فكرة مخالفة تماما للمنطق
السياسي السائد: يبدو لي أن قمع الحريات الذي سلطه بورقيبة و بن علِي على الأحزاب
السياسية طيلة نصف قرن، قد يكون سببا غير مباشر في قيام ثورة شعبية ديمقراطية خالية
من الإيديولوجيات المهيمنة و القيادات الحزبية الضيقة! مواطن العالم د. محمد كشكار
مقدمة توضيحية تجنبا لسوء
الفهم أو المزايدات الإيديولوجية التي لا تسمن و لا تغني من جوع في هذا الموضوع
الذي يتناول بالنقد الأحزاب السياسية و إيديولوجياتها الضيقة المنغلقة على نفسها:
أقدّر دور الأحزاب السياسية
الديمقراطية حق قدره، بل أقول أن لا سياسة دون أحزاب منظمة و مهيكلة و علنية،
لكنني في الوقت نفسه أحافظ على استقلاليتي و حقي في النقد من خارج المنظومة
الحزبية و ككل المستقلين غير المنتمين، لا أرى تعارضا بين النشاط الفكري النقدي للمستقلين
و النشاط الحزبي للمنتمين بل بالعكس أرى تكاملا لو تشاوروا فيما بينهم جميعا و
استفادوا و تعلموا من بعضهم البعض.
لا أتمنى البتة أن يتبادر إلى
ذهن القارئ - و لو للحظة واحدة - الشك في أنني أمجّد غياب الديمقراطية أيام القمع
البورقيبي أو القمع البنعلي للحريات بل أدينها بكل ما أوتيت من قوة ولا أحنّ إلى
عهديهما و أطالب بمحاسبة المتسببين فيها و أطمح إلى إطلاق حرية التفكير والضمير و
الإبداع دون قيد أو شرط إلا ما يضعه المبدعون لأنفسهم تماهيا مع مجتمعهم العربي
الإسلامي، أو الشك في أنني أؤسس لنظرية قائمة على قمع الحريات حتى و لو جنبتنا عرَضا
الدعاية الإيديولوجية المعطِّلة للتفكير والضمير و الإبداع.
موضوع النقد: غياب
الديمقراطية خلال نصف قرن من عهد بورقيبة وعهد بن علي غير المأسوف عليهما قد يكون
سببا غير مباشر في عدم انتشار مضارّ التكوين الحزبي الإيديولوجي و مضار تعميمه على
عقول المواطنين التونسيين:
يبدو لي أن قمع الحريات الذي
سلطه بورقيبة و بن علِي علَى الأحزاب السياسية طيلة نصف قرن، قد نجح دون قصد في
الحد من انتشار مضارّ التكوين الحزبي
الإيديولوجي و مضار تعميمه على عقول المواطنين التونسيين، و قد يكون سببا غير
مباشر في قيام ثورة شعبية ديمقراطية خالية من الإيديولوجيات المهيمنة و القيادات
الحزبية الضيقة!
من المفارقات الكبرى أن يرى
مثقف فائدة غير مقصودة ناتجة عن غياب
الديمقراطية و قمع الحريات، لكن الواقع - الذي لم نشارك في صنعه و لكننا رضخنا رغم
أنفنا إلى قانونه - يفرض علينا نتائجه المنبثقة من شروطه الظرفية. لقد جنّبنا قمع
الحريات - دون وعي منا - انتشار مضارّ التكوين الحزبي الإيديولوجي على عقول عموم
المواطنين، فكان من حسن حظنا - نحن غير المنتمين - أن نجونا من التأثيرات السلبية
التي تنجر عادة عن انغلاق العقل على إيديولوجية واحدة و رأي واحد و حزب واحد و
زعيم واحد و حقيقة واحدة.
غاب التكوين الحزبي
الإيديولوجي العلني المعمم طيلة نصف قرن، فانجرّ عنه صدفة صفاء ذهننا - نحن غير
المنتمين و غير المؤدلجين - و خلا مخنا من الإيديولوجيات المعطِّلة لحرية التفكير
و الضمير و الإبداع. صفاءٌ ذهنيٌّ جرّنا
إلى القيام بثورة شعبية ديمقراطية. ثورة فريدة من نوعها في التاريخ البشري، ليس
لها قيادة "رشيدة"، ولا إيديولوجيا منغلقة مهيمنة، و لا حزب طلائعي طاغ،
و لا قيادة فئوية ضيقة، و لا منشورات سرية. ثورة علنية شفافة نقية. ثورة عفوية أو
هبّة شعبية غير مبيتة و غير مبرمجة. ثورة لم يُرفع فيها أي شعار حزبي أو إيديولوجي،
قوميا كان أو اشتراكيا أو إسلاميا أو ليبراليا أو سلفيا. ثورة رُفعت فيها شعارات
الحرية و الكرامة و التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق (جمع سارق) و الشعب يريد
إسقاط النظام و أفضل شعاراتها، كان بلا منازع و لا منافس، شعار ديقاج (ارحل)، صيحة
شعبية مدوية في وجه الطاغية بن علي، أمرناه "بكل حزم"، فنفذ أمرنا بسرعة
البرق و بعد سويعات فرّ مهانا هاربا مذعورا إلى السعودية هو و عائلته المضيقة.
ثورة طلبت العُلَى (الحرية و
الكرامة والديمقراطية)، و لم ترض بالفُتات (التخفيض في أسعار بعض المواد الغذائية
الضرورية) فنالت المستحيلَ. قال الغبي بن علي - مرددا قولة الزعيم الفرنسي الجنرال
ديقول في غير عصرها و في غير موضعها - أنه
فهمنا ومَن ليس له ذكاء شعبنا لا يفهمنا. ظن الغبي بن علي - مرددا قولة الزعيم
التونسي الحبيب بورقيبة في غير عصرها و في غير موضعها - أننا سنرضى بتخفيض أسعار
بعض المواد الغذائية الضرورية كما حصل في انتفاضة الخبز سنة 1984. لم يفهم أننا طُلاّبُ
ديمقراطية و حرية وكرامة و لسنا جياعا متسولين. انفضّ من حوله جيشه و شرطته و
تجمعييه (الحزب الحاكم آنذاك، "التجمع الدستوري الديمقراطي"، الذي
يتجاوز تعداد أعضائه المليون عضو)، فبقي
وحيدا عاريا ضعيفا لا حول و لا قوة له. ثورة سلمية انتصر فيها شعب أعزل على أعتى
نظام بوليسي في شمال إفريقيا و العالم العربي.
ملاحظة هامة للأمانة العلمية:
لقد سمعت هذه الفكرة في
الطاولة الثقافية بمقهى الويفي بحمام الشط الغربية يوم أول أمس صباحا، الجمعة 31
جانفي 2014، من صديقي و جليسي اليومي، الحبيب بن حميدة، أستاذ الفلسفة القدير
المتقاعد، أما التأليف و التوسع و التأثيث و الكتابة و النشر فهو من إنتاجي الشخصي.
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط، السبت 2 فيفري 2014.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire