتراكية و مكتسبات الليبرالية
الفكرية، و لا يضيرني البتة تذكيري بماضيَّ الشبابي، غير أنني أصبحت اليوم أنهي بصدق
و إخلاص عن ممارسة الازدواجية في الخطاب و الهوية و لا آتي مثلَها.
تفهّمت رفاقي
الشيوعيين، لذلك أتفهم إخواني النهضاويين أيضا، و أظن أن الإخوان صادقون - على الأقل على مستوى خطابهم - عندما
يقولون أن السلفيين يذكّرونهم بشبابهم مثل ما تذكرني أنا الشيوعية بشبابي بعد أن
تخليت عن أسوأ ما فيها (ديكتاتورية البروليتاريا و العنف الثوري المسلّح وعبادة
الشخصية والحتمية و غياب حرية الرأي و المعتقد و الحزب الواحد المهيمن و الزعيم الأوحد
المعصوم... إلخ) و تمسّكت بأفضل ما فيها ("من
كل حسب جهده و لكل حسب حاجته" و المساواة التامة و الكاملة بين المرأة و
الرجل و صنع تاريخ البشرية بالبشر أنفسهم و مبدأ الأممية الرائع و التنكر للقومية و الوطنية الشوفينية الضيقة و نبذ العنصرية اللونية و العرقية...
إلخ).
الإمضاء
"لا أحد
مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن
أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه" عبد الله العروي.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم
بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا
بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي.
الكتابة بالنسبة لي، هي
مَلْءُ فراغ، لا أكثر و لا أقل، و هواية أمارسها و أستمتع بها، متعة ذهنية لا يمكن
أن تتخيلوها.
تحية دائمة و متجددة لزملائي المربين: في ألمانيا المعلمون أعلى دخلاً في البلد، وعندما
طالب القضاة والأطباء والمهندسون بالمساواة ؛ ردت عليهم ميركل: كيف أساويكم بمن
علّموكم؟
قال ويليام بلوم: لو كان الحب أعمى فـالوطنية
الشوفينية الضيقة الإقصائية و المتعصبة فاقدة للحواس الخمس.
تاريخ أول نشر على النت
حمام الشط في 4 ماي 2013.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire