mercredi 31 mars 2021

من حق أبنائنا علينا أن نضحي من أجلهم كما ضحى من أجلنا آباؤنا وأمهاتُنا ! (جزء 1) المؤلف مواطن العالَم والديداكتيك

 


من حق أبنائنا علينا أن نضحي من أجلهم كما ضحى من أجلنا آباؤنا وأمهاتنا، ونوفر لهم نظاما تعليميا راقيا يوازي أو يفوق النظام التعليمي الراقي والمجاني في الدول الأسكندنافية !

 

سأبدأ اليوم بالجملة التالية التي كنتُ دوما أنهي مقالاتي: "لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى". اليوم -وعلى غير عادتي- سأحاول بكل ما أوتيتُ من حجج علمية ومنطقية وعاطفية ووطنية وأخلاقية ودينية أن  أحاول فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل وأدعوكم بكل مسؤولية إلى تبني وجهة نظري التالية التي تخدم عاجلا وآجلا تربية تلامذتنا وتضمن لهم وللأجيال القادمة مستقبلا أفضل مما ينتظرهم.

 

1.            الحجة الأولى: حجة منطقية وعاطفية وأخلاقية ودينية 

1.1.          قصة واقعية شخصية

سنة 1967، وصلني الخبر وأنا في السنة الثالثة إعدادي بـابس: مات أبي، أبي كان غنيا في كهولته وفقيرا في شيخوخته، أبي علي بن صالح بن علي كشكار وما أدراك ! لم أبكه وقتها وكتمتُ دمعي مدة، وعند رجوعي إلى جمنة في عطلة الربيع انهمر المُخزَّنُ أنهارا في حضن أمي الحنون. فارقنا الأب الأكثر قسوة على الناس وعلى أمنا وعليَّ وعلى أخواتي ما عدا أخي الأصغر المدلل. مات الأنيق الذي لا يصلي إلا يوم الجمعة في الجامع الكبير والوحيد، غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر وأسكنه الرحمان فراديس جنانه. لا أعرف حتى اليوم مصدر غياب الحنين لديّ إليه، قد تكون قسوته الظاهرة، ولا أعرف أيضا مصدر ثروته الهائلة نسبيا في كهولته بالمقارنة مع الحالة المتواضعة لباقي سكان القرية في ذلك الزمن القاسي اجتماعيا، وسوف أخصه يوما بمقال يروي قصصه البطولية وكرمه الحاتمي. ورّثنا جينيا وتربويا إحساسا جامحا بعزة النفس وكرم الخلق. لم نرث من ماله إلا النزر القليل فأصبحنا نعيش في داخلنا تناقضا بين فضيلة الكرم "الساكنة في جيناتنا" وقلة ذات اليد السائدة في حياتنا ! ترك لنا منزلا نسبيا متواضعا لكنه محترم بالمقارنة مع باقي المنازل في القرية الجنوبية الفقيرة، مسقط رأسي جمنة العزيزة، وترك لنا أيضا بعض النخيل، نوع دڤلة النور وحمارا وبعض الماعز، نضع شيئا من حليبه في الشاي الأحمر الصباحي.

 

كانت أمي الكهلة تشتغل ليلا نهارا في المنزل في حياكة الحولي (البرنس الليبي) وكانت تكسب من عملها الشاق ثلاثة دنانير في الشهر (للمقارنة، لقد كان الطالب في الجامعة والمعلم في الابتدائي في ذلك الوقت يتقاضي تقريبا كل واحد منهما مرتبا أو منحة شهرية بثلاثين دينارا تونسيا).

 

كنا ثلاثة أبناء تلامذة، يدرس أكبرنا في الثانوي بتونس وأنا في الثانوي بـابس والأصغر في الابتدائي بجمنة. كنت الوحيد بين إخوتي الذي يتمتع بالسكن والأكل المجاني في مبيت تابع إلى وزارة التربية البوريبية طيلة سبع سنوات مقسمة بين 3 تعليم إعدادي بـابس و2 ثانوي بصفاقس و2 ثانوي بتونس.

 

لم تتبرم أمي يوما واحدا من وضعنا المادي المتردي ولم تفكر ولم تُشر ولو مجرد إشارة إلى إمكانية الضغط على الابن الكبير حتى ينقطع عن مواصلة دراسته ويلتفت لإعالتنا. كانت توفر لي في أول كل سنة دراسية "تروسو" كامل لتلبية طلبات المبيت الرسمية من ألبسة داخلية وجوارب بالعدد الكافي ومناشف وفرشاة ومعجون أسنان "سينيال" وميدعة أو بلوزة رمادية ومحفظة وملابس رياضية مع حذاء رياضي ضروري (كان ثمن الحذاء الرياضي 600 مليم في الستينات و يُسمى "سبيدري" غزالة. لقد سترنا ربي وقتها قبل أن يرتفع اليوم شأن هذا الحذاء ويرتفع ثمنه ويصبح اسمه "كنفارس"). كانت أمي الصبورة تسعى، تارة لللتداين من الجيران، وتارة أخرى لبيع شيء من الأثاث المنزلي القديم الموروث عن والدي الفارس المشهدي (بندقية حرب، مسدس حقيقي، سَيفان كبيران في غمديهما، آلات حرث وحصاد تقليدية، أواني طبخ نحاسية، بعض الحلي الذهبي الخالص وغيره من الأثاث القديم)، أو بيع قطعة أرض من "سانيتنا" (واحتنا الصغيرة المشجرة نخلا  وخوخا وتفاحا وزيتونا ورمانا) . وإذا ضاقت بها السبل وأعوزتها الحيل، تشد الرحال إلى بلي وتقصد حلاّل المشاكل، حاتم الطائي بشحمه ولحمه، قريبنا الفاضل، سيدي "المبروك بالريش"، أبو التلامذة الفقراء والمعوزين. ووفاءً مني لهذا الرجل الكريم الطيب رغم تواضع دخله الشهري كموظف بشركة نقل بـبلي، أعدكم أنني سأخص هذا العظيم بمقال أعدد فيه مناقبه وكرمه وبشاشته عند العطاء وتستره الكامل عند إتيان الحسنة وعدم ذكر المستفيد منها حتى لزوجته وأبنائه.

 

ماتت أمي في أوائل التسعينيات ولم نكافئها المكافأة التي تليق بها (كتمكينها من الحج مثلا) على الكثير من مزاياها وتضحياتها لكنني حاولتُ بكل جهدي أن أحفظ لها كرامتها في حياتها منذ أن تسلمتُ أول منحة جامعية ترشيحية في أكتوبر  1974 (105 دينار تونسي، منحة ثلاثة اشهر مجمّعة وكانت منحتنا الشهرية تفوق في ذلك الوقت أقل بقليل من مرتب معلم أو موظف في بنك، يعني لو حينّاها اليوم، 2011، تصبح المنحة الجامعية تساوي 600 أو 700 دينار شهريا تقريبا). أعدتُ بناء بعض منزلنا بجمنة ورممت الباقي، أدخلت للمنزل الماء والضوء واشتريت لها تلفزة بالألوان وموقد غاز عصري، أثثتُ لها البيت المتواضع أين أنهت عمرها المحفوف بالحب والعشق والاحترام من قِبل جيرانها وأندادها ونديداتها وصديقاتها وأبنائها وبناتها وأحفادها  الذين أنهكوها حبا وجريا ولهوا في المنزل وفي أزقة الحي. من أجل سوادِ عينيها وبهاء طلعتها لم ولن أعشق أحدا سواها، كنتُ أقتَطِع بكل حب حوالة بريدية بعشرة دنانير من منحتي الجامعية المرتفعة نسبيا. حوالة أمي كانت تساوي أو تفوق الحوالة التي تصل لجارتها من زوجها بفرنسا، ورغم فقرها كانت عند رجوعي للبلاد أثناء العطل المدرسية، تفاجئني ببطانية (غطاء صوفي)، صنعتها لي خصيصا بيديها الذهبيتين، غزلتها  من بقايا الصوف التي تستعمله في نسج الحولي (البرنس الليبي).

 

أكملنا الثلاثة تعليمنا بدرجات متفاوتة، أستاذ في التعليم الثانوي، معلم في التعليم الابتدائي ووكيل  في الجيش "الوطني" التونسي. ضحّت أمي الأرملة الفقيرة بنفسها وعزفت عن الزواج حفاظا على شعورنا وزهدت في الدنيا حتى توفر لنا ثمن التنقل للدراسة من جمنة إلى ابس وتونس وتضمن لنا ثمن اللباس المدرسي المتواضع.

 

وأخيرا أتساءل: هل الدولة التونسية  بثرواتها الطبيعية، أقل حكمة من أمي وأعجز منها على التضحية في سبيل أن توفر لأبنائها نظاما تعليميا راقيا يوازي أو يفوق النظام التعليمي في الدول الأسكندنافية ؟

 

ملاحظة

كانت أمي في ذلك الوقت في مستوى متدني من الفقر، حرمت نفسها من اللقمة الطيبة لتوفر تذكرة نقل وأقلاما لأبنائها ولم يمنعها فقرها من التضحية بكل شيء لتوفير تعليم جيد لأبنائها. هذا النوع والمستوى العظيم من التضحية ونكران الذات الذي توفر في والدتي متوفر أيضا في جل والدات وآباء كل التلامذة التونسيين الفقراء في الستينيات، أطالب أن يتوفر مثله أو أحسن منه  الآن في الدولة التونسية الفقيرة نسبيا وأطالب هذه الدولة الوطنية التي ستنبثق من انتخابات 23 أكتوبر  2011 أن تضحي من أجل أبنائها وتضمن لهم تعليما راقيا كنظام التعليم في الدول الأسكندنافية رغم أنني أعلم جيدا و لست غافلا  عن الفرق الهائل بيننا وبين الحالة المادية للدول الأسكندنافية التي لا يمكن مقارنتها بالظروف المادية لبلدنا تونس خاصة في الظرف الراهن بعد الثورة (2016، خيبت هذه الحكومة آمالي وسفهت أحلامي وكذلك فعلت التي تلتها والتي أتت بعدها وفقدتُ الأمل في التي سوف تليها).

 

المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حمرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 221-225).

 

إلى المنشغلين والمنشغلات بمضامين التعليم:

نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط التسلم في مقهى الشيحي أو نسخة رقمية لمَن يرغب فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire