على سبيل الذكر لا الحصر، سوف
أعرض عليكم أيها المنشغلون بالشأن التربوي الأعزاء ثلاث عشرة نقطة مقتضبة تُشكك في
جدوى الفروض التأليفية والامتحانات الوطنية (الباكلوريا والسيزيام والنوفيام
والنموذجي):
1. المقوِّم أو المقيِّمُ التونسي عموما (l`évaluateur: معلم
أو أستاذ ثانوي أو أستاذ جامعي أو متفقد) لم يتلقَّ أي نوع من التكوين الأكاديمي
في علم التقييم-science
de l`évaluation
(يعني متحصل على شهادة جامعية وليس شهادة مشاركة في تربص)، لذلك أشبِّهه بتاجر
يبيع سلعة دون ميزان. هو لا يتقن طرح الأسئلة ولا يقدّر الوقت الكافي لإجراء
الامتحان ولا يحسن إعداد مقياس موضوعي لإسناد الأعداد (barème ).
توجد في العالم أربعة نماذج
لنظام التفقد البيداغوجي: نموذج التفقد الكلاسيكي (مطبّق في البلدان الفرنكوفونية
ومنها تونس)، نموذج التفقد المركزي (مطبّق في البلدان الأنڤلوسكسونية ومنها
بريطانيا)، نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب (مطبّق في الشيلي)،
النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية (مطبّق في البلدان
الأسكندنافية ومنها فنلندا). ومن سوء حظنا في تونس اختار خبراؤنا الأشاوس أسوء
نظام فيها.
2. هل يُعقل أن يقيّمَ المقيِّمُ
عملَه ويصلِح فروضَ تلاميذه مكتوبة عليها أسماؤهم ؟ من الأفضل أن يأتي المقيِّمُ
من خارج المدرسة ويصلح أوراقا مخفية الأسماء حتى نضمن أكبر قدر من الموضوعية
ونقلّل قدر المستطاع من الاعتباطية في تحديد العدد (تجربة علمية وقعت في فرنسا:
نفس الفرض نال تنقيطا مختلفا بعد ما أصلحه عدة أساتذة وقد وصل الفارق في المواد
العلمية إلى خمس نقاط) ونتجنب التأثير السلبي لحسن النية والعاطفة الأبوية أو
الأمومية عند المدرس أو المدرِّسة واستغلال المحاباة والقرابة والمحسوبية والرشوة
المقنعة بالدروس الخصوصية (étude) عند
إسناد النقاط لتلامذة المقيِّمِ نفسه
وكأنه يسندها حسب هواه:
Albert
Jacquard a dit: “il ne faut pas catégoriser l`intelligence des apprenants”.
3. قبل إلغاء الأسبوع المغلق سنة 2016-2017، كان تلميذ
الإعدادي والثانوي يخسر سنويا ستة أسابيع من ساعات التكوين ليخصصها للتقييم: كل
ثلاثي تخصص الوزارة أسبوعا مغلقا لإجراء الامتحان وأسبوعا ثانيا لإصلاح الامتحانات
في القسم، الأول يضيع في تكرير ما حفظه التلميذ دون تفكير كالببغاء أما الثاني فلا
يحضره إلا النجباء منهم وهم قلة بالرغم من أن
إصلاح الامتحان يفيد ويكوّن التلميذ أكثر من إجراء الامتحان نفسه.
4. وبعد هذا المجهود البشري الكبير والتبذير في
المال العام وفي الوقت المقتطع من التكوين لصالح التقييم: ألا تصطدم الوزارة برفض
قبول باكلوريتها التونسية في الجامعات الأجنبية والجامعات الخاصة التونسية (جميعها
تجري تقييما داخليا خاصا لقبول طلبتها من بين المترشحين الحاصلين كلهم على
الباكلوريا) ؟ ألا تنزعج من رفض معادلة شهادئدها من قِبل جل الجامعات الغربية ؟
ألا يخجلها ترتيبها في المسابقات العلمية العالمية ؟ ألا يدعوها هذا التقييم
العلمي الخارجي إلى مراجعة نظامها التقييمي ؟
5. يتعامل المقيِّمُ (l`évaluateur: معلم،
أستاذ) عندنا مع التلميذ كما
يتعامل عالم النفس السلوكي مع فأر المخبر: إثارة فَجواب. لا يعلّم الأستاذُ التلميذَ
صياغة السؤال بل يلقنه فقط حفظ الجواب ويبدو لي أن تعلمَ صياغة السؤال من قِبل
التلميذ قد يفيده أكثر من ترديد جواب الأستاذ.
6. يطوّر ويقيّمَ المقيِّمُ
عندنا نوعا واحدا من الذكاء لدى التلميذ (الذكاء الفكري intellectuel) ويهمل الأنواع الأخرى
كالذكاء العملي والفني وغيره.
7. يبدو لي أن الامتحانات ليست ضرورية أو ملازِمة
للتكوين والدليل: بعض الميكانيكيين وبعض البَنَّائين المهرة وبعض النساء التونسيات
الطباخات الماهرات في الأفراح وبعض الرياضيين (les pratiques sociales de référence sans savoir savant) وبعض الفلاسفة والأدباء العظام والرسّامين والممثلين
والموسيقيين والنحّاتين لم
يدخلوا مدرسة ولا جامعة ولم يجتازوا في حياتهم أي امتحان.
8. عديد الدول المتقدمة تخلت أو قللت من إجراء
الامتحانات ونحن على العكس نطالب -عن جهل بالنظريات التعلمية الحديثة- بإرجاع
امتحانات السيزيام والنوفيام وتشديد في الباكلوريا (حذف الــ25 في المائة) بعد ما كنا في السبعينيات نطالب بحذفها لأنها تكرس
سياسة الانتقاء وتمنع دمقرطة التعليم وتعرقل التحاق أكثر أبناء الفقراء بالجامعة.
9. في امتحان الفيزياء والرياضيات وعلم الوراثة،
نمتحن ونحاسب التلميذ على مدى قدرته على توظيف المعلومات لحل مسألة لم تُطرَح عليه
من قبل وليس على حفظها. فلماذا إذن لا نسمح له بإدخال ورقة تحوي كل القواعد التي
قد يحتاجها لحل المسألة العلمية (fausse copie légalisée par l`évaluateur en place) ؟ وفي امتحان الإنشاء، نمتحن
ونحاسب التلميذ على مدى قدرته على توظيف الاستشهادات الشعرية والنثرية لتأليف نص
أدبي لم يُطرَح عليه من قبل وليس على حفظها. فلماذا إذن لا نسمح له بإدخال ورقة
تحوي كل الاستشهادات التي قد يحتاجها لتأثيث وإثراء موضوعه ؟ الهدف من التعليم ليس
اصطياد الخطأ بل الاستفادة منه وأشهر العلماء تعلموا من أخطائهم وأخطاء مَن سبقوهم
في العلم.
10.
بيداغوجيا المشروع العلمي
تكوّن التلميذ وتدرّبه مبكّرا على البحث العلمي وتُجنّب الأستاذ امتحانه ومراقبته
طوال السنة الدراسية وفي آخر العام يقدم التلميذ
عرضه أمام لجنة وكأنه مرشح لنيل شهادة الماجستير أو الدكتورا.
11.
في فنلندا، التي تُعَدُّ
من أنجح الأنظمة التربوية في العالم: يأتي التلميذ إلى الامتحان، يدخل قاعة
الامتحان، يقرأ الأسئلة، وإذا لم يكن جاهزا لإجراء الامتحان لأي سبب كان، يستأذن
من المراقب ويغادر فيُعيَّنُ له موعدٌ لاحقٌ لاجتياز امتحانه في ظروف أفضل دون سؤاله
عن السبب.
12.
يبدو لي أن التقييم
التكويني (l`évaluation
formative) هو أفضل تكوين ويستطيع الأستاذ هنا أن يقوم بدور المكوّن
و المقيّم في آن (le formateur- évaluateur) لأن هذا التقييم ليس تقييما
إشهاديا (الامتحانات الوطنية و الفروض évaluation certificative). التقييم التكويني يُوظف فيه التقييم من أجل التكوين الأساسي وليس التكوين
الظرفي الانتهازي لتحضير التلميذ للتقييم وكأنه حصان يُهيأ للسباق. ليس من أهداف
التعليم أن يتفوق تلميذٌ على تلميذٍ ويأتي قبله في المعدل أو الترتيب بل الهدف أن
نهيئ للجميع فرص التكوين الجيد ولكلٍّ حسب مكتسباته وموروثاته.
خلاصة القول
في
تونس حرِصت الدولة والأولياء على التقييم الإشهادي للتلامذة فأهملنا التكوين دون
قصد وفقدت شهاداتنا الثانوية والجامعية الكثير من قيمتها العلمية في بورصة العلم
والكثير من قيمتها التشغيلية في سوق الشغل في الداخل والخارج. وكل إصلاح تربوي لا يخدم
التلامذة الذين يتعرضون إلى صعوبات في التكوين لأسباب تعلّمية أو مادية أو
اجتماعية ليس إصلاحاً جذرياً !
المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في
النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حمرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 155-160).
إلى المنشغلين والمنشغلات
بمضامين التعليم:
نسخة
مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط
التسلم في مقهى الشيحي أو نسخة رقمية لمَن يرغب
فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire