دردشة مقاهي: هل صراع الطبقات
أو صراع المدنية و الأقل مدنية، هو المحرك الاجتماعي الأساسي و المحوري في
المجتمعات الأقل تمدّنا كبلدنا تونس؟ مواطن العالَم د. محمد كشكار
سمعت هذه الدردشة (حديث مقهى انطباعي
سطحي دون عمق و دون اختصاص و دون تنظير و
دون تجميل فني و دون تقيّد بالمواصفات العلمية للمقالات الأدبية) صادر عن أستاذ
فلسفة قدير متقاعد، حبيب بن حميدة، في الجلسة الصباحية حول الطاولة الثقافية في
مقهى "الويفي" بحمام الشط الغربية، الفكرة الأساسية فكرته أما التحرير و
التأثيث بالأمثلة فهو شخصي بحت.
موضوع الدردشة بين ثلاثة رجال
تعليم متقاعدين:
بدأ فيلسوفنا بتعريف الإنسان البَدَوي
من البدو الرحّل: هو عدو العمل، لا يبادر و دوما ينتظر "كرم" الطبيعة و ترعرُعِ
العشب ليسوق غنمه أو إبله نحو الصحراء الخضراء، تأكل منها أنعامه فتدر هذه الأخيرة
حليبا و تربي صوفا، يتغذى من الأول و يكتسي من الثاني، و إذا مرضت له نعجة من
نعاجه يأكلها لحما و شحما و يستغل صوفها. طفيلي و كسول و بخيل و عدو العمل بـ"طبعه"
(حسب رأيي، لا يولد الراعي بخيلا و إنما يصبح بخيلا حسب نظرية ما بعد الوراثي
Épigenèse cérébrale
التي تقول أن الصفات الذهنية هي
مائة بالمائة وراثية و مائة بالمائة مكتسبة في نفس الوقت).
ثم سرد لنا الأسباب الأربعة
للفعل الطبيعي و البشري عند أرسطو: و هم دون ترتيب المادة و الشكل و الغاية و
الفاعلية. و صاحبنا البدوي، الراحل كامل السنة من وادي إلى وادي، لا يهتم بالشكل و
لا يخطط للمستقبل و ليست له غاية يطمح إلى إدراكها أو أمنية في الحياة يريد تحقيها
أو تعليم يرغب في إنهائه في أسرع وقت و
عديم الفاعلية المدنية و وقته، جله وقت فراغ، لأنه غير مستقر في سكنه، لم يدخل
مدارس و طوال السنة الدراسية يجر وراءه أولاده و يحرمهم عن دراية و سابق إضمار من
التعلّم و التمدّن و التحضّر ويجرهم إلى الجهل جرا كما يجر حيواناته العاشبة إلى
الماء و العشب، يتحمل مسؤولية الأول كما يتحمل مسؤولية الثاني عن طمع في كلتا
الحالتين، الدواب للمنفعة العاجلة و الأبناء للمنفعة الآجلة، و هؤلاء الأخيرين هم
مَن يعوضونه في الرعي و الترحال و هم مَن يتحملون مسؤوليته عند الكبر و العجز عن الغزو
و المشي و الرعي و الحلب و الجز و السفر.
نأتي الآن إلى تطبيق مبدأ
صراع المدنية و الأقل مدنية (أو الحضارة و البداوة الفعلية في بعض التجمعات
البشرية في الدول غير المتقدمة) و نرى كيف يحل هذا الصراع محل الصراع الطبقي الذي
يعجز أحيانا عن تفسير الصراع الاجتماعي خاصة في بلدان العالَم الثالث مثل تونس،
لكن دعنا نبأ بالتاريخ أولا عله يعبد و ينير لنا الطريق ثم ننهي بالحاضر غير المشجع:
-
بدأ النبي محمد - صلى الله عليه و سلم - دعوته في مكة (مكة
أكثر تمدنا من المدينة، مكة مجتمع مستقر تجاري، يكتب و يقرأ و يقيم للشعر سوق عكاظ،
أما المدينة فهي مجتمع مستقر أيضا لكنه زراعي و لا يهتم بالثقافة مثل مكة)
بالاعتماد على فقراء مكة و مهمشيها و الأقل تمدنا و الذين ليس لهم ما يخسرونه سوى
أرواحهم ضد الأغنياء من التجار الكبار أصحاب الآلهة و الجاه و القصور و القوافل و
النساء و الأولاد و ذوّاقي الخمر و الشعر و ممارسي الحكم بالشورى الأرستقراطية، ثم
هاجر إلى المدينة عندما لفضه المجتمع المكي المتمدن و هو الراعي للغنم في أول
حياته و راعي الأقل تمدّنا من المستضعفين و الفقراء و المهمشين و العبيد و النساء
و المساكين و عديمي الغنى و الجاه في كهولته. هاجر إلى المدينة عندما قسا عليه
المتمدنون من أهل مكة، و رجع إلى مكة فاتحا مستنصرا بالمهاجرين و الأنصار و
الأعراب الأقل تمدّنا من من المكّيّين المنهزمين.
-
في عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ارتدّ، و بسرعة
البرق، الأعراب - الأقل تمدنا من القرشيين - على الإسلام لكنهم فشلوا في ثورتهم لجِدّة
و جِدّية الخليفة و أصحابه ورثاء النبي صلى الله عليه و سلّم و قرب هؤلاء الأخيرين
من البداوة أيضا.
-
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخليفة الراشد الثاني، لعله
تفطن إلى هذا المحرك في الصراع الاجتماعي و الذي سماه ابن خلدون "بداوة -
تمدّن" عندما قال قولته الشهيرة: "تخوشنوا بني قومي، إن الحضارة لا تدوم"،
و فعلا لم تدم أكثر من ثلاثة قرون ذهبية. الأندلس أكثر تمدنا من الدولة العباسية و
هذه الأخيرة أكثر تمدنا من الدولة الأموية و هذه الأخيرة أكثر تمدنا من الخلافة
الراشدة و هذه الأخيرة أكثر تمدنا من مكة و هذه الأخيرة أكثر تمدنا من المدينة و القبائل
العربية الرحّل. لعله من الأنسب أن أذكر هنا بقولة شهيرة لعالِم الاجتماع العربي
المسلم ابن خلدون: "إذا عُربت خُربت"، و يبدو لي أن تفسيرها هو الآتي:
الأقل مدنية أو الأقرب إلى البداوة يخرّب المدنية و ينتصر عليها و أذكّر بحديثين
يُنسبان للرسول محمد - صلى الله عليه و سلّم - و أهل الذكر أعلم: "أمتي في المدن" و
"الأعراب أشد كفرا"، و المقصود بالأعراب حسب ظني هم بدو العرب.
-
فتح العرب المسلمون فارس و الشام و المغرب و انتصر العرب
الأقل تمدنا على الفرس و البيزنطيين الأكثر تمدنا.
-
بعد ثلاثة قرون تقريبا، أعاد التاريخ نفسه و انتصر الأقل
تمدنا، المغول و التتار، على الأكثر تمدنا و هم العباسيون.
-
في القرن العاشر ميلادي تقريبا، انتصر البدو الهلاليون
على المدنيين الصنهاجيين في تونس و عرّبوا البلاد بعد ما خرّبوها عمرانا و زرعا
زيتونا من جنوبها إلى وسطها إلى شمالها تعريبا نهائيا.
-
في آخر القرن الخامس عشر ميلادي، طُرد المسلمين المتمدّنين
شرّ طردة من الأندلس - بعد ما حكموا في مدنها ثمانية قرون بتمامها و كمالها - من
قبل سكان اسبانيا المسيحيين الريفيين الأجلاف و الأقل تمدنا من المحتلّين العرب.
-
ثورة صاحب الحمار انطلقت من الجنوب الأقل تمدّنا و
اكتسحت القرى و المدن الشمالبة الأكثر تحضّرا.
-
ثورة ماو تسي تونڤ استعانت بالفلاحين الأقل تمدنا لفتح
المدن الكبيرة و العريقة في الحضارة الصينية الألفية.
-
ثورة زوجة ماو تسي تونڤ و ثورة بول بوت الزعيم الشيوعي الكمبودي،
الشيوعيتان الثقافيتان المشؤمتان استعانتا بالأقل تعلما و الأقل ثقافة لقمع
المثقفين و الأساتذة الجامعيين كما فعلت أيضا اللجان الشعبية القذافية في المغفور
لها الجماهيرية الليبية "العظمى".
-
يبدو لي أن الماركسية أكثر تمدنا من الدولة اللينينية و الدولة
اللينينية أكثر تمدنا من الدولة الستالينية و الدولة الستالينية أكثر تمدنا من الدولة الماوية و الدولة الماوية أكثر تمدنا من الدولة
الكمبودبة البول بوتية و دائما الدولة الأقل تمدنا تطيح بالدولة الأكثر تمدنا و
كلهم في الآخر سقطوا و بقيت الماركسية المدنية كنظرية أو كحلم بشري مستحيل التحقيق
على الأقل في القرن الحالي أو الذي يليه أو الذي يليه.
- في حروب التحرير الجزائرية و الفيتنامية و الأفغانية و اللبنانية، انتصر المحاربون الأقل تمدنا عسكريا على جحافل الجيوش الأكثر تمدنا عسكريا و هي بالترتيب الجيوش الفرنسية (1962) و الأمريكية (1975) و السوفياتية (1989) و الإسرائيلية (2006) .
-
جل المنتمين إلى الأحزاب الليبرالية الاجتماعية اليمينية،
يأتون من الطبقات الأكثر تمدنا و الأكثر غِنى و أما المنتمون إلى الأحزاب الشيوعية
كالمسار و حزب العمال و حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد و الحزب الوطني
الاشتراكي الثوري، فجلهم أو كلهم مثقفون متمدنون فكريا و متوسطون ماديا و ليس
للعمال و الفلاحين، الأقل تمدنا، مكان في أحزاب العمال و الفلاحين. و على سلّم
التمدن، يبدو لي أن المتمدنين يتناقصون نسبيا إلى الأقل تمدنا، انطلاقا من حزب
نداء تونس، يليه المسار، و يليه حزب العمال في الدرجة الأسفل ثم حزب الوطنيين الديمقراطيين
الموحد و يأتي في أدنى السلم الحزب الوطني الاشتراكي الثوري (لا تحزنوا رفاقي الأعزاء،
فإن البداوة ليست كلها شر و قد تبدو في بعض قيمها جيدة للغاية، كقيم الكرم و
الشجاعة و النبل و نكران الذات و الصدق و الشفافية، و لا تنسوا أن الأقل تمدنا هو
الأكثر ثورية لأن ليس له ما يخسر سوى أغلاله كما يقول ماركس على العامل أما العامل
اليوم فهو أقل ثورية لأن له مكتسبات يخشى فقدانها، كالمرتب القار و القروض البنكية
التي تأتي بالمسكن و السيارة).
-
جل قيادات و كوادر حزب حركة النهضة من المتمدنين و جل منتمي الحزب من الطبقات الأقل
تمدنا لذلك - حسب وجهة نظري - هزم الأحزاب الليبرالية اليمينية و اليسارية الأكثر
تمدنا أو قربا من المدنية الغربية على الأقل دون الوقوع في الحكم القيمي المخل
بالذات البشرية مهما كان انتماؤها السياسي أو الطبقي. و الخوف كل الخوف أن يهجر النهضةَ
ناخبو النهضةِ في 23 أكتوبر 2011 بعد ما اكتشفوا متأخرا و بعد الانتخابات تمدن
قياداتها و كوادرها (يتمثل تمدن هؤلاء الأخيرين في التخلي عن تطبيق الشريعة و
اعترافهم بحرية المعتقد) و يلجؤون إلى أحزاب أقل تمدنا كحزب التحرير و حركة
السلفيين العلميين أو السلفيين الجهاديين و هؤلاء الأخيرين هم الأقل تمدنا في
شرائح منتخبي النهضة لذلك هم الأكثر ثورية من بين الإسلاميين.
-
أنهي أخيرا بثورة 14 جانفي 2011، انطلقت يوم 17 ديسمبر
2010 من الولايات الأقل تمدنا، و هي سيدي بوزيد و تالة و القصرين و بوزيان و
بنڤردان و دوز و انتهت يوم 14 جانفي 2011 في شارع بورقيبة الأكثر تمدنا في كل بر
تونس، كما انطلقت انتفاظة الخبز عام 1984 من دوز، أقل المدن التونسية تمدنا و
أكثرهم قربا من البداوة و لا زالت حتى اليوم تضم رعاة رُحّل يعيشون فقط على تربية
الماشية في الصحراء متنقلين من مرعى إلى مرعى حسب تغيرات الطقس.
خاتمة
أستسمح الماركسيين في محاولة قلب
مفهومهم الأساسي و المحوري و من باب اللياقة الأدبية غير الفكرية، أعتذر منهم لو
قلت لهم أن قولة ماركس المشهورة "الصراع الطبقي هو المحرك الأساسي و المحوري للتاريخ
البشري القديم و المعاصر" هي قولة لم تعد تفسّر كليا الصراع الاجتماعي المعاصر
الدائر خاصة في البلدان غير المتقدمة كبلدنا تونس، و أتجرأ بكل تواضع لكن دون
تجاوز نهائي للماركسية، و أعوّض هذا المفهوم الماركسي السابق بمفهوم خلدوني "قديم
- جديد" و هو "الصراع بين المدنية و الأقل مدنية (أو بين الحضارة و
البداوة) هو المحرك الأساسي و المحوري للتاريخ البشري القديم و المعاصر".
الإمضاء
"لا أحد
مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن
أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه" عبد الله العروي.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم
بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا
بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي.
تحية دائمة و متجددة لزملائي المربين: في ألمانيا المعلمون أعلى دخلاً في البلد، وعندما
طالب القضاة والأطباء والمهندسون بالمساواة ؛ ردت عليهم ميركل: كيف أساويكم بمن
علّموكم؟
قال ويليام بلوم: لو كان الحب أعمى فـالوطنية الشوفينية
الضيقة
الإقصائية و
المتعصبة فاقدة للحواس الخمس.
"الذهن غير المتقلّب غير حرّ".
"الكاتب منعزل إذا لم يكن له
قارئ ناقد".
"الرجل الذي يقلّم نفسه ليُرضي الآخرين، سوف
يتلاشى في القريب العاجل".
ما أقصر العمرَ حتى نضيّعه في
الهجر و الجفاء بين الأحبة و الأصدقاء!
"أليست ممارسة الفكر ضربا من الانشغال بالذات و الاشتغال عليها و
ممارستها؟" علي حرب.
Nietzsche :
Il faut frapper avec un marteau sur les mythes, non
pour les détruire, mais pour les faire résonner car ils sont creux
Dr Mohamed Talbi :
J’essaie en permanence de ne pas me fermer, de lire ce
qu’écrivent ceux qui ne sont pas de mon avis. Après cela, je cherche à
présenter ce que je considère comme vrai. Si cela ne l’est pas, au moins je
l’aurai cru tel
الكتابة بالنسبة لي، هي
مَلْءُ فراغ، لا أكثر و لا أقل، و هواية أمارسها و أستمتع بها، متعة ذهنية لا
تساويها أي متعة أخرى في الوجود. أحاول
دوما أن أبني ذاتيا تصورات علمية جديدة مكان تصوراتي غير العلمية القديمة. م.
ع. د. م. ك.
تاريخ أول نشر على النت
حمام الشط في 29 ماي 2013.