كتاب "خطاب الهوية. سيرة
فكرية" لعلي حرب، الطبعة الأولى 1996، دار الكنوز الأدبية، بيروت لبنان، 176
صفحة.
نص علي حرب:
صفحة 162: فاستوت عندئذ في نظره
العقائد جميعها. وصار يرى في كل معتقد أو شرع أو مذهب، وجها من أوجه الحق، أو صورة
من صوره، أو اسما من أسمائه. وتقرّر عنده أن لا موجود إلا وينتسب إلى الحق نسبة
ما، إذ لا شيء سوى هذه النسب والإضافات. واطرح، إذ ذاك، المفاضلة بين الثقافات والعقائد
والمذاهب. وانجلى له أن كل هوية تخفي بقدر ما تبدي، وتعطي بقدر ما تحرم. وأن كل
معتقد يعقد في مجال ويحل في مجال. وأن كل مذهب يستحسن أشياء ويستقبح أشياء. وأن كل
قول يصرح بشيء ويسكت عن شيء. وأن كل فكر يكشف حقيقة ويحجب أخرى. وأن كل ثقافة تؤدب
بقدر ما تقمع، وتهذب بقدر ما تلجم. وأن كل نظام يصلح بقدر ما يفسد، ويرتق بقدر ما
يفتق. وأن كل تأسيس يبقي على جوانب وينفي جوانب.
وتكونت عنده رؤية متكاملة للإنسان.
إذ الإنسانية لا تستنفذها هوية بعينها، ولا يحتويها عرق مخصوص، أو جماعة خاصة. ولا
تستغرقها حقبة معينة، أو طور تاريخي خاص. ولا يعرفها صنف من أصناف البشر، أو نموذج
من النماذج البشرية. فمنها الوحشي والمتمدن، والقديم والحديث، والزنجي وغير
الزنجي، والغربي والشرقي، والشمالي والجنوبي، والجاهلي والإسلامي، والمؤمن والمهرطق،
والسوي والمجنون، والمنضبط والمنحرف، والراشد والطفل...وصار يعتبر كل تجربة
إنسانية نمطا من أنماط الكينونة، ومغامرة من مغامرات العقل، وشكلا من أشكال
الحضور، وجزءا من تراث الإنسان. ونظر إلى الإنسان بكل شروطه وأبعاده، وبمختلف
شروطه وأطواره، بتعاليه وتناهيه، بمفارقته وملازمته، بكماله ونقصه، بعقله ووهمه،
بإيمانه وشكه، بحكمته وحمقه، بصلاحه وفساده، بمسالمته وعدوانيته، بحبه وكرهه،
بنبله ودناءته، بذاتيته واختلافه. ووجد أن ما يفتقده المرء على مستوى، يجده على
مستوى آخر. وما ينفيه بوجه، يستعيده بوجه آخر، وما ينقطع منه من شيء، يصله في آخر.
وما ينقصه في جانب، يستكمله في آخر. وما يفوته في طور، يحققه في طور آخر. وتحقق
عندئذ من معنى "الإنسان الكامل". فالإنسان يحفظ جميع الأسماء، ويقبل كل
الصور ويتمرأى مع كل الذوات. فهو ذرة في الكون، ولكنه يشتمل على مفرداته، ويختزن
أسماءه وصوره. إنه عالم أصغر ينطوي على عالم أكبر. وأيقن أن كل ما يحدث في هذا
الكون حقائق لا سبيل لجحدها. فالتقى والفجور، والعلم والجهل، والعدل والجور، والمحبة
والعداوة، والحسن والقبح، والسعادة والشقاوة، والحياة والموت...كلها حقائق، ولكنها
ليست الحق. إن الحق أوسع من أن يحد ويحصر. وخلص إلى أن أنسب ما يوصف به هذا
الإنسان يمكن استعارته من مصطلحات الصوفية. فهو ليس شيئا آخر سوى هذا التقلب بين
الظاهر والباطن، والأول والآخر، والشاهد والغائب، والهوية والغيرية، وذلك التردد
بين مختلف الأسماء والصفات، والأشكال والأوضاع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire