جمنة
الستينات تعطي درسا في التنمية المستدامة: النظام الغذائي
البيولوجي الجمني نموذجا. مواطن العالم من أصل جمني د. محمد كشكار
تاريخ
أول نشر على النت: حمام الشط في 28 جانفي 2010.
في الستينات و في قريتنا, لا يوجد جزّار و لا بائع خضر و
لا دكان مرطبات و لا طبيب و لا صيدلية و لا مركز حرس و لا بلدية و لا مغازات لبيع
الآلات الكهربائية المنزلية. في قريتنا بشر و فراشات و قطط و ماعز و ورد و نخل و زيتون و رمان و هواء نقي و شمس ساطعة
و عمدة اسمه الشيخ ابراهيم، تتمثل مهمة هذا الأخير في التوفيق بين الناس و ستر عوراتهم و الذود عن
أعراضهم و ليس الوشاية بهم لدى السلطة البعيدة في معتمدية قبلي (15كلم). في قريتنا
بيوت آمنة مفتوحة على الدوام و قلوب صافية
لا تعرف العنصرية و لا التكبر, ترحب بالجار و الضيف و البعيد و القريب.
نساؤنا نساء و رجالنا رجال، يعمل الاثنان جنبا إلى جنب
في الحقل و البيت دون تفرقة في الجنس و الحقوق و الواجبات. يكفل الجار أيتام جاره و
قد يعوض أباهم في الحنان و المسؤولية و الجارة تضاهي الأم في الرقة و الحب مع
أولاد و بنات جارتها. أطفالنا يحترمون الكبير و شيوخنا يربّون الصغير. بلادنا يا
ناس من أجمل و أروع البلدان. كلمة جزار كلمة مكروهة في الأخلاقيات البيولوجية و
كلمة حرس مكروهة في الأخلاقيات الريفية لاقتران الأولى بذبح الحيوانات و الثانية بالسلطة
المفروضة من الخارج. تنتج كل عائلة جمنية تقريبا كل حاجتها الغذائية أو تأخذها من
الجار إعارة أو هبة. لا نربي خرفانا و لا أبقارا لأنها تأكل كثيرا و تشرب كثيرا )إنتاج كيلو لحم بقر يحتاج تقريبا إلى 100.000 لتر من الماء و
في الصحراء يعز الماء( بل نربي ماعزا و دجاجا يرعى في حرية من الصباح
إلى المساء و يغذي نفسه بنفسه تقريبا مثل النباتات الخضراء. لا توجد حنفيات في
منازلنا، فلا نبذر الماء و لا نستهلك منه إلا القليل الضروري. يعتمد نظامنا
الغذائي على النباتات فنحن تقريبا نباتيون، لا نذبح العنزة إلا في عيد الأضحى
للضرورة الدينية أو عندما تكون مريضة.
نشرب
حليب العنزة, و نأكل بيض الدجاجة, و نستعمل فضلاتهم سمادا عضوياّ فلماذا نذبحهم يا
ترى؟ لا نعتدي على حيواناتنا الأليفة بالعنف و إلا لماذا نسميها أليفة؟ أليفة
لأنها ألفت من غدرنا و جشعنا و نهمنا. نأكل الفرع و نحافظ على الأصل. لا نستهلك
السكر الأبيض و الحليب الأبيض إلا في الشاي. لا يبيع دكان العطار أي نوع من أنواع الياغورط و الشكلاطة و البسكويت و الجبن, أراحنا
الله من الأغذية المصنعة و الملونة و المسرطنة. وجبتنا بسيطة جدا و بيولوجية مائة
بالمائة لأننا لا نستعمل في إنتاجها سمادا كيميائيا و لا مبيدات أعشاب و لا مبيدات
حشرات. نكتفي بما تنتجه الطبيعة و نقنع بالقليل لسد الرمق. لا نصنع حلويات في عيد
الفطر لاقتناعنا التقليدي أنها ليست غذاءًً بل سموما عسيرة الهضم تنهك "البنكرياس"
و القلب و الشرايين. نزرع الحبوب في السهول فيسقيها مفرّج الكروب, نحصدها بالسواعد
و المناجل, نفصل حبات القمح عن سنابلها بطريقة تقليدية يدوية و نطحنها برحى حجرية يدوية و نغربلها و نصنفها برغلا و كسكسا
و خبزا. مطبخنا فقير لكنه صحّي جدا, لم
نكن نستهلك لا مَرَق لوبيا و لا مرق جلبّان و لا مرق ملوخية و لا بطاطا مقلية و لا
"طاجين" و لا أرز بالفواكه و لا سمك, لا مقلي و لا مشوي. وجبتنا مغذية
لكنها ليست لذيذة مثل أطعمة المدينة.
اللذة في الطعام يا سادتي يا كرام تصحبها دائما الأمراض:
خذ مثلا الأكل المقلي أو الدسم, يُعَدّ من أشهى الأطعمة لكنه يدمر القلب و
الشرايين, و قد تنخر أطباق الحلويات المتنوعة الأسنان و ترهق "البنكرياس"
و تمهّد لمرض السكر, أمّا المصبّرات المملّحة فقد ترفع ضغط الدم. نطبخ و نأكل في أواني مصنّعة يدويا
من الطين و خالية من النحاس و الألومونيوم المسرطنين . نغسل هذه الأواني بالطين
الأخضر أو بالصابون الأخضر الطبيعي. لا نستهلك من الطاقة إلا القليل مما يطرحه
نبات النخيل من خشب و جريد جاف. النخلة و ما أدراك ما النخلة في تراثنا و في وجداننا,
مصدر رزقنا و سعادتنا, نسقيها و نمدها بالسماد العضوي فقط. لا نغشها و لا نسمّمها
بالكيميائيات. نربيها سنوات بحب و حنان حتى تثمر على مهلها "رطبا جنيا"
نأكل منه القليل و نبيع الكثير و ما زاد عن حاجتنا نخزنه في أوعية خزفية لنستل
روحه في لطف و أدب على مدى الفصول الثلاثة الباقية. لا تمثل المعزة في غذائنا
الشيء الكثير و مع ذلك نكرمها و نرحب بها تسكن معنا في نفس المنزل و نعاملها دون
مبالغة كفرد من أفراد العائلة. كانت أمي تستيقظ في أنصاف الليالي عند صياح معزتها
لتراقبها و تقدم لها الماء و الغذاء. كان الغائب منا يسأل في رسائله عن العائلة و
عن المعزات. عندما تلد المعزة, نحتفل بولادتها و نقدم لها أكبر الرعاية و لا نسرق
حليبها الأول المتدفق الغني بالمضادّات الحيوية بل نتركه لابنها. ابنها الجدي أو
ابنتها العناق يعني الذكر أو الأنثى الذي أو التي يملأ أو تملأ ساحة البيت فرحا و
بهجة بقفزاته أو قفزاتها الرشيقة و هذه الصورة الرقيقة ما زالت عالقة بمخيلتي بعد
خمسين سنة و كلما تذكرتها غمرتني سعادة
منعشة.
في الثمانينات, جاءنا المحتل متنكرا في زي التمدن و
التحضر فأهلك الحرث و الزرع, أصبحت بيوتنا
من حجر أصم مثل قلوبنا. جاءنا الحرس الوطني فأصبح الأخ يشتكي أخاه و الجار يشتكي جاره
لأتفه الأسباب فانقرض التسامح و سادت الوشاية. أغلقنا بيوتنا بالمفاتيح فكثر
السراق. تخلى الكبير عن مسؤولياته التربوية فلم يعد يحترمه الصغير. تفشت فينا
العنصرية و القبلية و تهافتنا على السلطة الزائفة.
في التسعينات, جاءنا الخير الكبير و النخل الكثير و
الفضائيات العشوائية و أصبح لنا مليونيرات و سيارات "ديماكس".
أتمنى من كل قلبي أن لا يقتصر الغِنى على الجيوب فقط و
يشمل هذا الخير القلوب و النفوس فنتمسك أكثر بعاداتنا التقليدية الجيدة و لا نأخذ
من غول الحضارة إلا ما يفيدنا في نهضتنا و أكلنا و تربيتنا و ثقافتنا.
v جمنة:
قرية جميلة في الجنوب الغربي التونسي على أبواب الصحراء الرملية.
v ديماكس:
نوع من السيارات اليابانية المستعملة في النقل الفلاحي و التجاري و الصناعي.
v طاجين:
أكلة تونسية دسمة جدا و هي خليط متماسك من
البيض و الجبن و اللحم.
v البنكرياس:
غدة في الجسم تنتج الأنسولين وهو هرمون ينقل السكر إلى الخلايا لحرقه فيخفض نسبته
في الدم إلى 1 غرام جليكوز في اللتر الواحد عند كل صباح.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire