محاولة فلسفية 16: مقارنة
طريفة بين العامل بالساعد و الكائن الحي الأخضر ذاتي التغذية! مواطن العالم د.
محمد كشكار
-
الكائن الحي ذاتي التغذية (هو النبات الأخضر مثل الشجر و
الشجيرات و الأعشاب):
هو المنتج الأول للمادة "العضوية". لماذا وضعت
الكلمة الأخيرة بين ظفرين؟ لأنه يبدو أن التسمية مغلوطة و لا وجود لفصل تعسفي
ميكانيكي جاف بين المادة العضوية و المادة المعدنية لأن الأولى تتكون من الثانية،
لنأخذ مثلا: الجليكوز أو سكر العنب، ذو الصيغة الكيميائية الجزيئية (C6H12O6)، هو مادة عضوية بامتياز، تتكون
من ثلاثة عناصر كيميائية معدنية هي الكربون و الهيدروجين و الأكسجين.
ينتج النبات الأخضر المادة العضوية خلال تفاعل أو معادلة
كيميائية تسمى التركيب الضوئي. يحوّل بموجبها النبات الأخضر المادة المعدنية (ثاني
أكسيد الكربون الجوي و الماء المعدني الجوفي أو الجوي) إلى مادة عضوية (الجليكوز) ثم
يطرح الأكسجين. يقع التركيب الضوئي خاصة في الأوراق الخضراء بمساعدة اليخضور و
الضوء.
يُعتبر التركيب الضوئي أساس الحياة لأن بدونه تنقطع
المادة العضوية فتنقرض الكائنات الحية من الأرض، و أول مَن ينقرض هي النباتات
نفسها ثم الحيوانات بما فيها الإنسان. و يُعتبر التركيب الضوئي أيضا بمثابة براءة
اختراع الحياة و لم يستطع التطور العلمي و التكنولوجي خلق مصنع يحاكيه أو يفوقه في
الدقة و التعقيد و الأهمية الحياتية. تأخذ النبتة الخضراء فضلات و نفايات الحياة
(ثاني أكسيد الكربون المطروح يوميا من تنفس أجسام الكائنات الحية، أضف إلى ذلك
الأسمدة العضوية الرمادية و الخضراء المتأتية من فضلات الحيوانات و من أوراق و
أغصان النباتات نفسها) و تحولها بفعل التركيب الضوئي إلى أروع و أفضل منتوج مادي، منتوج
صلب و غازي (الأكسجين الذي نتنفسه يوميا و الموز و التفاح و البطاطا و الجزر الذي
نأكله يوميا و بدونهم نموت جوعا و اختناقا). فالنبات الأخضر إذن يصنع الحياة من
نفايات الحياة! و هو المنتج الأول و المستهلك الأول لما ينتِج.
-
العامل بالساعد (أو الأجير بالساعد):
هو المنتج الأول للمواد المصنعة. يأخذ معادن خامة و ينتج
سيارة و طائرة و حاسوب. يأخذ قطنا و يحوّله إلى قماش مزركش و ملوّن. يأخذ أحجارا
كريمة و يحولها إلى جواهر تزيّن جِيدَ و معاصم الحسناوات و تجمّل وجوه متوسطات
الجمال. يأخذ الرمل و الحجر و الأسمنت و يحوله إلى شقق و "فِلَلِ" و
ناطحات سحاب. يأخذ النشاء و يحوله إلى حلويات جميلة المنظر و لذيذة المذاق. يأخذ ثمار
الكاكاو و يحولها إلى شكلاطة يسيل اللعاب بمجرد مرآها. يأخذ البذور و يحولها إلى
إنتاج فلاحي يكفي للقضاء على الجوع في العالم لولا جشع التجار و الوسطاء و
المحتكرين.
قبل عصر التصنيع كان كل عامل بالضرورة فلاحا يستهلك ما
زرعته و حصدته يداه الخشنتان.
-
الكائن الحي ذاتي التغذية:
ينتج و يستهلك من إنتاجه ما يكفيه ثم يخزّن الباقي
لذريته دون نية أو غاية (مثلا: تحتوي بذرة الفول على مخزون غذائي نشوي تتغذى منه
النبيتة الفولية الجديدة عند ولادتها قبل أن تبعث جذورها في الأرض بحثا عن الماء و
الأملاح المعدنية و قبل أن تصبح قادرة على صنع مادتها العضوية
"الجليكوز" بنفسها بواسطة تركيبها الضوئي).
يأتي الحيوان بما فيه الإنسان و يعتدي عل النبات بالقوة،
يسرق قوت النبات و قوت ذرية النبات. يعتبر الحيوان مستهلكا ثانيا و منتجا ثانيا.
يستهلك هذا الأخير البروتينات و الدهنيات و السكريات و النشويات النباتية و يحولها
إلى لحم و شحم. من حسن حظ النبات الأخضر أنه كائن غير عاقل و غير واع لذلك فهو
الوحيد الذي لا يحس و لا يدرك و لا يثور على الظالم و الظلم مهما عَظُماَ.
-
العامل بالساعد:
ينتج ما يكفيه و يكفي غيره، لكنه يبيت جوعانا في أكثر
البلدان فقرا و يقضي ليله ينتفض من البرد دون غطاء كاف. ينتج العامل القِيمة المضافة
لكل سلعة مصنّعة. يحوّل البورجوازي المستغِل هذه القيمة المضافة إلى رأسمال و
وسائل إنتاج. توظف هذه الأخيرة أول ما تُوظف ضد منتجها نفسه، العامل، لقمعه بالبوليس و استعباده باسم الدين و تدجينه بالثقافة
و ترويضه بالنقابات. يصنع العامل بعرقه ثروات لغيره، عرقه الذي لا يجف أبدا، و
يموت هو قهرا متأثرا بفقره، و فقره هذا يفوق داء السرطان فتكا بالإنسان. ينتج
العامل ثروة ليتمتع بها غيره أمام عينيه، ثروة على شكل سيارات فاخرة و جواهر
نادرة. و نتساءل: لماذا يأتي العامل في آخر سلم متوسط العمر المتوقع من بين طبقات
المجتمع؟
-
الكائن الحي ذاتي التغذية:
هو ثابت في تربته غير متحول، جذوره في الأرض و أغصانه في
السماء. يعيش داخل مجاله الحيوي، لا يتخطاه و لا يتجاوزه قيد أنملة. ينتج غذاءه
ذاتيا بواسطة آلاف المصانع المتطورة غير الملوِّثة التي يمتلكها المتمثلة في
أوراقه الخضراء! لا يتطفل و لا يحتل أرض غيره لكنه يدافع عن فصيلته بقوة تدميرية
رهيبة إن هاجمها نبات عدو مُعدَّل جينيا. هو منتج أول مُستغَل من كل المستهلكين
الثانويين مثل الطفيليات النباتية غير الخضراء و الحيوانات و البشر.
-
العامل بالساعد:
يمثل طبقة ثابتة عبر التاريخ رغم تغيّر بعض عناصرها، عنص
يَغنَى فيخرج عنها و عنصر يفقر فيدخل فيها. طبقة دائمة الإنتاج و العطاء لكنها
مستغَلة على الدوام من الإقطاعيين و النبلاء و البورجوازية عبر آلاف السنين. ليست
للعامل القدرة على الاعتداء حتى و لو أراد فهو مسالم رغم أنفه و ليست له الكفاءة للسرقة
حتى و لو أحب فهو إذن شريف رغم أنفه، إلا إذا وظفه الرأسمالي الجشع في حروب
إمبريالية يكون العامل وقودها و الرأسمالي جامع خراجها.
-
الكائن الحي ذاتي التغذية:
يتحمل الاعتداءات المتكررة و المتتالية و يمتص الصدمات: تصحّر
مصطنع بواسطة الجرّافات في غابات الأمازون، حرب كيميائية يشنها عليه يوميا كبار
الفلاحين التجار المتعطشين للربح السريع و الوفير بواسطة الأسمدة الكيميائية و
المبيدات الفتاكة على حساب التنوع البيولوجي و التنمية المستديمة أو المستدامة. فلاحون جشعون يفعلون بأنفسهم ما يفعل العدو
بعدوه، يتركون إرثا ضحلا لأولادهم و أحفادهم، يتركون تربة و جوا و بحرا ملوثين
لمئات السنين.
-
العامل بالساعد:
العامل صبور و حكيم و مؤمن رغم أنفه. تتكون بفضل كدّه و عرقه
أجيال وراء أجيال من الأغنياء و هو صامد صابر في حقله و مصنعه. قنوع راض بمعيشته،
لا حول و لا قوة له إلا بالله العلي العظيم. و يتساءل الماديون المنبتّون بكل
بلاهة: لماذا يتمسك العامل بدينه و إيمانه بالغيب؟ و ماذا سيبقى له لو سلبناه أمله
في الجنة بعد ما سلبنا أمله في الحياة؟
خاتمة
يكفي أن نفقد أحدهما فسوف ننقرض الحياة حتما من على وجه
البسيطة، النبات الأخضر أو العامل بالساعد؟ و هي الحتمية المادية الوحيدة الوجيهة التي
أؤمن بها في حياتي!
إمضائي المختصر
أجتهد و أقرأ و أكتب و
أترجم و أنقل و أعلق و أنشر يوميا في الفيسبوك، أفعل كل هذا، لا حبا بالسلطة أو
المال أو المنصب أو الجاه، و إنما من أجل متعتي الفكرية الخاصة الذاتية و ما
أروعها من متعة، متعة عظيمة لا يساويها أجر مهما عَظُمَ، متعة حُرِم منها
السياسيون و الأديولوجيون و المثقفون المأجورون، مرتزقة السلطة.
لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في
أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسان المجتمع، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه من أجل بناء أفراده الذاتي لتصورات علمية مكان تصوراتهم
غير العلمية و على كل سلوك غير حضاري نرد بسلوك حضاري و على
كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.
حكم غير علمي: معظم ما ينشره
الفيسبوكيون التونسيون لا يستوفي الشروط الأولية لممارسة المعرفة و تقديم المعرفة!
نقل بقليل من التصرف عن هاشم صالح. مواطن العالم د. محمد كشكار
كل ما ينشره أكثر الفيسبوكيين
من مقالات و خطابات و تنظيرات فكرية و
سياسية - معارضين و موالين و لا أستثني نفسي - تبدو واهية، غير قائمة على أسس
راسخة لأنها بكل بساطة مخترقة أكثر مما يجب من قِبل الأيديولوجيا، مهما يكن نوع
الأيديولوجيا "تقدمية" أم "محافظة". فقبل أن نتساءل هل هذا
الخطاب صحيح أم لا، يقول الحقيقة أم لا، ينبغي أن نطرح هذا السؤال: هل يستحق أن
يُناقش فعلا؟ هل استوفي الشروط الأولية لممارسة المعرفة و تقديم المعرفة؟ هل يقف
على أرضية معرفية إبستمولوجية أم على أرضية أيديولوجية بحتة؟ فكثيرا ما يحتدم
النقاش بيننا و ترتفع الأصوات ثم تنخفض لكي تتبخر عن الفراغ، و نعتقد أننا نفكر و
نبحث...صحيح أن الشروط الخارجية لإنتاج الخطاب لا تساعد إطلاقا على التفكير
المسؤول و الجاد. أقصد بالظروف الخارجية: الضغوط التي كان يمارسها نظام بن علي في
تونس على الأساتذة و الطلبة البحاثة الجامعيين و المفكرين و المثقفين و المبدعين و
الكتّاب و الصحافيين و الفنانين و التي تتمثل في تحجيره و تحريمه و تجريمه للبحث
العلمي في مسائل اجتماعية قد تفضح سياسته كالتفاوت الجهوي و ظاهرة البطالة و ظاهرة
الفشل المدرسي و ظاهرة الرشوة و المحسوبية و ظاهرة الدعارة السرية و غيرها من
المسائل الحساسة. أما نُقاد المعارضة اليسارية و القومية و الليبرالية، فهم
كالشعراء، يلقون الكلام على عواهنه دون حجة أو دليل علمي أو بحث أكاديمي ميداني. لكي
أوضح ما أقصده أقدم مثال عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. فهو يعيب على الآخرين
لاعلميتهم أو كتاباتهم الإنشائية فيما يخص علم الاجتماع. أما هو فيتحدث عن اتباعه
للعلم و المنهج العلمي و الدراسات العلمية...إلخ. كما أنه يستند كثيرا إلى
التحريات الميدانية، و تمتلئ كتبه بالأرقام و الإحصائيات...إلخ.
تاريخ أول نشر على النات
حمام الشط في 26 أفريل 2012.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire