محاولة فلسفية 22: استفاد
الغرب من أعظم ما فينا و انغلقنا نحن على أنفسنا و استمعنا إلى أدنانا تكوينا، أخذ
منا كتب ابن رشد و نحن أحرقناها بأيدينا! مواطن العالم د. محمد كشكار
يبدو
لي و الله أعلم أن لكل حضارة غثها و سمينها، جمالها و قبحها، محاسنها و مساوئها،
ازدهارها و انحطاطها، علمها و جهلها، تصوراتها العلمية و تصوراتها غير العلمية، خطؤها
و صوابها، رجالها و نساؤها المخلصون و المخلصات و عملاؤها و عميلاتها المتواطئون و
المتواطئات، علوّ همّتها و رخص ذمّتها، عهدها الذهبي و سنوات جمرها، حلوها و مرّها.
أفاق
العرب على فجر الإسلام في القرن السابع ميلادي و أسسوا حضارة عالمية، تفاعلوا مع
تراث غيرهم و تثاقفوا و أنتجوا أدبا و شعرا و علما و فلسفة و ترجمة و لاهوتا في
حين كان الأوروبيون يغطون في نوم عميق و ينعمون في جهالة قرونهم الوسطى.
لم
تدم نهضتنا إلا خمسة قرون فقط ثم عدنا إلى جاهليتنا و عصبيتنا القبلية و بداوتنا
الأصلية و لم نحتفظ من الحداثة الإسلامية القروسطية إلا بالقشور و الفرائض الدينية
التي أفرغناها بسطحية ذهنية من عمقها و غناها الفكري و من مدلولاتها و مقاصدها
التجريدية النبيلة و لم يبقى فيها إلا الطقوس الشكلية كحركات المصلي و جوع الصائم
و تجارة الحاج.
غربت عنا شمسنا و لم تعد تشع علينا بنورها، حجبناها
فحجبتنا عن العالم، هجرناها فهجرتنا، تلقفها منا الغرب و فاز و رب الكعبة الفوز العظيم
فنهض من سباته و غرقنا نحن في عصور الانحطاط و إلى اليوم لم نفق.
سأوخز
إبري الحداثية النقدية في جلد هذا الديناصور العربي الإسلامي علّه يشغّل مخه و
أعصابه من جديد و يحس بوخزي المؤلم فينبض قلبه و يضخ دما و أوكسجينا في أطرافه
فتدب فيه الحياة و ينتفض بعد ما كاد ينقرض كزميله الحيواني.
على
سبيل الذكر لا الحصر، سأحاول النبش في الذاكرة الجماعية المحنّطة و أحاول كشف
مواضع ضعفها و مناطق ظلها و أسباب انهيارها المتواصل من القرن الثاني عشر ميلادي
إلى القرن الواحد و العشرين ميلادي:
-
تنكّرنا لفلاسفتنا العقلانيين العظام مثل ابن رشد و ابن
سينا و الفارابي و ابن المقفّع و سيبويه و التوحيدي و المعرّي و الحلاج، كفّرناهم
و أتلفنا بأيدينا تراثهم. أحرقنا بعض كتبهم و نثرنا رمادها في الأنهار، فسافر
دخانها و هجر أرضنا و سماءنا و تخطى حدودنا سحابا محمّلا بعبير مفخرتنا المتمثلة
في حداثتنا القروسطية العربية الإسلامية . روائح هذا الدخان الفكري و نسائم
ريحه أنعشت الأوروبيين المتخلفين، استنشقوا عطره العبق فنهضوا و لم يناموا منذ
القرن الثاني عشر ميلادي حتى الآن. بنوا حضارتهم و جامعاتهم بعلمنا و علمهم و
منطقنا و منطقهم و ترجمتنا لأرسطو و تراجمهم، تكيّف جسمهم العليل و تأقلم مع الفكر
الوافد الجديد و الحديث، لم يصرخوا و لم يتظاهروا و لم يقاوموا هذا الغزو الثقافي
الفكري العربي الإسلامي بل استعملوه و وظفوه لبناء حضارة كونية عتيدة و عظيمة. و
نحن نصرخ اليوم و نقاوم بدوغمائية و دون تمييز غزوهم الحداثي، "قتلتنا الردة. قتلتنا إن الواحد منا يحمل في الداخل, ضده" كما قال الشاعر العراقي اليساري العظيم مظفر النواب.
-
لم نول اهتماما لأروع ما في ديننا الحنيف من قيم إنسانية
مجردة سامية و نبيلة تتمثل في العلاقة العمودية و المباشرة بين الخالق و المخلوق و
لا هداية و لا وصاية لمخلوق على مخلوق مثله، صفات أخص بها الله نفسه وحده في قوله
تعالى مخاطبا رسوله الكريم: "انك لا
تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء". أخذ هذه المفاهيم
الإسلامية المجردة أو استوحاها المصلح الألماني العظيم مارتن لوثر، تبناها و نفض
عنها الغبار و جمّلها و أدلجها و أقلمها و كيّفها و مسّحها (من المسيحية) و أضافها
إلى المبادئ الأساسية لمذهب البروتستانتية المسيحية و قام بثورة دينية ضد سلطة
البابا الكاثوليكي و نزع عنه قداسته و وساطته بين الله و عباده المؤمنين و ألغى
صكوك غفرانه المزيفة.
-
الدكتور الهندي محمد إقبال (1877م - 1938م)، شاعر
الإسلام و فيلسوفه، غربل تراثنا الإسلامي و أوّلَ مفهوم "ختم النبوة" الذي
يختلف عنده عن المفهوم الكلاسيكي للختم الذي يشير إلى الاكتمال ضمن منطق تأبيد
الوصاية على عقل الإنسان و شرح كيف أن هذا الختم يعبّر - عكس المفهوم الكلاسيكي
تماما - عن معنى ارتفاع الوصاية عن عقل الإنسان. زار هذا العلاّمة بريطانيا و
إيطاليا و اسبانيا أستاذا
جامعيا محاضرا. طمسنا تفسيره العقلاني الإنساني لختم النبوة. ذهب الفيلسوف الحداثي
العبقري و ترك لنا أبو الأعلى المودودي مرجعا على مقاسنا و هو أحد أبرز رموز الحركة السلفية المعاصرة. و "عَـلَى قَـدْرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ === وتَــأتِي عَـلَى
قَـدْرِ الكِـرامِ المَكـارِمُ"، كما قال أشعر شعراء العرب على الإطلاق منذ سُمّي العرب عربا، أبو
الطيب المتنبي.
-
كتب الدكتور و الأكاديمي المصري نصر حامد أبو زيد نقدا
في الحاكمية لله (الحكم باسم الله و ليس باسم الشعب)، كفّرناه و نفيناه و طلّقناه
قسرا من زوجته. هاجر إلى هولندا أستاذا زائرا بجامعة ليدن بدءا من أكتوبر 1995م.
-
دافعت الدكتورة نوال السعداوي على كيان المرأة العربية
المسلمة، كفّرناها و حاصرنا فكرها في بلدها و في العالم العربي فهاجرت هي أيضا.
-
ضيقنا الخناق على علمائنا و لم نوفّر لهم محيطا مشجعا،
لا ماديا و لا معنويا، و أجبرناهم على الهجرة، الواحد تلو الآخر بعشرات الآلاف إلى
بلدان الحرية و الديمقراطية و البحث العلمي. أذكّر بثلاثة من أشهرهم، و هم المصريان،
العالم أحمد زويل، صاحب جائزة نوبل 1999 في الكيمياء و فاروق الباز، العالم
الجيولوجي في وكالة "نازا"، و التونسي محمد أوسط العياري، عالم
الميكانيك التطبيقية و الهندسة الفضائية. درّسوا في أحسن الجامعات الغربية و بحثوا
في أفضل مراكز البحث الأمريكية و الكندية و أنتجوا علما، أصبحنا نحن نستورده
بالعملة الصعبة تحت علامة "صنع في الولايات المتحدة الأمريكية". أَيفعل
الجاهل بنفسه أكثر مما فعلناه نحن العرب بأنفسنا؟
-
كنا نحمي تقليديا تربتنا و جونا و مائنا من التلوث. كنا
لا نبذّر في استغلال الثروات المنجمية الوقتية و نقتصد في الثروات النباتية و الحيوانية.
كنا نورّث أبناءنا بيئة سليمة و نظيفة. كنا روّاد الفلاحة البيولوجية و التنمية
المستدامة. كنا نزرع بذورنا و نربّي حيواناتنا المحلية المتأقلمة مع مناخنا. كنا في
كتاتيبنا، نلقّن قرآننا العربي الفصيح و هذا ما يُسمى في البيداغوجيا الحديثة
بالـ"حمّام اللغوي" حيث يستوعب الطفل اللغة الصحيحة دون فهم المعاني و
يكتسب و يخزن لغة فصيحة و نطقا سليما، قد يستثمرهما و يوظفهما في مرحلة الفهم. كنا
نتّبع تقليديا نظاما غذائيا متوسطيا صحيا و بيولوجيا و اقتصاديا متوازنا، تغلب
عليه البروتينات النباتية و الألياف.
-
أصبحنا نسمّم تربتنا بأسمدتهم الكيميائية المستوردة أو
المصنعة في بلداننا. أصبحنا نفرّط في ثروتنا المنجمية على شكل مادة خام بأبخس
الأثمان و نستوردها من الغرب سيارات و آلات مصنعة بأبهظ الأثمان. أصبحنا نستورد
أبقارهم و بذورهم أو قل بذورنا التي سرقوها في غفلة منا و عدّلوها جينيا و باعوها
لنا صالحة للاستعمال لكن لمرة واحدة فأجبرونا على التبعية الغذائية الجذرية و
استيراد البذور سنويا. أصبحنا نورّث أبناءنا تربة مفقرة و أرضا قاحلة. أصبحنا نستورد
تكنولوجيا الفلاحة البيولوجية و علم التنمية المستدامة. أصبحنا نودِع أبناءنا في
روضات شكليا غربية و فعليا عقوبة سجنية يسلطها الوالدان على أبنائهما. استوردنا من
الغرب نظام غذائه و ذوقه فانتشرت فينا أمراضه مثل السكر و أمراض القلب و الشرايين
بل تفوقنا عليه في هذا الميدان: نسبة مرضي السكري في فرنسا 2 بالمائة أما عندنا في
تونس فقد بلغت نسبة 10 بالمائة.
-
استعمرونا استعمارا مباشرا فكبدتهم المقاومة المسلحة
خسائر مادية و بشرية. أخرجناهم من الباب فرجعوا إلينا من النافذة في ثوب ناعم
يُسمى شركات متعددة الجنسيات. نهبوا ثرواتنا النفطية و المنجمية و سرقوا كنوزنا
الأثرية و رفضوا إرجاعها لنا، و زيادة في صفاقتهم و إمعانا في إذلالنا، أقاموا
بتراثنا متاحف في باريس و لندن و برلين و أصبحنا نحن الذين نسافر إليها لرؤية
تاريخنا و دراسته.
تاريخ أول نشر على النات
حمام الشط في 27 فيفري 2012
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire