مخ المرأة ليس
أقلّ من مخ الرجل و ليس مماثلا له.
مواطن العالم د. محمد كشكار
تاريخ أول نشر
على النت: حمام الشط في 27 نوفمبر 2008.
أنطلق في هذا المقال من بحث أجريته عام 2000 علي عينة تونسيّة تتكوّن من
275 شخص، مستوي تعليم عال. أبدأ أوّلا
بموضوع من مواضيع هذا البحث حيث توصّلت
إلي النتائج المتواضعة التالية: 33 % من
الأشخاص المستجوبين يعتقدون خطأ أن وزن مخ المرأة أقلّ من وزن مخ الرجل.
من المرجّح أن يرجع أصل هذه التصوّرات غير العلمية الراسخة في أذهان أفراد
العيّنة إلي دراستهم الثانوية التي تعتمد على أعمال العالم الفرنسي"بروكا",
مكتشف مركز الكلام ( Le
langage) في المخ, أو
إلي غياب تدريس تاريخ العلوم في الاختصاصات العلميّة بالمعاهد و الجامعات، و من لم
يدرس الإبستومولوجيا، لا يري أخطاء العلماء عند بناء علمهم.
في سنة 1861، وَزَنَ العالم الفرنسي "بول بروكا" أمخاخ مجموعة
من الرجال و النساء، فوجد أن مخ المرأة اقلّ وزنا من مخ الرجل. استنتج "بروكا"
علاقة سببية غير علمية بين النتيجة العلمية الّتي توصّل إليها و ظاهرة نقص الذكاء المكتسب
عند المرأة.
بعد 120 سنة، و في كتابه " القياس الخاطئ للإنسان" ( la mal-mesure)، أعاد عالم الأحافير (Les fossiles) الأمريكي
"ستيفن جاي قولد" النّظر في أعمال بروكا فوجد أنّ معدّل وزن المخ عند
الذكور يساوي 1325 غرام، و عند الإناث 1144، فليكن الفارق 181إذن غرام.
فنّد "قولد" هشاشة استنتاجات بروكا شبه العلمية و قال:"ينقص
وزن المخ مع العمر، وفي عيّنة بروكا
النساء أكبر سنّا من الرجال"، ثم أضاف: "يكبر حجم و وزن مخ تناسبيّا مع
القامة وفي عيّنة بروكا الرجال أطول من النساء 15
سنتمترا.
أعاد "قولد" تحليل معطيات بروكا فوجد أنّ الفارق في وزن
المخّ، بين رجل قامته 1.62 متر و آخر قامته 1.93، يساوي 113 غرام و رغم هذا الفارق
الكبير لا أحد يفكّر في اعتبار الرّجل الطّويل أكثر ذكاء من القصير، و لو
كان الذكاء مرتبط بالوزن لكان حوت العنبر و هو من الثدييات البحرية أذكى مخلوق على
الأرض لأن مخه يزن 10 كيلوغرام.
أثبت "قولد" أن الاختلاف في الوزن لا علاقة له بالجنس، بل يتبع
الاختلاف في القامة و العمر، لكن و بعد مرور أكثر من قرن على اكتشاف
"بروكا"، فلا زالت الاعتقادات الـ"بروكية" غير العلمية تؤثّر
في أجيال المتعلّمين.
ليس من السهل الخروج من هذا المأزق و تمرير موقف علمي من هذه التصوّرات الـ"بروكية"
غير العلمية الّتي قد تؤدّي في جل الأحيان إلي أفكار تقلّل من ذكاء المرأة في
المجتمع. من البديهي أنّ الأفكار المبنية علي معلومات غير علمية، تكون أكيدا خاطئة،
لكن إصلاح المعلومة العلمية لا يعني بالضرورة تغيير هذه الأفكار الناتجة عنها، و
في كلّ الحالات يبدو أن الذكاء لا علاقة له بالوزن أو الحجم بل له علاقة بالشّبكات
العصبيّة الّتي يبنيها المخ في تفاعله مع التجارب الّتي يعيشها الإنسان أثناء
حياته اليومية.
تتكوّن الشّبكة العصبيّة الواحدة من مجموعة من الخلايا العصبيّة المخية
التي تتصل في ما بينها و تتعاون للقيام بمهمّة معيّنة، مثلا مهمة "تهريب اليد
عند لمس النار ". خذ مثلا: شقيقان
توأمان حقيقيان في ملجأ أيتام، تبنّتهما عائلتان مختلفتان، واحد منهما أصبح مهندسا
و الآخر طبيبا. اذا قمنا بتشريح مخيّهما، بعد موتهما الطّبيعي، فسنجد شبكات مخ الطّبيب تختلف عن شبكات مخ
المهندس رغم تماثلهما الكامل في الوزن و الحجم و عدد الخلايا و طبيعة الجينات
الوراثية.
إذن من الطبيعي جدا أن نجد فروقا بين شبكات مخ المرأة وشبكات مخ الرجل لأن
المرأة تمكث في البيت و الرجل يسافر، و المرأة تطبخ و الرجل يقرأ الصحف، و المرأة
تُزوّج و الرجل يتزوّج، و المرأة تحبل و الرجل لا يحبل، الخ...و شيئا فشيئا مخ كل
واحد منهما يختلف عن الآخر في تشعّب شبكاته و يلعب التقسيم الاجتماعي و التاريخي
بين المرأة و الرجل دورا في تكوين أمخاخ مختلفة تفرز بدورها أفكارا مختلفة، فالمخ
يؤثّر في السّلوك و السلوك يؤثّر في المخ.
مع العلم أنّ تشعب هذه الشبكات العصبية المخية لا يزيد تناسبيّا مع وزن المخ، ومخ العصافير
أكبر دليل علي ذلك فرغم صغر حجمه فهو يحتوي علي شبكات خلوية عصبية مخية معقّدة
جدّا ذات كفاءة عالية، في التغريد المطرب مثلا.
الأفكار المختلفة عند المرأة و الرجل ليست معلّقة في الهواء و لا نازلة من
السّماء، بل هي وليدة عمل مليارات الشّبكات الّتي تبنيها خلايا المادّة الشخمة في
القشرة المخيّة. ينتج نضوج المخ عن تفاعلات الموروث مع المكتسب. لن يصل ذكاء القرد
إلي ذكاء الإنسان حتى لو وضع في محيط بشريّ لأنّه ببساطة لم يرث مخ إنسان منذ
البداية.
خلاصة القول:
مخ المرأة ليس أقلّ من مخ
الرجل و ليس مماثلا له، و التصوّرات غير العلمية لا تتغيّر بعصا سحريّة، و لا
"بكن فيكون"، و لا بالعنف رجعيّا كان أو ثوريّا، و لا أوتوماتيكيا بتصحيح
المعلومات غير العلمية، و الدليل أن
المعلومة العلمية الصحيحة متوفرة في كتاب السنة الرابعة علوم تجريبية، و هي
تقول حرفيا: "يتغير وزن المخ حسب وزن الجسم". هذه التصوّرات غير العلمية
تنتقل من جيل إلي جيل عبر الموروث الثّقافي المكتسب، و في كلّ جيل تترك بصمات
بيولوجيّة في المخّ علي شكل شبكات عصبيّة
حاملة للفكر و التفكير. بعض العبارات الشعبيّة المتوارثة مثل "الرأس الكبير
للتدبير" أو نعت الأغبياء "بمخّ العصافير" تدلّ علي طول عمر هذه
التصوّرات غير العلمية و صلابتها و تجذّرها في المجتمع.
أنهي هذا المقال بطرح
الإشكالية التالية: كيف نغيّر هذه التصوّرات غير العلمية التي تبيح حقوقا للرجال و
تمنعها علي النساء حسب حجم الجمجمة لدى الجنسين؟
إمضاء
م. ع. د. م.
ك.
"الذهن غير المتقلّب غير حرّ".
لا أحد مُجبر
على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن
يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه. عبد الله العروي.
يطلب الداعية
السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج
العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض
رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و
على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي أو الرمزي.
"الكاتب منعزل
إذا لم يكن له قارئ ناقد".
عزيزي القارئ, عزيزتي
القارئة، أنا لست داعية، لا فكري و لا سياسي, أنا مواطن عادي مثلك، أعرض عليك وجهة نظري المتواضعة و المختلفة عن السائد, إن
تبنيتها, أكون سعيدا جدا, و إن نقدتها, أكون أسعد لأنك ستثريها بإضافة ما عجزت أنا
عن إدراكه, و إن عارضتها فيشرّفني أن يصبح
لفكرتي معارضين.
البديل يُصنع بيني و
بينك، البديل لا يُهدى و لا يُستورد و لا ينزل من السماء (قال تعالى: إن الله
لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) و واهم أو ديكتاتور من يتصور أنه يملك
البديل جاهزا.
تاريخ أول نشر
على النت: حمام الشط في 27 نوفمبر 2008.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire